الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ما أنا؟ ومن أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟
ثم ما هذه الحياة؟ وما هذا الوجود؟ وما مبدؤه؟ وما غايته؟ وهل فوقه قوة تدبّره؟ وإرادة قاهرة تحركه؟ وما حقيقة تلك القوة المدبرة الحكيمة، وأنى لنا بمعرفتها وأسلوب حكمتها وتدبيرها؟
كل هذه أسئلة لا بد أن تمر على خاطر من يقيم في بيئة مثل البيئة التي كانت مهداً للرسول صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد بن بكر .. ولابد أن تنفعل لها الخواطر التي تمر بها، وتتأثر بها الفطر المصقولة التي جعل الله لها قابليّة الانطباع لما يمرّ عليها!
أما النفوس الصدئة والفطر الكثيفة فليس لها من ذلك الانفعال شيء، فكم من نفوس شهدت جلال الصحراء وجمالها كما شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم في طفولته، ولكن قليل جدًّا هم الذين تأثروا بذلك الجلال الوجودي والكمال الكوني، وانفعلت له فطرهم كما تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو طفل لم يجاوز الخامسة من عمره، وحتى هذا القليل لم يكتب له طرف مما كتب التاريخ من تسبيحات الفكر في محاريب الوجود، بل ضلوا وضل ذكرهم في متاهات الصحراء، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم وحده على ربوة الوجود يجاذبه هذا الجلال ترانيم التقديس في صور من التأملات والتفكير!
حياة الصحراء:
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من بادية بني سعد إلى مكة، بعد أن بلغ من عمره سنوات هي سن تبلغ فيها النفس أول مراحل النشاط والقوة والتطلع إلى معرفة كل مجهول!
وأي شيء في حياة الصحراء مجهول؟
أليست الحياة فيها مكشوفة عريانة؟
الأرض وما عليها من جبال ووديان وحيوان ونبات، والجو بعواصفه وأمطاره ورعوده وبروقه .. كلها أمور مرئيّة مشهودة، ولكن ما مبلغ علم الناس بها .. لا شيء سوى هذه الظواهر المكرورة في كل وقت وحين، أما ما وراء ذلك فهو محجب مغلق!
فأي شيء إذن في حياة الصحراء معلوم؟!
هذه الحيرة الفكريّة هي الآية الأولى التي قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب الوجود على صفحة الصحراء .. وهي التي رجع بها إلى مكة السادرة في غي وثنيّتها، السكرى بخمر أصنامها، المحجوبة عن التفكير في جمال الكون بتجارتها وأسواقها ومواسمها وأعيادها وعاداتها، فنظرت إليه ونظر إليها!
نظرت إليه بمنظار وثنيتها فلم تره يمشي إلى أصنامها لاهياً، كما يمشي أطفالها .. بل رأت فيه طفلاً كأنه يحمل من هموم الدنيا وأحزانها ما صرفه عن اللهو واللعب!
وارحمتا لهذا الصبي؛ إنه يتيم، يرى لداته من الأطفال يرتمون في أحضان آبائهم، فيضمّونهم إلى صدورهم، فيملؤه الحزن ألاّ يرى له أباً بين هؤلاء الآباء، كذلك فكرت مكة في نظرتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صمته وعزلته عن معابثها وملاهيها!
ونظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال حيرته الفكريّة، فرأى صوراً هزليّة، ورأى مسخاً للكرامة الإنسانيّة!
ما هذه الأحجار المنحوتة؟ وما هذا الدوار بها؟
وما هذه القرابين؟
ولمن يتقرّب بها؟
وفيم هذه الدماء المسفوكة؟ والمساكين غرقى؟، والفقراء جوعى، لا يصلون إلى شيء، ولا يصل إليهم شيء!
ولكن ما حيلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو طفل في هذه الهامات الضخمة، واللحى المسترسلة، والرقاب الغليظة، والأصوات المفزعة، والمجد الزائف، والشرف المؤثل؟!
- فهي التي تطوف بهذه الأحجار، وهي التي تدور وتتقرّب، وهي التي تهذل وتمسخ!
لو كان يسمع له لقال وتكلّم، ولعلّه أن يكون!
وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة ما يشغله عن صخب مكة ولهوها العابث حول أحجارها وأوثانها، فليذهب إلى أمّه ليسكن إلى ضمة صدرها وحنان قلبها، وقد كان يزورها مع ظئره، فتخطف له الحديث خطفاً عن أبيه وأسرته وقومه وبلده!
ولسان الحال يقول: أنت محمد بن عبد الله، الكريم بن الكريم، أبوك أنضر فتيان مكة وأشبّها شباباً، وأعلاها ذكراً، فأين هو؟
وتختنق آمنة العبرة، فلا تستطيع أن تمضي في الحديث، فينظر الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا العبرات المكتومة المتبادلة!
ويلتف إلى من يملأ حوله الملأ من صناديد قريش، فإذا هو شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم شريف مكة وكبير قريش، وهؤلاء الفتيان البهاليل المساميح