الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - أنبياء في الجزيرة:
وثالث ما يطالعنا: أنها كانت مكاناً لكثير من الرسالات، ومن ثم فبعثة خاتم النبيّين في الجزيرة لم تكن وحيدة، فهذا هود عليه السلام أقدم من إبراهيم عليه السلام كان من قوم عاد، وكان موطنها الأحقاف، والحِقْف: ما استطال واعوج من الرمل (1)، وكانت منازل عاد على المرتفعات المتَفرقة في جنوب الجزيرة:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)} [الأحقاف]!
وقد قالوا إنه كان أول نبي بعد نوح عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} [الأعراف]!
وهذا النص يومئ كما يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله (2): إلى أن هوداً جاء من بعد نوح، وأن قومه كانوا خلفاء من بعد نوح، ويُشير من جهة أخرى إلى أن قوم نوح كانوا في أرض العرب، كما كان خلفاؤهم!
= نبي الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهم
…
" الحديث: 5: 262، وابن سعد: 1: 102، وإسناده حسن، كما قال الهيثمي، وله شواهد تقوية: مجمع الزوائد: 8: 222، وانظر الطيالسي: منحة المعبود: 2: 86، وفي سنده فرج بن فضالة، والطبراني في الكبير: 8: 175 (7729)، والأصبهاني في دلائل النبوة: 1: 239.
(1)
المعجم الوسيط (حقف).
(2)
خاتم النبيّين: 1: 47.
وإن عاداً كانوا من أقوى قبائل العرب منعة، وأقواها شكيمة، ولكن كانوا أشد غروراً، كما قال الله تعالى عنهم:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت]!
وكذلك صالح نبي ثمود، وكانوا عرباً يسكنون الحجر، الذي بين الحجاز وتبوك!
كان يدعوهم نبيّهم إلى التوحيد، وكانت بيّنتُه ناقة لا يمسوها بسوء، وإلا كانوا خاسرين:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [الأعراف]!
ولقد كان قوم صالح من بعد عاد وقوم هود، إذ كانوا خلفاءهم، وكانوا أقوى قوة، وأكثر عدداً:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)} [الأعراف]!
ولكن ثمود بعدت عن أمر ربها، واعتدوا على صالح، فنزل عليهم عذاب واصب أبادهم!
وقد كانت ديارهم أطلالاً هامدة، وآثاراً باقية، تذكّر بغضب الله على من كذبوا رسله، وتعجلوا عقابه، وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين
ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إِلا أن تكونوا باكين"، ثم قَنَّع رأسه، وأسرع السير، حتى أجازَ الوادي!
وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين، إِلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم"(1)!
ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعث على التفكير والاعتبار، عند المرور بقبور الظالمين، وبما أصابهم، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتحذير من الغفلة عن ذلك، حتى المياه التي كانت في آبار هؤلاء نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن استعمالها، وحتى لا يغفل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مَثُلات!
وجاء شعيب بعد إبراهيم وبعد لوط، وقيل إنه بعد يوسف عليهم السلام ومن المؤكد أنه جاء بعد لوط؛ لأنه جعل من إنذاره لقومه أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط:{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [هود]!
وهذا يدل على أمرين:
الأول: أن مبعث شعيب عليه السلام كان بعد مبعث هود وصالح ولوط، فقد جعل في بيانه ما حدث لأقوام هؤلاء من عذاب دنيوي ماحق، كان موضع إنذار لهم!
(1) البخاري: 64 - المغازي (4419، 4420)، وانظر (433، 3380، 3381، 4702)، ومسلم (2980)، وأحمد: 2: 9، 72، 74، 92، 113، 137، والبيهقي: 2: 451، والدلائل: 5: 233، والبغوي (4166)، والحميدي (653)، والنسائي: الكبرى (11274)، والتفسير (294)، وابن حبان (6200 - 6201).
الثاني: أنه يدل على أن قوم لوط كانوا في العرب، ولذلك قال:
{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} !
فهم كانوا على مقربة منهم، وكانوا مثلهم في أطراف أرض العرب من ناحية الشام!
