المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٢

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«بشارات النبوة وميثاق النبيين»

- ‌مقدمة

- ‌العصر الجاهلي

- ‌1 - أحط أدوار التاريخ:

- ‌2 - الصحف السماويّة في ميزان العلم والتاريخ:

- ‌3 - العهد القديم:

- ‌المرة الأولى:

- ‌والمرة الثانية:

- ‌والمرة الثالثة:

- ‌شواهد من دائرة المعارف اليهوديّة:

- ‌4 - العهد الجديد:

- ‌شهادة إيتين دينيه (ناصر الدين)

- ‌وأداه بحثه في الأناجيل، وقيمتها التاريخيّة إلى قوله:

- ‌شواهد داخلية:

- ‌5 - الإمبراطوريّة الرومانية الشرقية:

- ‌6 - الإمبراطوريّة الإيرانيّة:

- ‌7 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}:

- ‌8 - الجزيرة العربية:

- ‌9 - أوروبا:

- ‌10 - ظلام مطبق وليل دامس:

- ‌11 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}:

- ‌12 - الحاجة إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بشارات النبوّة

- ‌تمهيد:

- ‌1 - البشارة الأولى:

- ‌2 - البشارة الثانية:

- ‌3 - البشارة الثالثة:

- ‌4 - البشارة الرابعة:

- ‌5 - البشارة الخامسة:

- ‌6 - رواية البخاري وغيره لصفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة:

- ‌7 - أشهر أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌8 - أسماؤه في الشعر:

- ‌9 - ميثاق النبيّين:

- ‌10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌خصائص الجزيرة العربيّة

- ‌تمهيد:

- ‌1 - البيت الحرام:

- ‌2 - دعوة إبراهيم عليه السلام:

- ‌3 - أنبياء في الجزيرة:

- ‌4 - صفات العرب:

- ‌5 - وحدة اللغة:

- ‌6 - الموقع الجغرافي:

- ‌7 - حرم الإسلام:

- ‌أصحاب الفيل

- ‌تمهيد:

- ‌1 - {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}

- ‌2 - موقف الإيمان وموقف العقل:

- ‌3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها:

- ‌4 - دوافع المدرسة العقليّة:

- ‌5 - دروس وعبر:

- ‌6 - مكانة العقل:

- ‌7 - دور الرسالات في قيادة العقل:

- ‌8 - سطوة الغرائز:

- ‌9 - الدور الأول للرسالات:

- ‌10 - الدور الثاني للرسالات:

- ‌11 - المعجزة الكبرى:

- ‌من الميلاد إلى البعث

- ‌تمهيد:

- ‌1 - النسب الشريف:

- ‌تعريض الدكتور طه حسين:

- ‌تعريض المستشرقين:

- ‌أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌عبد مناف وزهرة:

- ‌هاشم:

- ‌الرفادة والسقاية:

- ‌عبد المطلب:

- ‌والد النبيّ:

- ‌حفر زمزم:

- ‌روى ابن إسحاق وغيره بسند حسن ذكر حفر زمزم، قال:

- ‌نَذْر عبد المطلب:

- ‌قصيدة أبي طالب:

- ‌قصيدة العباس:

- ‌قصيدة الناشئ:

- ‌يقول الحافظ ابن كثير:

- ‌قصيدة الخطيب:

- ‌شرف نسب النبي:

- ‌وُلد الهُدى:

- ‌2 - التربية الإلهيّة:

- ‌شق الصدر:

- ‌موقف عجيب:

- ‌السنن العامة والخاصة:

- ‌آيات الله:

- ‌وهنا يتساءل العقل الإنساني:

- ‌ثم يتساءل العقل مرة أخرى:

- ‌منهج القرآن:

- ‌قصة زكريا:

- ‌مريم وعيسى:

- ‌إبراهيم وسارة:

- ‌العقل والعلم:

- ‌وجوب التسليم:

- ‌حقائق التاريخ:

- ‌عاطفة الأمومة:

- ‌انفعال الخواطر:

- ‌حياة الصحراء:

- ‌صلة الرحم:

- ‌يُتم يلاحقه يتم:

- ‌أم أيمن:

- ‌كفالة عبد المطلب:

- ‌كفالة أبي طالب:

- ‌3 - المسؤوليّة والإيجابيّة:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم:

- ‌قصة بحيرى الراهب:

- ‌أثر هذه الرحلة:

- ‌تهافت المستشرقين:

