الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فظيع، واستبداد سياسي شنيع، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر، التي كانت مصدراً كبيراً لرخاء الدولة وغناها، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يحسنون حلبها، ويسيئون علفها (1)!
أما سورية -ولاية الإمبراطوريّة البيزنطيّة الأخرى- فكانت مطيّة المطامع الرومانيّة، وكان الحكم حكم الغرباء الذي لا يعتمد إلا على القوة ولا يشعر بشيء من العطف على الشعب المحكوم، وكثيراً ما كان السوريّون يَبيعُون أبناءهم ليوفروا ما عليهم من ديون، وقد كثرت المظالم وكثر الرقيق (2)!
6 - الإمبراطوريّة الإيرانيّة:
وقد كانت أعظم من الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة، بعد انشقاقها عن الإمبراطوريّة الرومانيّة الكبرى مساحة وأبهة وثروة، وقد تأسست على يد (أردشير) في سنة 224 م، وكانت تحكم حين بلغت أوجها: أسبرية، وخوزستان، وميديه، وفارس، وأذربيجان، وطبرستان، وسرخس، وجوزجان، وكرمان، ومرو، وبلخ، وسفد، وسيستان، وهرات، وخراسان، وخوارزم، والعراق، واليمن، وقد دخلت بعض ولايات الهند، مثل: كجه، وكاتهياوار، ومالوه، في حكمها في بعض الفترات، وقد اتسعت هذه الإمبراطوريّة اتساعاً كبيراً في القرن الرابع المسيحي، وأوغلت في الشمال والشرق، وبلغت إلى أقصى حدودهما!
وكانت طيسيفون (المداين) عاصمة الإمبراطورية، ومقر الإمبراطور
(1) انظر: (فتح العرب لمصر): (الفرد بتلر)، وتاريخ العالم للمؤرخين: جـ 7.
(2)
انظر: (خطط الشام): كرد علي: 1: 101.
الإيراني، وكانت مجموع مداين كما يبدو من اسمها العربي، وبلغت أوجها في الرقي والمدنية والبذخ، في القرن الخامس إلى ما بعد (1)!
وكانت الزرادشتية -وهي التي خلفت المزدكية- دين إيران القديمة، ومن المرجح أن (زرادشت) قد ظهر في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت مؤسسة منذ أول يومها على الحرب القائمة بين النور والظلام، وبين روح الخير وروح الشر، أو بين إله الخير وإله الشر!
وجاء (ماني) في أوائل القرن الثالث المسيحي مجدداً لهذه العقيدة، مضيفاً إليها (2)، وتبعه (شاه بور) الذي خلف (أردشير)(241 م) مؤسس الدولة الساسانيّة، واحتضن دعوته ثم أصبح معارضاً له، فقد كان (ماني) يدعو إلى حياة العزوبة، لحسم مادة الفساد والشر من العالم، ويعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر، يجب الخلاص منه، فحرم النكاح استعجالاً للفناء، وانتصاراً للنور على الظلمة، بقطع النسل، وقضى أعواماً في النفي، ثم عاد إلى إيران، وقتل في عهد (بهرام الأول) ولكن تعاليمه لم تمت، بل بقيت تؤثر في التفكير الإيراني، والمجتمع الإيراني، مدة طويلة!
وظهر (مزدك) في أوائل القرن الخامس المسيحي، فدعا إلى إباحة الأموال والنساء، وجعل النساء شركاء فيها، وقويت دعوته، وكان الناس يدخلون الرجل في داره، فيغلبونه على منزله وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وقد جاء في وثيقة إيرانيّة تاريخيّة، تعرف بـ (نامه تنسر) تصوير لذلك العصر الذي انتشرت فيه الدعوة المزدكية، وكانت لها السيطرة والنفوذ:
(1) راجع (إيران في عهد الساسانيين): البروفيسور آرتهر كرستن سين.
(2)
انظر تعليمات (ماني) ودعوته وفلسفته: المرجع السابق: الباب الرابع: النبي ماني وديانته: 233 - 269.
