المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌10 - الدور الثاني للرسالات: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٢

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«بشارات النبوة وميثاق النبيين»

- ‌مقدمة

- ‌العصر الجاهلي

- ‌1 - أحط أدوار التاريخ:

- ‌2 - الصحف السماويّة في ميزان العلم والتاريخ:

- ‌3 - العهد القديم:

- ‌المرة الأولى:

- ‌والمرة الثانية:

- ‌والمرة الثالثة:

- ‌شواهد من دائرة المعارف اليهوديّة:

- ‌4 - العهد الجديد:

- ‌شهادة إيتين دينيه (ناصر الدين)

- ‌وأداه بحثه في الأناجيل، وقيمتها التاريخيّة إلى قوله:

- ‌شواهد داخلية:

- ‌5 - الإمبراطوريّة الرومانية الشرقية:

- ‌6 - الإمبراطوريّة الإيرانيّة:

- ‌7 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}:

- ‌8 - الجزيرة العربية:

- ‌9 - أوروبا:

- ‌10 - ظلام مطبق وليل دامس:

- ‌11 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}:

- ‌12 - الحاجة إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بشارات النبوّة

- ‌تمهيد:

- ‌1 - البشارة الأولى:

- ‌2 - البشارة الثانية:

- ‌3 - البشارة الثالثة:

- ‌4 - البشارة الرابعة:

- ‌5 - البشارة الخامسة:

- ‌6 - رواية البخاري وغيره لصفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة:

- ‌7 - أشهر أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌8 - أسماؤه في الشعر:

- ‌9 - ميثاق النبيّين:

- ‌10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌خصائص الجزيرة العربيّة

- ‌تمهيد:

- ‌1 - البيت الحرام:

- ‌2 - دعوة إبراهيم عليه السلام:

- ‌3 - أنبياء في الجزيرة:

- ‌4 - صفات العرب:

- ‌5 - وحدة اللغة:

- ‌6 - الموقع الجغرافي:

- ‌7 - حرم الإسلام:

- ‌أصحاب الفيل

- ‌تمهيد:

- ‌1 - {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}

- ‌2 - موقف الإيمان وموقف العقل:

- ‌3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها:

- ‌4 - دوافع المدرسة العقليّة:

- ‌5 - دروس وعبر:

- ‌6 - مكانة العقل:

- ‌7 - دور الرسالات في قيادة العقل:

- ‌8 - سطوة الغرائز:

- ‌9 - الدور الأول للرسالات:

- ‌10 - الدور الثاني للرسالات:

- ‌11 - المعجزة الكبرى:

- ‌من الميلاد إلى البعث

- ‌تمهيد:

- ‌1 - النسب الشريف:

- ‌تعريض الدكتور طه حسين:

- ‌تعريض المستشرقين:

- ‌أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌عبد مناف وزهرة:

- ‌هاشم:

- ‌الرفادة والسقاية:

- ‌عبد المطلب:

- ‌والد النبيّ:

- ‌حفر زمزم:

- ‌روى ابن إسحاق وغيره بسند حسن ذكر حفر زمزم، قال:

- ‌نَذْر عبد المطلب:

- ‌قصيدة أبي طالب:

- ‌قصيدة العباس:

- ‌قصيدة الناشئ:

- ‌يقول الحافظ ابن كثير:

- ‌قصيدة الخطيب:

- ‌شرف نسب النبي:

- ‌وُلد الهُدى:

- ‌2 - التربية الإلهيّة:

- ‌شق الصدر:

- ‌موقف عجيب:

- ‌السنن العامة والخاصة:

- ‌آيات الله:

- ‌وهنا يتساءل العقل الإنساني:

- ‌ثم يتساءل العقل مرة أخرى:

- ‌منهج القرآن:

- ‌قصة زكريا:

- ‌مريم وعيسى:

- ‌إبراهيم وسارة:

- ‌العقل والعلم:

- ‌وجوب التسليم:

- ‌حقائق التاريخ:

- ‌عاطفة الأمومة:

- ‌انفعال الخواطر:

- ‌حياة الصحراء:

- ‌صلة الرحم:

- ‌يُتم يلاحقه يتم:

- ‌أم أيمن:

- ‌كفالة عبد المطلب:

- ‌كفالة أبي طالب:

- ‌3 - المسؤوليّة والإيجابيّة:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم:

- ‌قصة بحيرى الراهب:

- ‌أثر هذه الرحلة:

- ‌تهافت المستشرقين:

- ‌حماية الله للنبي:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد حلف الفضول (المطيّبين):

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يتزوج خديجة:

- ‌أغنى الله اليتيم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل في بناء الكعبة:

- ‌4 - التكامل المحمدي:

- ‌تكافؤ الخلق:

- ‌خصال الكمال:

- ‌يقول الشيخ أبو زهرة:

- ‌العقل المحمدي:

- ‌قال القاضي عياض:

- ‌ولقد قال وهب بن منبه:

- ‌وقال ابن كثير:

- ‌بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الخلق الكامل:

- ‌وصف هند بن أبا هالة:

- ‌الصفة الأولى:

- ‌الصفة الثانية:

- ‌الصفة الثالثة:

- ‌الصفة الرابعة:

- ‌الصفة الخامسة:

- ‌الصفة السادسة:

- ‌الصفة السابعة:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء:

- ‌البعد الأخلاقي:

- ‌مراتب التعليم:

- ‌هذا حراء:

- ‌معالم على الطريق:

- ‌بين ميلادين:

- ‌قبس من الإيمان:

الفصل: ‌10 - الدور الثاني للرسالات:

أوليّات من الحقائق، يحمل عليها مثيلاتها بضرب من القياس والتشبيه، ومن هذه الحقائق تتولد القضايا العقلية المنتزعة من الوجود المشهود انتزاعاً مباشراً أو غير مباشر!

و (العقل) الإنساني في هذا الدور العجيب يجب أن يكون خاضعاً للرسالات الإلهيّة، آخذاً عنها، فهي التي تمده وترشده وتهديه، فإذا استجاب لها أمن العشار والزلل، وإذا تأبّى عليها وقع في أغلال الغرائز، وانقلب عمله إلى استجابات ماديّة تصب المعارف العليا في قوالب وثنيّة تعتمد على التشبيه والتصوير .. وتاريخُ الفلسفات والأديان مليء بالشواهد الصادقة على ذلك!

‌10 - الدور الثاني للرسالات:

وعاشر ما يطالعنا: أن الدور الثاني للرسالات دور مؤاخاة (العقل) ومظاهرته، حتى يتغلّب على جموح الغرائز ويكفكف من حدّتها، ويطامِنَ مِنْ غرورها، ويقلل من اندفاعها، ويوجّهها وجهة صالحة، دون كبت يميتها أو انطلاق يفسدها!

ومجال هذا الدور هو الحياة الواقعيّة التي يحياها الأفراد والجماعات، وتحديد علاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الجماعة بالجماعة، بل علاقة الفرد والجماعة بالحياة والأحياء، وتنظيم هذه العلاقات على أسس من العدل، تعطي كل ذي حق حقه، وتشيع بين الأحياء الثقة والاطمئنان والتعاطف، والتواسي والمحبّة والإخاء!

و (العقل) الإنساني في هذا الدور يجب أن يكون هو المسيطر على الغرائز

ص: 413

يقودها بحكمته، ويوجهها بسياسته، والرسالات الإلهيّة هي المرشد العليم، والمستشار الأمين، والناصح الحكيم، وعلى ضوء إرشادها ونصحها ومشورتها يسير (العقل) في طريقه مؤدياً واجبه على أكمل وجه في الحياة!

ولقد مرت الإنسانيّة بأطوار متعددة، اختلفت عليها في تلك الأطوار الرسالات الإلهيّة، فكانت فيها معالم للتاريخ على تلك الأطوار، وكانت كل رسالة بداية لطور ونهاية لآِخر .. وقد احتفظت تلك الرسالات بخصائص ومميّزات، هي في الواقع -خصائص ومميزات الأطوار التي سايرتها، ومن تلك الخصائص يُعرف نصيب (العقل) في تلك الأطوار، فهو مولود مع الإنسانيّة، وخاضع لما تخضع له من حكم التدرج في طريق الاكتمال!

وكما مرّت الإنسانيّة في مرحلة الطفوليّة الغريزيّة بالغرائز المنطلقة، مرّ معها (العقل) الإنساني في هذه المرحلة، منطلقاً مع الغرائز، يفتح لها أبواب المادية المجنونة الجائعة، وجاءت الرسالات الإلهيّة في هذا الطور تومئ إلى الحقائق العليا ولا تُفصح، وتَرمز ولا تُصرِّح، تمشياً مع طاقة الإنسانيّة الساذجة وحالة الطفولة التي يمر (العقل) بها في مرحلتها في هذا الطور من أطوار التاريخ البشري!