- ‌حماية الله للنبي:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد حلف الفضول (المطيّبين):

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يتزوج خديجة:

- ‌أغنى الله اليتيم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل في بناء الكعبة:

- ‌4 - التكامل المحمدي:

- ‌تكافؤ الخلق:

- ‌خصال الكمال:

- ‌يقول الشيخ أبو زهرة:

- ‌العقل المحمدي:

- ‌قال القاضي عياض:

- ‌ولقد قال وهب بن منبه:

- ‌وقال ابن كثير:

- ‌بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الخلق الكامل:

- ‌وصف هند بن أبا هالة:

- ‌الصفة الأولى:

- ‌الصفة الثانية:

- ‌الصفة الثالثة:

- ‌الصفة الرابعة:

- ‌الصفة الخامسة:

- ‌الصفة السادسة:

- ‌الصفة السابعة:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء:

- ‌البعد الأخلاقي:

- ‌مراتب التعليم:

- ‌هذا حراء:

- ‌معالم على الطريق:

- ‌بين ميلادين:

- ‌قبس من الإيمان:

الفصل: ‌10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم

إن هذا الخواء المرير ليطارد البشريّة كالشبح المخيف .. يطاردها فتهرب منه، ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير!

وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم!

وما من أحد يزور البلاد الغنيّة الثريّة في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون!

هاربون من أشباح تطاردهم!

هاربون من ذوات أنفسهم!

وسرعان ما يكتشف الرخاء المادي والحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل والطين، عن الأمراض العصبية والنفسيّة، والشذوذ والقلق، والمرض والجنون، والمسكرات والمخدرات والجريمة، وفراغ الحياة من كل تصور كريم!

وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم!

إنهم لا يجدون سعادتهم؛ لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون، وبين نظامهم وناموس الوجود!

إنهم لا يجدون طمأنينتهم؛ لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون!

وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم!

‌10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم

-:

وقد سجل القرآن الكريم على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجود نعوته في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي

ص: 330

التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]!

وهنا نبصر نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء .. بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه .. فيا لها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله (1)!

وإنه لنبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم، منذ أمد بعيد، على يدي نبيهم موسى، ونبيهم عيسى عليهما السلام!

جاءهم الخبر اليقن ببعثته، وبصفاته، وبمنهج رسالته، وخصائص ملته، فهو (النبي الأميّ) وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي كانت عليهم، فيرفعها عنهم النبي الأميّ حين يؤمنون به، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم، ويؤمنون بآيات الله!

وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي، ويعظمونه،

(1) في ظلال القرآن: 3: 1378 بتصرف.

ص: 331

ويوقرونه، وينصرونه، ويؤيدونه، ويتبعون النور الهادي، الذي معه {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} !

وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل على يد نبيهم موسى عليه السلام كشف الحق -جل شأنه- عن مستقبل دينه، وعن حامل رايته، وعن طريق أتباعه، وعن مستقر رحمته؛ فلم يبق عذر لهؤلاء ومن على شاكلتهم بعد ذلك البلاع المبكر بالخبر اليقين!

وهذا الخبر اليقين من ربّ العالمين لموسى عليه السلام وهو السبعون المختارون من قومه لميقات ربّه. يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي وللدّين الذي جاء به، وفي التخفيف عنهم والتيسير، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين!

إنها الجريمة عن علم، وعن بينة!

الجريمة التي لم يألوا فيها جهداً، فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلقٍ وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به، اليهود أولاً، ومن على شاكلتهم أخيراً، وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ورسالته والمؤمنين كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية، وأنهم أصرّوا عليها ودأبوا، وما زالوا يصرّون ويدأبون!

والذي يراجع -فقط- ما سجله القرآن من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم في عناد لئيم!

والذي يراجع التاريخ بعد ذلك، منذ اليوم الأول الذي استعلن فيه هذا

ص: 332

الدّين، وقامت له دولة في المدينة، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدّين وإرادة محوه من الوجود!

ولقد استخدمت الصهيونيّة ومن على شاكلتها في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية كلها!

وهي في هذه الفترة -خاصة- تعالج إزالة هذا الدّين بجملته، وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة؛ لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جرّبتها في القرون الماضية كلها، بالإضافة إلى ما استحدثته منها، جملة واحدة!

ذلك في الوقت الذي يقوم ناس ممن ينتسبون إلى الإسلام، يدعون في سذاجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل الكتاب للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد!

