الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التهم والمغامز التي وجهوها إليه، ومن الغريب كذلك ألا يخطر ببالهم، أن ينعموا النظر، أو لعلهم عجزوا عن إنعام النظر، في الآيات القرآنية، والأحاديث النبويّة، ليكفُوا أنفسهم مؤونة هذه الحيرة أو هذا التشكيك، والتحويم الذي يحلو لهم حول كثير مما ورد في شأن النبي صلى الله عليه وسلم!
أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم
-:
وهذا يدعونا إلى أن نبصر النبعة التي انشقت عنه صلى الله عليه وسلم (1)، ونعرف ماذا كان لها في شخصيته من أثر وراثي، أو أثر اجتماعي!
عبد مناف وزهرة:
وننظر إلى الفرعين الفارعين، والغصنين الزاكيين:(عبد مناف)، و (زهرة) اللذين انفرجا عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبد مناف غصن من الدوحة القرشيّة، زكا وأينع، فأثمر لسيدها عبد المطلب ابنه (عبد الله) وزهرة غصنها الذي زها ونما، فأثمر لوهب سيدها ابنته (آمنة)!
وهاتان الثمرتان ضمّهما القدر المغلّف بأسرار الغيب على وساد من الحب الشفيف، واللقاء الشريف، في سنة فطرية للزواج بين كرام العرب معروفة، وشرعة إلهيّة -منذ كان الناس- مقدورة، فكان منهما محمد رسول الرحمة للعالمين!
وكان فرع عبد مناف أمجد أغصان دوحة قصي، وأعلاهم كعباً في السيادة والشرف، وقد شرف في زمان أبيه (2)، وذهب كل مذهب، وقد اجتمعت
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 54 وما بعدها بتصرف.
(2)
انظر: تاريخ الطبري: 1: 505.
قريش على عبد مناف، وصيّرته أمجاده دوحة في نساب المكارم، فكان أصلاً انتهى إليه محور القربى في تحديدها الإسلامي (1)، وعليه كان قول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان القرابة في قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} !
فقد روى مسلم عن قبيصة بن المخارق، وزهير بن عمرو، قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} !
قال: انطلق نبيّ الله إِلى رَضْمَةٍ (2) من جبل، فعلا أعلاها حجراً. ثم نادى:"يا بني عبد منافاه! إِني نذير. إِنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ (3) أهله. فخشي أن يسبقوه. فجعل يهتف: يا صباحاه"(4)!
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} !
قال: "يا معشر قريش! -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً"!
(1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 74.
(2)
الرضمة: حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض، كأنها منثورة.
(3)
يربأ: يحفظهم ويتطلع لهم، ويقال لفاعل ذلك: ربيئة، وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم، لئلا يدهمهم العدو، ولا يكون في الغالب إلا على جبل أو شرف أو شيء مرتفع، لينظر إلى بُعد.
(4)
مسلم: 1 - الإيمان (207).
وفي رواية:
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعمّ وخص، فقال:"يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد الطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار. فإِني لا أملك لكم من الله شيئاً. غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها (1) "!
وهذا يكفي سنداً لوقوفنا عند (عبد مناف) في تطلّب الأصل القريب، الذي ترجع إليه شخصيّة محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم بالوراثة، في بعض الخلائق والسجايا (2)، فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مقام بيان القرابة التي لها المقدمة في الإنذار، حسماً للأطماع، والتي أوثرت من قبل الله العلي الأعلى بالسبق، لتعتمد على وشائج القربى في حميّتها، لحماية دعوته وحمايته، لتجاوب ما بينه وبينهم من المشاركة في خصائص تنزع إلى عرق واحد - قد سلك مسلك التدرجّ في التخصيص، حتى إذا بلغ مجتمعها الحافل، رآها سويّةً في (عبد مناف)، فأخبرهم أنهم أخصّ من يجتمع به في عرق من قريش!