واستعراض الصور الجدليّة التي يقصها التاريخ، وتحدثنا بها كتب الرسالات الإلهيّة عن أوائل الأنبياء والرسل ومتقدميهم في الزمن، كنوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وشعيب مع أممهم، قد لنا على أن (العقل) البشري وقتئذ كان مدثّراً في مهاد الطفولية، محاطاً بالغرائز تهدهده، حتى يظل نائماً لصيقاً بالأرض محجوباً عن السماء!

ص: 414

وقد يكون هذا هو السبب فيما يقع من الوهم في صلاحية (العقل) وحده لإدراك الحقائق العليا إدراكاً مباشراً، دون اعتماد على الحس، ولعل هذا الوهم يستند إلى تاريخ الفلسفات القديمة التي أطلقت لـ (العقل) أعنة السبح فيما وراء الطبيعة: في الخالق ونعوته، وفي عوالم الأرواح والملائكة والأفلاك والسموات، وفي الحياة وطريقة صدورها عن الخالق. ولاشك أن هذه حقائق عليا، لا سبيل لتدخل الحس فيها، بل استقل (العقل) في خوض بحارها، فغرق في أعماقها، ثم طفا وفي يديه قضايا ومعارف آمن بها، وأقام عليها صرح أعرق فلسفاته القديمة، وهي الفلسفة الإغريقية التي فُتن بها كثيرون، وها هو ذا العلم التجريبي وفلسفات (العقل) المتوسب وقد زعزعا أركان تلك الفلسفات القديمة!

والرسل الكرام -عليهم صلوات الله وتسليماته- يضيقون ذرعاً بهذه البلادة العقليّة، وذلك التعبّد الذليل للغرائز العمياء التي تستلهم المادة، وتستهدي بها في أغراضها، وتستوحي الأرض في تحقيق مطالبها، وتتصامّ عن سماع صوت السماء، حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أن منافذ الأمل قد سدّت، وأبواب الرجاء في تخليص (العقل) من سلطان الغرائز وسيطرتها قد أُوصدت، لم يبق لهم إلا التطلُّع إلى طور إنساني جديد، يتجدد به ميلاد الإنسانيّة بـ (عقل) يشبّ عن الطوق، وتتهيّأ له وسائل التغلب للتفلّت من أغلال الغرائز، مستعداً لفهم لغة فوق لغة الحس، تتحدث عن عوالم الغيب وموازين الأخلاق!

ولقد كان لـ (العقل) الإنساني ومضات في هذا الطور من أطوار الحياة، إذا نبَّهته الرسالات الإلهيّة تنبّه، وأشرقت آفاقه بنور الحق في سرعة خاطفة .. أما

ص: 415

إذا غلبَت عليه كثافة الغرائز المتحكّمة فإنه سرعان ما ينكص على عقبيه، وعاد كأنه لم يبصر من الحق والهُدى شيئاً!

وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء في قصة إبراهيم رسول الله وخليله عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء]!

وهذا تصوير بارع لمغالبة الطبيعة الماديّة القائمة في جبلة هؤلاء الوثنين الملحدين لي (العقل) الحبيس في أتون الغرائز، مع قارعات الحجج الإلهية، وداويات النذر، فلم يبق إلا الأسف الحزين على إهدار كرامة (العقل) الذي بدأ يشب على رقدة المهد:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء]!

ص: 416

لقد سمى إبراهيم الأحجار باسمها {هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} (1)، واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة، وكلمة {عَاكِفُونَ} تفيد الانكباب المستمر .. وهذا يفيد تعلقهم بها .. وجاء الجواب ليدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة، في مقابل حريّة الإيمان، وانطلاقه للنظر والتدبر، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقيّة لا التقليديّة، والوراثات المتحجرة التي لا يقوم عليها دليل!

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} !

وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها .. فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم؛ إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق!

وعندما واجههم إبراهيم عليه السلام بهذه الطلاقة في التقدير، وبهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون:

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} ؟!

وهو سؤال المزعزع العقيدة، الذي لايطمئن إلى ما هو عليه؛ لأنه لم يتدبّره ولم يتحقّق منه، ولكنه كذلك معطّل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد، فهو لا يدري أيّ الأقوال حق، والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل!

وهذا هو التّيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيم في (العقل والضمير)!

(1) في ظلال القرآن: 4: 2385 وما بعدها بتصرف.

