الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معالم على الطريق:
وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على معالم الطريق إلى النبوة .. وهي تزداد إيحاء ووضوحاً، وعرفنا كيف أعطى الانسلاخ الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّة القدرة العمليّة على الرفض لكل ممارسات الجاهليّين الباطلة، وكيف كان البعد الروحي والإمداد النفسي باتجاه الاندماج والاتصال، ومواجهة رفض الجاهلية وقياداتها وأعرافها وسلطاتها، بمثابة إرهاص حيّ حركيّ، فكريّ عمليّ، إلى أن هذه الشخصية التي ربتها عناية الله في مدى أربعين سنة قد غدت على استعداد تام للتلقي!
ونبصر خلوات الرسول صلى الله عليه وسلم .. ونبصر انعزاله عن مجرى الحياة المكية الصاخب، وهو يقترب من الأربعين .. حيث أعده الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين، ليخرج الناس من ظلمات الجاهليّة ودنسها إلى نور الإِسلام ونقائه، فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازاً أسوارها الجبليّة، منقلاً خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية حتى تحجب به حياة الجاهليّة، وتستقبله شعاب مكة، وبطون أوديتها، ثم يلج بعيداً إلى (جبل النور)، حيث ينتهي به المطاف إلى (غار حراء)، فيمكث فيه ما شاء الله أن يمكث!
واستغرق الرسول صلى الله عليه وسلم في تفكير عميق، كان يشغله أمداً طويلاً .. تفكير عميق في أحوال قومه، وفي أوضاعهم، وفي الكون والحياة، ومصير الإنسان، والموت وما بعد الموت، وفيما شاكل ذلك من أمور تطوف برأس المفكر المتبصر في هذه الحياة فتصرفه إلى النظر فيها، وتبعده عن التفكير في غيرها، مما يكون في هذه السن على المعتاد! إنه يريد الوصول إلى الحقيقة!
وأخذت ملامح الطريق إلى النبوة تزداد إيحاءً ووضوحاً، وتقترب بالرسول صلى الله عليه وسلم يوماً بعد يوم!
والذي يلفت النظر (1)، ويدعو إلى التأمل، أن تتضافر روايات التاريخ بالحديث عن ورقة بن نوفل وتنصّره، وزيد بن عمرو وتحنّفه، وقس ابن ساعدة وترهّبه، وأميّة بن أبي الصلت وتطلعه .. ولكنها تسكت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة من شبابه، فلا تذكر عنه إلَّا أنه كان يخلو بغار حراء يتعبّد فيه الليالي ذوات العدد!
ومن هنا تعددت الأقاويل في تعبّده على أي نهج كان (2)؟!
ولم يأت تصريح -كما قال الزرقاني (3) - بصفة تعبّده بحراء، فيحتمل أنه أطلق على الخلوة بمجردها تعبداً، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل عبادة، وعن ابن المرابط وغيره: كان يتعبّد بالفكر، وهذا على قول الجمهور!
وعلى كل فإن العقل في منطقه بمعزل عن إدراك شرعيّة هذا التعبّد، ما دام لم يأت نص قاطع في ذلك، فهو إذن تعبّد على ملة إبراهيم -كما سيأتي في حديث بدء الوحي- وهو إذن مطلع الوحي، بحقائقه ودلالاته!
لقد تكرم الحق تبارك وتعالى فكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها، اصطفاه ليكون ملتقى النور الإلهي، ومهبط الوحي، وخاتم النبيّين، وخير الخلق أجمعين!
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 216 وما بعدها بتصرف.
(2)
انظر: البداية: 3: 6، وشرح الزرقاني: 1: 210.
(3)
شرح الزرقاني: 1: 210.
وتتكشف جوانب من عظمة هذه الحقيقة حين نتصوّر جهد الطاقة حقيقة الاصطفاء، ونتصور في ظلها حقيقة العبوديّة، بما نعرف وبما لا سبيل إلى معرفته .. ثم نستشعر وقع هذا التكريم وتلك العناية بنا، ونتذوق حلاوة المعرفة والفهم، وحقيقة التكريم والعناية، ونتلّقى هذا الشعور بالشكر والخشوع، والابتهال والخضوع .. ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا نحلّق في سماء الحمد، ونتصور جنبات الوجود، وهي تتجاوب مع هذا التكريم وتلك العناية!
لقد بدأت آثار مطلع الوحي منذ اللحظة الأولى في تحويل خط التاريخ البشري كله .. منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان، ويتلقى عنها تصوراته وموازينه!
وهنا شعر السلف الصالح الذين استقرت في أرواحهم ومشاعرهم وأحاسيسهم هذه الحقيقة بأنهم في كنف الله عز وجل ورعايته، ورحمته وعنايته!
ومن ثم ظهرت آثار هذه الحقيقة في صلتهم المباشرة بالحق .. فهم قد تحولوا إلى الإيمان الكامل في الفكر والسلوك .. اتصلوا بالحق في كل أحوالهم، كبيرها وصغيرها، يبيتون ويصبحون، وهم في صلة كاملة بالحق، واستمرت هذه الفترة مدة نزول الوحي مباركة طيّبة، لا يتصور حقيقتها كما يجب أن يكون التصور إلا الذين عاشوها وذاقوا حلاوة الاتصال!
لقد ولد الإنسان من جديد، ولقد تحول خط التاريخ .. ولقد قام في الضمير الإنساني التصور المثالي للوجود وللحياة .. ولقد استقرت هذه التصورات بمعالمها في واقع الحياة!