ومن ثم أبصرنا الدعوة إلى مؤتمرات الأديان ومجتمع المسجد، ودور العبادة عند أهل الكتاب!

أهل الكتاب الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان، ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب التي سجلها التاريخ، وسجلتها محاكم التفتيش في الأندلس!

سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا، وأفريقيا، أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها في البلاد -وما أكثرها! - لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانيّة!

تنكر الغيبيّة، وتطوّر الأخلاق لتصبح حيوانيّة كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض في حريّة -كما يزعمون- وتقيم مؤتمرات المستشرقين للتطوّر في كل شيء!

ص: 333

إنها المعركة الوحشيّة الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا (الدّين القيم)، الذي بشّروا به وبنبيّه منذ ذلك الأمد البعيد، ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد!

وقبل أن يمضي السياق إلى مشهد جديد، يقف عند هذا البلاغ المبكر، يوجه الخطاب إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً، تصديقاً لوعد الله:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} !

إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم دون قوم، ولا أرض دون أرض، ولا جيل دون جيل، ولا قبيل دون قبيل!

ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محليّة قوميّة محدودة بفترة من الزمان -ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدي هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً للرسالة الأخيرة، وكانت كل رسالة تتضمن ما يناسب تدرج الشريعة، حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً، في كل جيل وفي كل قبيل، وفي كل عصر، وفي كل مصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان .. وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً، ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية -كما خرجت من يد الحق- إلا تعليم الله، فلم تَشُبْ هذه الفطرة شائبة من تعاليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} !

ص: 334

وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواجه برسالته الناس جميعاً، هي آية مكيّة في سورة مكيّة، وهي تُجبه المزوّرين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم لم يكن يفكّر وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكّر في أن يتجاوز بها قريشًا، ثم يتجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب، ثم يجاوز بها الجزيرة العربيّة إلى ما وراءها، كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف!

وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنّوها قديماً على هذا الدّين وأهله، وما يزالون ماضين فيها!

وليست البليّة في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم لهذا الدّين وأهله، وأن يكون المستشرقون الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدّين وأهله، إنما البليّة الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار من أبناء جلدتنا، الذين يتكلمون بألسنتنا، يتخذون من هؤلاء المزوّرين على أنبيائهم، المحاربين لعقيدتهم، أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدّين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدّين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذّج الأغرار لأنفسهم أنهم مثقفون!

ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن رسالته للناس جميعاً، فنجد بقيّة التكليف في تعريف الناس بربّهم الحق - جل شأنه -:

{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} !

إنه صلى الله عليه وسلم رسول للناس جميعاً من ربّهم الذي يملك هذا الوجود كله، وهم من هذا الوجود، والذي يتفرّد بالألوهية وحده، فالكل له عبيد، والذي تتجلّى قدرته وألوهيّته في أنه الذي يحيي ويميت!

ص: 335

والذي يملك الوجود كله، والذي له الألوهيّة على الخلائق وحده، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً .. هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه، الذي يبلغه إليهم رسوله، فهو تعريف للناس بربّهم، لتقوم على هذا التعريف عبوديّتهم له، وطاعتهم لرسوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} !

وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغى أن نقف أمامها لحظات:

إنه يتضمن ابتداءً ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام، ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} !

فالأمر بالإيمان هو أمر الإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة، كما سبقه التعريف برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعاً:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} !

ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته .. ومع أن هذه بديهيّة، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها، فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه، لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه:

{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} !

ص: 336

وهو نفس ما يدعو إليه!

ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه، وهو اتباعه فيما يأمر به ويدعو إليه ويحث عليه، واتباعه كذلك فيما يبيّنه، وهو ما يقرره قول الحق سبحانه:

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} !

فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا باتباعه فيه. ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم!

إن هذا (الدّين القيّم) يعلن عن حقيقته في كل مناسبة .. إنه ليس مجرد عقيدة تستكنّ في الضمير .. كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس، إنما هو الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وفيما يبيّنه ويسنه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب، ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبديّة فحسب، ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله .. ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا، فهذا هو دين الله، وليس لهذا الدّين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة:

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} !

بعد الإيمان بالله ورسوله، ولو كان الأمر في هذا الدّين أمر اعتقاد وكفى، لكان في قوله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الكفاية!

ص: 337