الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - التكامل المحمدي:
ورابع ما يطالعنا: التكامل المحمدي، وذلك أن الظاهرة الاجتماعيّة التي كانت تسم البيئة العربيّة بميسمها (1)، وتعنون الحياة فيها بعنوانها، شظف العيش، وخلو اليد من حطام الدنيا، فقد ولد الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- يتيماً، راعياً للغنم، عاملاً، ولهذا أثره العميق في تمحيص خصيصة الإنسانيّة العليا في الأفراد الذين تلزمهم أيام شبابهم، وهي أيام اجتماع قوى الاندفاع، وعناصر الهوى النفسي، ونزغات المراهقات، ومنافذ الغرائز الماديّة النهمة، ومسارب استطالة الشباب وطموحه .. وهو تمحيص سياق أشد المشقة، ولا تبصر له إلا نفس قوية التركيب البنائي في تكوينها، ومن ثم كانت مثله التاريخية آحادًا من الأفذاذ في القرون والحقب .. ومن عجائبه أنه يتجاوب في يسر مع النزعات الدينيّة الداعية إلى الإيمان بالغيب، فتكثر نسبيًّا أمثلته من النماذج الحيّة في أوقات تسود فيها الروحانيّة .. فإذا عاشت شخصيّة الممحّص، وخرجت منه كما خرج محمد صلى الله عليه وسلم في شبابه، أكمل الناس إنسانيّة، وأعظمهم خلقاً، وأضخمهم أمانة، وأبعدهم عما يشين مروءة الرجال، حتى ما يستطيع عدو بَلْه ولياً أن يقول فيه، لو، ولا، وليت، ومن ثم كانت شخصيّة محمد خاتم النبيّن صلى الله عليه وسلم هي النموذج الأعلى لكمال خصيصة الإنسانيّة العليا في فرد من بني الإنسان!
تكافؤ الخلق:
وهنا نبصر ظاهرة التكافؤ الخلقي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ونعني بالتكافؤ
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 209 وما بعدها بتصرف.
الخلقي أن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تنبع من فطرته بنسب متفقة، فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته .. وهكذا لا تجد له خُلقاً في موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خلق آخر في موضعه منها، ومن هنا كان جماع أمره عند قومه (الأمين)، وهذا يمثل التكافؤ الخلقي، أصدق تمثيل!
هذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي، في شخصيّة محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون معجزة الحياة في الإنسان .. لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشريّة من كان هذا التكافؤ الخلقي خليقته العامة سوى محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم!
وإذا ذكر غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبرير جزئي في بعض الأخلاق والفضائل، فهذا مثل مضروب في الصبر، وذاك في الحلم، وثالث في الكرم، ورابع في الشجاعة .. وهكذا تتفرق النهايات في الأخلاق والفضائل في نماذج متعددة .. ولكنها تجتمع متكافئة في شخصية محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، وهذا هو سر الإعجاز الإنساني في حياته صلى الله عليه وسلم!
وهذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي في شباب الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة الإنسان في الحياة؛ لأن الشباب معترك الغرائز، وهي مختلفة الأغراض والغايات، فالتكافؤ الخلقي في الشباب ضرب من المحالات في متعارف الحياة، فإذا حققه الوجود الواقعي في شباب محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم كان وجوده معجزة الإنسان في الحياة!
وهذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي في شباب الرسول صلى الله عليه وسلم مع ملازمة الظاهرة الاجتماعيّة الأولى لحياته في شبابه من شظف العيش -كما أسلفنا-
ضرب آخر من الإعجاز الإنساني في الحياة؛ لأن تلك الظاهرة الاجتماعيّة كانت قمينة أن تدعو الشباب إلى طيش الغرائز، فتنقلب به الفضائل إلى رذائل جامحة، فوجود ضابط نفسي يعصم الإنسان من الانزلاق وراء تيّارات الغرائز في إبان قوتها العارمة هو الآية الكبرى على أن التكافؤ الخلقي الذي ينبع منه ذلك الضابط النفسي ليس من صنع الإنسان!
والتكافؤ الخلقي بهذا المقياس لم تعرفه الحياة الواقعيّة لإنسان غير محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، وهو في ذاته مفطور مجبول، لم يصنعه علم ولا تثقيف؛ لأن بيئته في شبابه لم تكن بيئة علم وثقافة!
ومن الطبيعي أن تكون ثمرات هذا التكافؤ الخلقي محدودة بحدود البيئة التي عاش فيها .. حتى إذا أتيح له أن يمتد ويتسع مع الرسالة العامة الخالدة امتد واتسع، فكان هو العنوان الذي رسم به القرآن الكريم الفضيلة العليا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال في معرض الرد عنه مدافعاً ومادحاً:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} (القلم).
وهذا التعبير في موضعه يكافئ تعبير الفطرة الملقى على ألسنة قومه في تسميته (الأمين) فكما مثل (الأمين) التكافؤ الخلقي هناك أصدق تمثيل مثّله هنا في دور الرسالة العامة الخالدة (الخلق العظيم) أصدق تمثيل!
والفرق بين التعبيرين هو الفرق بين (محمد المرسل رحمة للعالمين)، و (محمد الشاب الأمين)!
وفي تعبير القرآن الكريم، إشارة إلى عمل في التكافؤ فوق عمل الفطرة والجبلة، وهو أثر النبوة والرسالة!
والخلق الأصيل النابع من الفطرة لا تملك المؤثرات الطارئة أن تغيّره، فهو
يستطيع أن يتغلب على الظواهر الاجتماعيّة ويوجهها في طريق الفضيلة، حتى تصبح تلك الظواهر عند صاحب هذا الخلق الأصيل النابع من الفطرة فضيلة من فضائله!
هكذا يصور التاريخ الواقعي شخصية محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في شبابه، حتى تزوج خديجة رضي الله عنها وهي امرأة حسيبة شريفة كثيرة المال، عرفت محمداً صلى الله عليه وسلم في شظف عيشه وقلة ذات يده، وعرفته في تكافئه الخلقي، فرغبت فيه لهذه المعرفة، وتزوجته بعد هذه المعرفة!
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل بعد هذا الزواج كما كان منذ وُلد ونهد وشب، يعيش في شظف عيشه، لا من قلة المال في يده؛ بل لأن خصّيصة التكافؤ الخلقي عنده طبعته على الزهادة في الحياة الماديّة المترهلة التي كانت تحياها مكة وتعيش فيها قريش، وطبعته على التسامي بنفسه عن المطامع التي تتحلّب لها أشداق الماديّين إذا هبط عليهم الثراء من غير كدّ ولا تعب!
فعمل التكافؤ الخلقي هنا أبلغ من عمله هناك؛ لأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل زواجه خديجة -رضي الله تعالى عنها - كانت حياة تقلل من الدنيا؛ لأنها كانت في يده قليلة، أو لأنه لم يكن في يده منها شيء، فالفضيلة فيها في قوة الصبر على عدم التطلع إليها، وتطلبها بما يميل بميزان التكافؤ الخلقي فيبطل عمله، وحياته بعد زواجه حياة تقلل من الدنيا وهي ملء يده، فالفضيلة فيها في قوة الصبر معها على الانزلاق في غمرات المادية التي تدفع إلى الانزلاق فيها البيئة ومؤثراتها!
ومضى محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم في حياته الجديدة أميناً مع نفسه، أميناً مع قومه، أميناً مع زوجه، أميناً لماضيه، أميناً لمستقبله .. وبقي يعيش في