وهنا نذكر أمرين:
الأول: أنه بعث لمدين، وهم أهل الأيكة، فقد كانوا يعبدون شجرة عظيمة هي الأيكة، وهم أصحاب يوم الظلة، أي سحابة ظللتهم، فلما اجتمعوا تحتها التهبت عليهم ناراً وأحرقتهم (1)! كما أصابتهم الرجفة والصيحة!
وهي عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاءتهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة، وكانت الرجفة التي أصابتهم!
وقد استحقوا هذه الأنواع من العقوبات، والأصناف من المثلات، والأشكال من البليّات، لما اتصفوا به من قبيح الصفات، حيث سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلّة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات!
الثاني: أن أهل مدين جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات، حيث كانوا يطفّفون في الكيل والميزان، وقُطّاع طريق!
(1) انظر: تفسير الطبري: 19: 109 وما بعدها، وابن كثير: 3: 346 - 347.
هذا، وقد اختصت الجزيرة العربيّة بالرسالات الأولى، رسالة إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وكان لإبراهيم رفع القواعد من البيت وإسماعيل -كما أسلفنا-، وكان شعيب قد بعث في مدين، وانبعث منها نور رسالة موسى!
كما كانت مهجر اليهود عندما نزل بهم الأذى، ولجأت النصرانية إلى أرض نجران، فراراً من حكم القياصرة!
وقد يسأل سائل: لماذا كانت الجزيرة مهجر المضطهدين عندما نزل بهم الأذى، وحل سوء العذاب؟
والجواب على ذلك بأمور ثلاثة (1):
أولها: أن البلاد العربيّة ليست بلاداً متوحّشة، كما يتوهّم الذين يحكمون بغير بيّنات، أو الذين يرمون الكلام على عواهنه، أو الذين يتجنون على الحقائق مغرضين غير منصفين، إنما هي بلاد فيها ذكاء ونفوس صافية كصفاء سمائها، وقوةُ الاستجابة فيها متكافئة مع قوة المقاومة!
الأمر الثاني: أن الجزيرة مع ذكاء أهلها لهم في عقولهم معتصم، حتى وهم يعبدون الأوثان التي أغرموا بها إغراماً شديداً، وصارت جزءًا من مداركهم وعقولهم، وأصبحوا يستنصرون بالأحجار، ويظنّون أنها تجيب على سؤالهم، حتى وهم على هذا الحال لم ينسوا الله في وثنيّتهم، وكانوا كما قال الله:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف]!
(1) خاتم النبيّين: 1: 61 وما بعدها بتصرف.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61]!
وهنا تفترق الوثنيّة الرومانيّة واليونانيّة عن وثنيّة العرب؛ لأن العرب كانوا يشركون مع الله غيره، أما الآخرون فقد كانت نظريّة الحلول تسري فيهم، ولا يجيء في وثنيّتهم ذكر الله تعالى قط!
وبيداء الجزيرة وقراها وبرها، فيها حصون ليست في غيرها لمنع الاعتداء الوحشي من الأمم التي اشتدت إغارتها في الماضي، وإن كان النبيون قد قوِوموا في إقناعهم ابتداء، فلأنهم في حصنين منيعين:
حصن من الأرض المانعة لكل وافد من أن يقتطعها!
وحصن من النفوس التي إذا آمنت قاومت واعتزت بإيمانها!
وإن قوة النفوس هي التي تتميز بها أخلاق الأمم؛ فإن العقول إذا انحرفت قد تقوم وتستقيم، والقلوب إذا غشيتها غاشيات الضلال في نفوس ملتوية غير مستقيمة، فالحق لا يصل إليها إلا من رحم الله!
واعتبر بحال العرب بين دولتن قويّتين من الدول التي لاصقتها، فإنهما لم يتجاوزا في سلطانهما أطرافها، ولم تتمكن إحداهما أن تنتقل من الأطراف إلى داخلها، فإنهما عندئذ تجدان قلوباً صلدة قواها ضوء الشمس الساطع، وقوة الحياة فيها، والتعرض لأوابد الحيوان ليلًا ونهاراً!
الأمر الثالث: قوة الشكيمة، وقوة الخلُق العربي، وما امتاز به العربي من