الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقصة شق الصدر سبيلها هذه الأحداث الكونيّة الدينيّة .. وقد سبق ذكر الروايات الصحيحة!
حقائق التاريخ:
وقد تكلم العلماء فأوسعوا في شرح ألفاظ القصة، وذكروا حكمتها، وحكمة كل فعل روي فيها، من الغسل بماء زمزم أو غيره، ونزع العلقة، وذرّ السَّكينة، وإدخال الإيمان والحكمة والرأفة والرحمة، بما لا يدع مجالاً لمؤمن في التوقف عن قبول القصة، والإيمان بها .. ولا عبرة بعدم اطمئنان المستشرقين وجماعة المستغربين من الباحثين المعاصرين إلى القصة ووقوعها!
وأما غمز القصة بطفوليّة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستعظام ما حدث به على سنه في الرواية، فهذا من قبيل الإيهام المضلل!
وقصد شق الصدر سبيلها سبيل هذه الأحداث الكونيّة الدينيّة، فما شأن الروايات التي تحدثت بها؟
وقد سبق أن ذكرنا رواية مسلم في ذلك!
والحديث مع هؤلاء في وقع القصة، لا في زمانها ومكانها؛ لأن ذلك تحقيق تاريخي، لا يضير البحث ألا يؤمنوا به!
وكيف يستعظم تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم على سنه، والأمر كله من قبيل الإعجاز؟ على أن تحدثه صلى الله عليه وسلم كان وهو نبيّ رسول، إذ سئل من بعض أصحابه، كما روى أحمد وغيره بسند حسن من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السلمي، أنه
حدثهم أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بَهم (1) لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي، اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي، ومكثت عند البَهم، فأقبل طائران أبيضان، كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهُوَ هُوَ؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني إِلى القفا فشقّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقّاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه - قال يزيد في حديثه: ائتني بماء ثلج - فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء بَرَد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذرّاها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: حُصه (2)، فحاصه، وختم عليه بخاتم النبوة،- وقال حيوة في حديثه: خصه فخمه واختم عليه بخاتم النبوّة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفّة واجعل ألفاً من أمته في كفّة، فإِذا أنا انظر إِلى الألف فوقي، أُشفق أن يخر عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرِقت فرَقاً شديداً، ثم انطلقت إِلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقتْ عليّ أن يكون أُلْبِسَ بي، قالت: أعيذك بالله! فرحلت بعيراً لها فجعلتني -وقال يزيد: فحملتني- على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إِلى أمي، فقالت: أو أدّيت أمانتي وذمّتي؟
(1) بهم -بفتح الموحدة وسكون الهاء- جمع بهمة، وهي ولد الضأن، الذكر والأنثى، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم مع أخيه من الرضاع: الفتح الرباني: 2 - : 191.
(2)
حُصه -بضم الحاء المهملة- أي خطه، يقال حاص الثوب يحصه حوصاً: إذا خاطه: المرجع السابق!
وحدّثَتْهَا بالذي لقيت، فلم يَرُعْها ذلك، فقالت: إِني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام" (1)!
وهكذا يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم، سئل وهو نبي رسول، فأجاب بما جاء في هذه الرواية!
والذي يعني البحث أن قصة شق الصدر حادث كوني، ومعجزة عجيبة، وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت بها الروايات الصحيحة الثابتة، ولا يردها تشكيك مستشرق ولا مستغرب ولا متعوقل ولا متعالم، ولم يتخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم آية للتحدي والبرهنة على صدق رسالته، كغيرها من المعجزات الكونيّة، والخوارق العجيبة قبل البعثة أو بعدها!
ونحن نعلم أن هذا اللون من الآيات المعجزة لو لم يذكر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنقص من جلالها شيئاً، وأن معجزته العظمى الخالدة التي حملت بين طواياها التحدي بها هي (القرآن العظيم)، ولكن حقائق التاريخ يجب أن يرتفع بها البحث إلى قدس الحق، بعيداً عن التعصّب الحقود، والتقليد الأبله، والتأثر بالنزعات المجافية لحقيقة الدين والإيمان به!
وعلى الذين يؤرخون لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ويكتبون في سيرته الطاهرة، أن يجعلوا نصب أعينهم أنه نبيّ من أنبياء الله، ورسول من رسل الله، وأن عظمته في نبوّته ورسالته، مع اتصافه بكل صفات الكمال المثالي، فهو بالنبوة والرسالة
(1) أحمد: 4: 184 - 195، والدارمي: 1: 8 - 9، والحاكم: 2: 616 - 617، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الدلائل": 2: 7 - 8، وأورده في المجمع: 8: 222، وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن، وله شواهد تقويه، ورواه الطبراني: الكبير: 17 (323)، والشامين (1181)، وانظر: أحمد: 3: 121 عن أنس، وسنده صحيح، وابن سعد: 1: 150، وعبد بن حميد (1308).
قد سما على العبقريّة والبطولة، ونبصر فضله على إخوانه الأنبياء والمرسلين بما منحه الله تعالى من فضل في شريعته التي ختم الله الشرائع بها، وجعلها جامعة لجميع ما جاءت به الشرائع المتقدمة، من خير وإصلاح وتهذيب مع زيادة ما يقتضيه تقدم الإنسانيّة في تفكيرها وعقلها وروحها وضميرها!
ولعل هذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بعد أن ذكر أولي العزم من الرسل في آية: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (الأنعام: 83)!
فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)!
فهُدى الجميع هُدى للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الجامع لما تفرّق في جميع الأنبياء والمرسلين من الفضائل، والمحامد، وإليه ينتهي خيرهم، وفي شريعته تنطوي شرائعهم، فهي خاتمة الشرائع، وهو خاتم النبيّين وإمام المرسلين!
ولعل التصور المقارب للواقع التاريخي (1)، يستطيع أن يسعف العقل ليرسم صورة موجزة مقاربة لمطلع حياة طفوليّة نهدت في لفائف اليتم، لأكرم من ضمه مهد في حياة البشريّة، حتى يستشف البحث من وراء ذلك حقائق الوجود الواقعي في مشهد الحياة لهذه الشخصيّة الكريمة، التي غيّرت معالم الحياة في تاريخ البشريّة!
تولى الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أول لحظة حظي فيها الوجود بإشراق طلعته، فنشّأه تنشئة جمع له فيها خصائص الفطرة الإنسانيّة في أعلى مراتبها وأرفع درجاتها، فلم يكله إلى أب يكفله ويربّيه، وللأبوّة أثرها على الطفولة وتوجيهها في الحياة!
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 152 وما بعدها بتصرف.