ص: 417

فأما إبراهيم عليه السلام فهو مستيقن واثق عارف بربّه، متمثل له في خاطره وفكره، يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه:

{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} !

فهو ربّ واحد، ربّ الناس وربّ السموات والأرض .. ربوبيّته ناشئة عن كونه الخالق، فهما صفتان لا تنفكان .. وهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق، وأن الخالق هو الله .. ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً وهم يعلمون!

وإبراهيم عليه السلام لم يشهد خلق السموات والأرض، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه .. ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حدّ أن يشهد المؤمنون عليه واثقين .. إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبّر .. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبّر، وبوحدة الناموس الذي يدبّر الكون ويصرّفه!

ثم يعلن إبراهيم عليه السلام لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار، أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمراً لا رجعة فيه:

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} !

ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهماً لا يفصح عنه .. ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه. ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيداً فتركوه!

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} !

ص: 418

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشّمة .. إلا كبير الأصنام فقد تركه لعلهم يرجعون إليه فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة؟!

ولعلهم حينئذ يراجعون القضيّة كلها، فيرجعون إلى صوابهم، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت!

وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذاً إلا ذلك الكبير، ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه، ولا إلى أنفسهم يسألونها: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع، دون أن تدفع عن أنفسها شيئاً، وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟!

لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال؛ لأن الخرافة قد غطّت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمّل والتدبّر .. فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطّم آلهتهم، وصنع بها هذا الصنيع:

{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)} !

فهم ما يزالون يصرّون على أنها آلهة، وهي هكذا مهشمة! فأما إبراهيم عليه السلام فهو يتهكم بهم، ويسخر منهم، وهو فرد وحده وهم كثير .. ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل، فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون:

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} !

ص: 419

والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر!

إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها، فهي جماد لا إدراك له أصلاً، وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل!

ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزّهم هزًّا، وردّهم إلى شيء من التدبّر والتفكّر:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)} !

وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم، وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة، فيتدبّروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون!

ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} !

وحقاً، لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس، كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب!

كانت الأولى حركة في النفس للنّظر والتدبّر!

أما الثانية فكانت انقلاباً على الرأس فلا عقل ولا تفكير، وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم، وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟!

ومن ثم يجبههم بعنف وضيق على غير عادته، وهو الصبور الحليم؛ لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} !

ص: 420

وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف!

عندئذ أخذتهم العزة بالإثم، كما تأخذ الطغاة البغاة العتاة دائماً، حين يفقدون الحجة، ويعوزهم الدليل، فيلجؤون إلى القوة الغاشمة، والعذاب الغليظ:

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء]!

فيا لها من آلهة ينصرها عبّادها، وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تحاول لها ولا لعبّادها نصراً!

قالوا: {حَرِّقُوهُ} ولكن كلمة أخرى قد قيلت .. فأبطلت كل قول، وأحبطت كل قيد .. ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد:

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء]!

فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام!

كيف؟!

ولماذا نسأل عن هذه وحدها، و {كُونِي} هذه الكلمة التي تكوّن بها أكوان، وتنشأ بها عوالم، وتخلق بها نواميس:

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس]!

يكون هذا الشئ سماءً أو أرضاً .. يكون ناراً أو غيرها (1) .. هذا وذاك سواء أمام الكلمة .. كن .. فيكون!

(1) في ظلال القرآن: 5: 2978.

ص: 421

ليس هناك صعب ولا سهل .. وليس هناك قريب ولا بعيد .. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده، كائناً ما يكون .. إنما يقرّب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود!

فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم عليه السلام!، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحيّة؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة، هو الذي قال لها: كوني برداً وسلاماً .. كوني (مكيّفاً) بلغة العصر .. لأنها لو كانت برداً دون أن تكون سلاماً لكان لها شأن آخر يؤذي ولا ينفع، وربما كانت قاتلة .. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها، كيفما كان هذا المدلول، مألوفاً للبشر أو غير مألوف!

إن الذين يقيسون أعمال الحق إلى أعمال البشر هم الذين يسألون:

كيف كان هذا؟

وكيف أمكن أن يكون؟

فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً .. علميًّا أو غير علمي، فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلاً، ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين ومقاييس البشر، وكل منهج في تصوّر مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الحق غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود!

إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان؛ لأن صانعه يملك أن يكون، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار؟

ص: 422