الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الشيخ أبو زهرة:
ونرى من هذا أن القاضي عياض قد قسّم الأوصاف التي تحلّى بها النبي عليه الصلاة والسلام إلى قسمين:
أحدهما: كان بالفطرة الإنسانيّة، وهي كمال الفطرة، ويلحق بها أوصافه الجسمية صلى الله عليه وسلم!
وثانيهما: ما اكتسبه بمقتضى التعاليم الشرعيّة، وذكر منها التواضع والحلم، والصبر والشكر، وحسن المعاملة، وبشكل عام ما يتعلق بحسن الأخلاق الذي هو جماع الفضائل الإنسانية، ويذكر أن من هذه الصفات المكتسبة بحكم الشرع الشريف والوحي إليه، مما تلتقي فيه الفطرة المستقيمة مع الوحي، فالجود والتواضع، والصبر، والفصاحة، والتأني، وحسن التأتي للأمور، والرفق في القول والعمل، ولين الجانب من غير ضعف، والقول الحق من غير عنف، كل هذه الصفات كانت في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كانت فيه بفطرته المستقيمة وبتهيئة الله تعالى قبل الرسالة، إعداداً لهذا المنصب الخطير، وهو رسالة الله تعالى إلى خلقه!
العقل المحمدي:
ولم يتوافر العقل الإنساني كما توافر في الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم ينزل عليه الوحي ويخاطب من السماء لكان عقله وحده كافياً لأن ينشئ دولة، ويقيم مجتمعاً طيّباً فاضلاً، ولكن أتمّ الله عليه نعمته، فجعله نبياً مرسلاً، فاجتمع له الكسب الذاتي بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنساني، والرسالة الإلهيّة الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغني عن الأخرى!
فما كانت الرسالة تجيء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصيّة كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته!
وما كانت الكفاية العقليّة في أسمى علوها بمغنية عن الرسالة؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون وحده كافياً في تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبّر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحي لا يفكر إلا فيما بين يديه، ولا يخترق الحجُب والأستار إلى ما وراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار!
ومنذ نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم والعقل المكتمل حليته العليا التي سما بها على الغلمان أترابه، ومنذ استوى غلاماً والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك واضحاً لكل من عرفه، وسبق أن ذكرنا طرفاً من ذلك!
ونحن حين نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى المظاهر وحدها، نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، حيث نفر من عادات الجاهليّة التي كانت تحرم وتحلل من غير بيّنة، ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة، ومن ثم لم يسجد لصنم قط؛ لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ويكره ذكر الأصنام وعبادتها!
وحسبنا أن قريشاً قد علمت بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكماً، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت المعارك أن تنصب -كما عرفنا- في شأن وضع الحجر!
وحسبنا -أيضاً- أنه صلى الله عليه وسلم لم يخض مع الخائضين في العصبيّة الجاهليّة، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وأنه كان يحب الوئام والسلام!