الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - الحاجة إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
وقد كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليه الإنسان في منتصف القرن السادس الميلادي (1)، أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر!
ولكن القضيّة كانت قضيّة إزالة أنقاض جاهليّة، ووثنيّة تخريبيّة، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلّمين، وإقامة بناء شامخ مشيّد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويُؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد:
وهنا نبصر تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان في تعبير قرآني معجز عن حقيقة واقعيّة، وما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة (2)!
إن نوع الحقيقة هنا هو الذي يقتضي هذه الإيقاعات التصويريّة، فهي حقيقة، نعم. ولكنها حقيقة روحيّة فكريّة، حقيقة تُذاق بالتجربة، ولا تملك
(1) السيرة النبويّة: الندوي: 64.
(2)
في ظلال القرآن: 3: 1200 بتصرف.
العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة، ولكن لن ذاقها فعلاً!
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت .. وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات .. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحسّ آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة .. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعّته وفي مجاله جديداً، كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوّره الإيمان!
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ، يعرفها فقط من ذاقها، والعبارة القرآنيّة هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة؛ لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها!
إن الكفر انقطاع عن الحياة الأزليّة الأبديّة، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب!
هو موت .. وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله .. هو موت .. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية .. هو موت!
والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة .. فهو حياة!
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع .. فهو ظلمة .. وختم على الجوارح والمشاعر .. فهو ظلمة .. وتيه في التيه والضلال .. فهو ظلمة!
وإن الإيمان تفتّح ورؤية، وإدراك واستقامة .. فهو نور بكل مقومات النور!
إن الكفر انكماش وتحجر .. فهو ضيق .. وشرود عن الطريق الفطري الميسر .. فهو عسر .. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن .. فهو قلق!
وإن الإيمان انشراح وشر وطمأنينة وظل ممدود!
وما الكافر؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور .. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود، لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود .. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة .. حدود الحسّ وما يدركه الحسّ من ظاهر هذا الوجود!
إن الصله بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد .. ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة .. ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان .. الموصولة على مدار الزمان .. فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الروابط، وفي ثراء من الوجود الزاخر الممتد اللاحب، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود!
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ويتكشف له منهجه في العمل والحركة، تكشفاً عجيباً!
إنه مشهد رائع باهر، هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور .. مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه .. ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته!
إن هذه الرسالة التي حملها الرسول صلى الله عليه وسلم تبصرنا بأن هذا (الدّين القيّم) يبدو تصميماً واحداً متراكباً متناسقاً .. يبدو حيًّا يتجاوب مع الفطرة، وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود!
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون، وتجري في عالم الناس .. تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر .. مشهد السنة
الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم، ولكنه فطري ميسر .. ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل، وهي من ورائها محيطة طليقة .. ومشهد الناس والأحداث، وهم في نطاق النواميس، وهي في هذا النطاق أيضاً!
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، حين يبصر معالم الرسالة وعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجد الوضوح في كل شأن، وفي كل أمر، وفي كل حدث!
يجد الوضوح في نفسه، وفي نواياه وخواطره وخطئه وحركته!
ويجد الوضوح فيما يجري حوله، سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم، وخططهم المستترة والظاهرة!
ويجد تفسير الأحداث والتاريخ، في نفسه وعقله، وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب!
ويجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه!
ويجد الراحة في باله وحاله ومآله!
ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها!
ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين!
وهكذا يصور القرآن الكريم تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
وهنا نبصر قضية اقتلاع جرثومة الفساد، واستئصال شأفة الوثنيّة،
واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخاً، لا تصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية، وانتصار للحق، يتغلّب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف بكل مقاومة .. وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانيّة المنتحرة التي استجمعت قواها للتوثب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق، أولُها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنة الخلد الذي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قول الله تعالى في معرض المن ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم!
كذلك كانوا قبل هذه الرسالة، قبل أن يُرسل الله خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينفخ الإيمان في قلوبهم فيُحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيويّة والحركة والتطلع والاستشراف!
كانت قلوبهم مواتاً!
وكانت أرواحهم ظلاماً!
ثم إذا قلوبهم تتفتّح للإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس، تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد .. الإنسان المتحرر المستنير، الإنسان الذي خرج بعبوديته لله من عبودية العبيد!
أفمن نفخ الإيمان في روحه الحياة، وأفاض الحق على قلبه النور، كمن حاله في الظلمات، لا مخرج له منها؟!
إنهما عالمان مختلفان، شتان بينهما شتان!
حقًّا، إنه لم يعرف في تاريخ البشريّة كله عمل أدق وأعقد، ومسؤوليّة أعظم وأضخم، من مسؤوليّة محمد صلى الله عليه وسلم كنبي مرسل، كما أنه لم يعرف غرس أثمر مثل غرسه، وسعي تكلّل بالنجاح مثل سعيه!
وهكذا قالت حوادث الكون:
لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم!
وقالت حقائق التاريخ:
لقد كان خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم هو صاحب تلك الرسالة!
ولا كلمة لقائل بعد شهادة حوادث الكون، وحقائق التاريخ، ونزول الوحي!