(وانتهكت الأعراض، وعم خلع العذار، لقد نشأ جيل لا كرامة فيه ولا عمل، ولم يكن له رصيد، ولا ماض مجيد، وليس لهم هم لمصير الشعب، ولا إشفاق عليه، ولا يتصف بكمال ومهارة، كانت تسيطر عليهم اللامبالاة والبطالة، وكانوا بارعين في النميمة، والخبث، والافتراء، والبهتان، وقد اتخذوا ذلك وسيلة لكسب القوت، والوصول إلى الثروة والجاه)(1)!
ويقول (أرتهركرستن سين): (كانت النتيجة أن انتشرت ثورات الفلاحين، وكان النهابون يدخلون إلى قصور الأغنياء، وينهبون ما يجدون فيها من أموال وأثاث، ويلقون القبض على النساء، ويستولون على الأملاك والعقارات، فأصبحت الأراضي والمزارع مقفرة خربة؛ لأن هؤلاء الملاك الجدد لم يكن لهم عهد ولا معرفة بالفلاحة)(2)!
ظهر من ذلك أنه كان في إيران القديمة استعداد عجيب دائماً لقبول الدعوات المتطرفة الغالية، وكانت دائماً تحت تأثير ردود فعل عنيفة، وكانت تتأرجح بين (أبيقورية)(3) جامعة، وتنسك مغال حيناً، وبن احتكار سلالي، أو طبقي، أو ديني، وشيوعية متطرفة، وفوضوية مطلقة حيناً آخر، أفقدها هذا التاريخ الاتزان والاقتصاد والهدوء!
وكانت الأحول سيئة جداً في هذه الإمبراطوريّة الساسانية، في القرن السادس المسيحي، فكانت تحت رحمة الملوك الذين كانوا يحكمون بالوراثة، ويرون أنفسهم فوق الناس، وفوق بني آدم، وكانوا يخاطبون بكلمة (الإله)،
(1) انظر (نامه تنسر) ط. مينوي: 13.
(2)
إيران في عهد الساسانيين: 447.
(3)
مذهب (أبيقور) الفيلسوف الإغريقي الذي قال بأن المتعة هي الخير الأسمى.
وتضاف إليهم كلمة الألوهيّة بطريق مكشوف، وكان الإمبراطور (الإنسان الأول) وكان لا يسمى باسمه عند الخطاب، وكان يعتبر من نسل الآلهة (1)!
وكانت موارد البلاد كلها ملكاً لهؤلاء الملوك، وقد تطرفوا في اكتناز الأموال، وادخار الطُّرَف، والأشياء الغالية، والتأنق في المعيشة، والتمتع بالحياة، وقد وصل الولوع بالتلذذ، وترفيه الحياة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة، إلى حد الخيال والشعر، لا يتصوره إلا من توسع في تاريخ إيران القديمة، وشعرها وأدبها (2)، واطلع على تفاصيل مدينة (طيسيفون) وإيوان كسرى، وبهار كسرى (3)(بساط الربيع)، وتاج كسرى، وما كان يختص بملوكهم من خدم وحشم، وزوجات وجوار، وغلمان وطهاة، وما كان للطيور والسباع، وأوان وقنص، التفاصيل الأسطورية التي يدهش لها الإنسان (4)، وقد بلغ ذلك إلى حد أن (يزدجرد) آخر ملوك إيران لما خرج من عاصمته (المداين) هارباً ينجو بنفسه من الفتح الإسلامي، أخذ معه -وهو في حالة الفرار- ألف طاه، وألف مغنٍّ، وألف قيم للنمور، وألف قيم للبزاة، وحاشية أخرى، وكان يستقل هذا العدد، ويعتبر نفسه لاجئاً فقيراً، ويتصور أنه في حالة يرثى لها من قلة الحاشية، وفقدان أسباب الترفيه والتسلية (5)!
هذا بجانب ما كان يعانيه الشعب من بؤس وشقاء، وتعب وعناء، وتذمر وبكاء، فكان أفراد هذا الشعب في جهد من العيش للحصول على ما يسد
(1) إيران في عهد الساسانيين: 339.
(2)
اقرأ المرجع السابق: 161 - 162.
(3)
راجع تاريخ الطبري: 4: 178.
(4)
راجع تاريخ إيران: شاهين مكاريوس: 90 ط. 1898 م.
(5)
راجع إيران في عهد الساسانيين: 681.