الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كما أن ضباب الصبح والأصيل ينقشع ويتبدد بنور الشمس البازغة الوهّاج، كذلك تحوّل الأمير الرقيق المترف الذي لم يكن يعرف إلا الشباب والهوى، والذي كان قد قَدم (أركاديوس) في عصره (1)، فارساً منتصراً، يقول الجيوش، ويفتح البلاد (كسيزر)(2)، لقد أنقذت كرامة هرقل وروما بطريقة غريبة رائعة، وعاد إليهما اعتبارهما وقيمتهما)!
هذا إلى نبوات أخرى، وإعلانات بعيدة!
ولا يصنع من هذه الحبّة قبّة إلا من أعماه التعصّب المديني، والاسترسال في الخيال، والإمعان في الافتراض والتخمين (3)!
وسنعرض لإبطال هذا التهافت بشيء من التفصيل عند الحديث عن الوحي!
حماية الله للنبي:
وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظاً من الله تعالى، بعيداً عن أقذار الجاهليّة وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقاً، وأشد هم حياءً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتى عُرف بين قومه بـ (الأمين)!
وقد عصمه الله تعالى من أن يتورط فيما لا يليق بشأنه، من عادات الجاهليّة، ولا مما لا يرون به بأساً، ولا يرفعون له رأساً، وكان واصلاً
(1) الملك الرومي الخليع المستهتر الذي أصبح مثلاً في تاريخ أوروبا للتمتع المسرف والترف الفاحش.
(2)
الإمبراطور الرومي الذي اشتهر بفتوحه وامتداد ملكه.
(3)
انظر تفصيل القول في رد هذا التهافت في مدخل إلى القرآن الكريم: دكتور محمد عبد الله دراز: 135 وما بعدها، دار القلم، الكويت 1400 هـ 1980 م.
للرحم، حاملاً لما يثقل كواهل الناس، مكرماً للضيوف، عوناً على البر -كما سيأتي من شهادة خديجة رضي الله عنها حين رجع من حراء، وكان يأكل من نتيجة عمله، ويقنع بالقوت!
ولقد كانت طبيعة العمل في رعي الغنم (1) -كما أسلفنا- تدعو إلى الاختلاط بصبيان من طبقات مختلفة، أكثرهم طبقات الفقراء والخدم والعبيد .. أولئك الذين كانوا يؤجرون لهذا العمل الذي لا يعد من معالي الأعمال، بل يعد من صغارها، ومع أنه صلى الله عليه وسلم كان معهم، لم تنزل نفسه عن عزتها من غير استعلاء، فكان يجذبه إلى العلا شرف نسبه، وطيب محتده، وما يراه في أسرته من سمو وعلو وسيادة، وما يكمن في طبعه الكريم من حب لمكارم الأخلاق، من غير غطرسة، ولا كبرياء، ولا استهانة أو استصغار للضعفاء، ويجذبه إلى التطامن والرضا بالقليل صغر العمل في ذاته، من غير نظر إلى ثمراته وأثره في تربية النفس على حسن المعاملة، والرفق بالناس!
وكان الأحداث منهم، خصوصاً الذين انغمس ذووهم أو أولياؤهم في الشهوات يستولي على قلوبهم حب اللهو البريء وغير البريء، ومنهم من ينزع إلى الشر من بعد، ويكون عنصر فساد في المجتمع إذا بلغ أشده!
وإذا كان الضعف يثير الرحمة، ويدفع إلى الحب الخالص البريء، فهؤلاء يدفعون إلى المجون، والمجون يهدي إلى سيطرة الهوى، وسيطرة الهوى تهدي إلى الفساد، والصحبة تجعل السقيم يعدي البريء!
وهكذا كانت حماية الله عز وجل لعبده ومصطفاه، وكانت العصمة والتربية الإلهية!
(1) خاتم النبيين: 1: 170 بتصرف.
يروي ابن إسحاق وغيره بسند حسن عن علي بن أبي طالب عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهليّة يهمّون به من النساء، إِلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة، فأسمر بها، كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إِذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، قلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان وفلانة، فجلست انظر، وضرب الله على أذني، فوالله! ما أيقظني إِلا مسّ الشمس، فرجعت إِلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي، حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله! ما أيقظني إِلا مسّ الشمس، فرجعت إِلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله! ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك، حتى أكرمني الله بنبوّته"!
قال ابن حجر: إسناده حسن متصل، ورجاله ثقات (1)!
(1) الخصائص الكبرى: السيوطي: 1: 149 - 150 دار الكتب العلمية، ط. أولى 1405 هـ 1985 م، والبخاري في التاريخ الكبير: 1: 130 (389)، والبيهقي:"الدلائل": 2: 33، والحاكم: 4: 245، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأبو نعيم:"الدلائل": 2: 33، وابن حبان: الإحسان (6272)، وذ كره الهيثمي في المجمع: 8: 226، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.