(1) البخاري: 65 - التفسير (4771)، ومسلم: 1: الإيمان (204، 206)، وأحمد: 2: 233، 360، 361، 519، والترمذي (3184، 3185)، والنسائي: 6: 248، 249، والبيهقي: 6: 280، والبغوي في شرح السنة (3744)، وابن حبان: الإحسان (646).
(2)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 56 وما بعدها بتصرف.
ولهذا التدرّج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمّ إلى الأخصّ حكمة لطيفة، تبيّن أن الخصائص المشتركة بين فروع الأصل الواحد موزّعة على الفروع كلها بنسب متفاوتة!
ولكنها قد تنتهي مجتمعة عند فرع ينزل منها منزلة القلب من الشجرة، وذلك الفرع هو الذي يسقي الأغصان المتفرّعة عنه يجمع مواد الخصائص السابقة واللاحقة!
وهذا التفسير العملي للقرابة -في هذا المقام- يوحي بأن (عبد مناف) هو الفرع القرشي الذي تحدرت إليه جداول الخلائق الموروثة من أعراق آبائه!
وهو الذي تقاطر فيه غيث (قصي) وأمجاده، وانتهت إليه خصائصه، فنبل وساد ومجد في حياة أبيه، على رغم صغر سنه، وعلى رغم وصية أبيه لأخيه أكبر (عبد الدار) بكر (قصي)، بما كان لـ (قصي) من مناصب السيادة والشرف، وترك (عبد مناف) لهمته وفواضله!
روى ابن الأثير قال: لما كبر (قصي) ورقّ، وكان ولده (عبد الدار) أكبر ولده، وكان ضعيفاً، وكان (عبد مناف) قد ساد في حياة أبيه، وكذلك إخوته، فقال (قصي) لـ (عبد الدار): والله! لألحقنك بهم، فأعطاه دار الندوة، والحجابة -وهي حجابة الكعبة- واللواء، فهو كان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية كان يسقي الحجيج، والرفادة وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى (قصي) بن كلاب، فيصنع منه طعاماً للحجاج، يأكله الفقراء!
لكن بني (عبد مناف) لم يرضهم أن تذهب منهم مكرمتا الجود والبذل،
والسقاية، والرفادة، فانتزعوها من بني (عبد الدار)، وتركوا لهم من شارات المجد ما سواهما، حتى جاء الإسلام، فأقرّ حجابة الكعبة في بني (عبد الدار)(1)!
وهو يشير بذلك إلى أن اللواء صار في الإسلام مرتبة من مراتب المسلمين عامة، ولم يعد منصباً من مناصب أمجاد (قريش)، بل ولا عامة العرب، فانتزعه منهم، وجعله لعامة المسلمين، وأقرّ السقاية والرفادة في بني (عبد مناف) يتوارثها الخلف منهم عن السلف، حتى أدركت أبا جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، وتعاقبها الخلفاء من بعده!
أما (زُهرة) الجدُّ الأعلى للسيدة (آمنة) أم خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، فهو الأخ الأكبر لـ (قصي) والد (عبد مناف)، وقد أقام (زُهرة) بمكة حياته كلها، لم يفارقها ولم يرحل عنها!
ولما رجع (قصي) من بلاد قضاعة تعرف إليه فعرفه وأدناه، ولم يزل ولده مع ولده لا يفارقونهم، يدخلون معهم في كل حلف، ويشاركونهم فيما يقومون به من عمل!
وكان (بنو زُهرة) شركاء (بني عبد مناف) في نصيبهم عند تجزئة الكعبة لبنائها!
وهذا الترابط الذي كان بين (زهرة) و (عبد مناف) هو الذي يوحي بجعل فرعيهما في قريش ملتقى ما تنقله الوراثة من الخصائص الإنسانيّة المنسابة مع تيار التوالد في الأشخاص!
بيد أن هناك فرقاً بين فرعي (عبد مناف)، و (زهرة)، في مقدار ما عند كل
(1) انظر: ابن الأثير: 2: 10.