الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عاطفة الوالدة، وقد أشرق عليها وجه وليدها وقرة عينها!
وعاطفة الزوجة، فَقَدتْ زوجها الحبيب؛ ولكنها تتمثله وترى وجهه في وجه هذا الوليد الحبيب!
وتغلّبت عاطفة الأمومة الحانية على عاطفة الزوجيّة الودود، وضمت آمنة وليدها إلى صدرها، واختلطت عليها الأحاسيس، واستنار وجهها!
حتى أهلّ على مكة موسم المراضع، فقدم السعديات إليها يطلبن الرُّضّع، وفيهن حليمة فكان الرسول نصيبها، وكانت هي من حظه، وحملته وارتحلت به إلى باديتها، وكان الصدر الذي يضمه ليس صدر آمنة أمّه، ولكن صدر حليمة ظئره، وفرق كبير بين العاطفتين:
عاطفة الأمومة الوالدة!
وعاطفة الأمومة المرضعة!
فحُرم حنان أمه بعد أن مضى القدر فحُرم عطف أبيه!
وذلك لون من اليتم الجديد، قضت به العادات المتوارثة فيما بين العرب، فهو قد حُرم عاطفة الأبوّة المُشفقة، وبُوعد عن عاطفة الأمومة الحانية، ونشأ بعيداً عن بَلده وقومه، وبلده حاضرة البلادَ العربيّة، لها من طبيعة الحواضر ما يَسمُها بوسم اللين والدعة، وقومه أهل شرف وسيادة في بلده، وللشرف والسيادة آثارهما على الأخلاق والتطبّع وتوجيه الغرائز والسلوك!
انفعال الخواطر:
لقد نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في بادية بين قوم من العرب عُرفوا بصفاء البيان، وفصاحة اللسان، وقد ضاق عيشهم، وعصفتهم السنون، يعيشون في بادية
ضاحية الأديم، تصهرها الشمس إذا أسفرت، وتتلألأ في سماء لياليها النجوم الزواهر، ويضيئها القمر المنير، ويزمجر في أرجائها الرعد، ويلمع في آفاقها البرق، وتَهْدر في وديانها العواصف، وتطبعها الحياة بطابع قاس متقلب، تنتشر على صفحتها هنا وهناك خيام يأوي إليها فئام من الناس إذا هجع الليل، أو هجّر النهار، يسرحون بالبُهم يرتادون لها المراعي وظلال الشجر ومجتمع الأنهار والغُدُر، ومساقط الغيث ومنابت الكلأ، وذلك هو كل ما يشغل أهل هذه البيئة، وفيما سواه فراغ لا يملؤه من العمل كثير ولا قليل، فهي بيئة تدعو إلى التأمل والتفكر، وتقليب النظر في ملكوت الله تعالى ومظاهر الوجود!
ماذا وراء هذا الفضاء الكبير الأفْيَح؟
وما هذه القبّة الزرقاء المتعاظمة في سعة آفاقها؟
وما هذه السابحات المتلألئات في أديمها؟
وما هذا الجرم الفضي الذي يبعث على هذه الأرض بأنواره المظلة بنسائم الأسحار؟
وما هذا اللهب المنبعث مع خيوط الضياء الوهاج، من الجرم النهاري السابح في آفاق السماء؟
وما الذي يمسك ذلك ويديره على هذا النظام المحكم البديع؟
وما هذا الصوت الهائل المزعج الذي يصحب دائماً الغيث مبشّراً أو نذيراً؟
وما هذا الضوء الخاطف بلمعانه في أطراف السماء؟
وما هذه العواصف المزمجرة؟ وما الذي يهيجها ويحرّكها؟
وما هذه النباتات والأشجار في أشكالها وألوانها وروائحها وطعومها؟ من أين جاءت، وكيف نبتت؟