الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هولاً، وأفظع من همجيّة العهد القديم لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة، وقُضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا، وفرنسا، فريسة الدمار والفوضى والخراب) (1)!
10 - ظلام مطبق وليل دامس:
كان عالماً متداعياً قد شارف النهاية (2)، خلاصة ما يقال فيه: إنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام، فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر!
طمأنينة الباطن قد تنشأ من الركون إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعيف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور!
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف المبطلين!
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علماً عليها، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر، حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها!
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس، وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات!
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الماديّة تارة، ومن الهمجيّة تارة، وبين ما هو ضرب من عبادة الأوثان، ثم هي بعد هذا التشويه ليست بذات
(1) The Making of Humanity، P. 164
(2)
عبقرية محمد: العقاد: 12 بتصرف، دار الشعب.
رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ، فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات!
كان عالماً يتطلع إلى غير حاله، يتهيّأ للتبديل أو الهدم، ثم للبناء!
كان القرن السادس المسيحي من أحط أدوار التاريخ، ومن أشدها ظلاماً ويأساً، من مستقبل الإنسانيّة وصلاحيتها للبقاء والازدهار!
وقد أحسن المؤلف الإنجليزي (هـ. ج. ولس H.G. Wells) تصوير هذا العصر فقال وهو يبحث الظروف السائدة في عهد الحكومتين: الساسانيّة، والبيزنطيّة، في القرن السادس للميلاد:
(كانت العلوم والفلسفة والسياسة في حالة احتضار في عهد هذين النظامين المتحاربين، والمتجهين إلى الانحطاط، فقد كان الجيل الأخير من فلاسفة أثينا عاضاً على المؤلفات الأدبيّة العتيقة بالنواجذ، بكل احترام وحب، ولو بدون فهم لها، فلما انقرض هذا الجيل، لم تبق طبقة ولا أفراد أحرار شجعان، يتزعمون حريّة الفكر، وحريّة التعبير، ولا الذي يحتفظون -على الأقل -بتراث فكر حر، وبحث نزيه جدي، على دأب القدماء والسابقين لهم، وبجانب ما كان للفوضى السياسيّة والاجتماعيّة من دور كبير على مثل هذه الطبقة، كان من العوامل التي ساعدت على شلل الفكر الإنساني، وتجمد القرائح البشريّة، أن هذا العصر كان عصر العصبية وعدم التسامح في ظلام الحكومتين: الإيرانيّة، والبيزنطيّة، فقد كانت هاتان الحكومتان دينيتين نوعاً ما، وكانتا قد فرضتا قيوداً على العقل البشري)!
وبعدما قص الكاتب قصة زحف الإمبراطوريّة الإيرانيّة على الإمبراطوريّة البيزنطيّة، ثم انتصار البيزنطيّين على الإيرانيّين، في شيء من التوسع، عاد
إلى وصف التدهور الاجتماعي والخلقي السائد في أواخر القرن السادس المسيحي، فقال:(كان يسوغ لمتتبع -غير محنك ناضج الفكر- للأوضاع السائدة في أوائل القرن السابع المسيحي، أن يتنبأ بسهولة وثقة أن أوروبّا وآسيا ستقعان تحت رحمة المغول الوحوش في غضون بضعة قرون قادمة، فلم تكن في أوروبّا الغربيّة أمارات للأمن والنظام وحكم القانون، وقد كانت المملكتان: البيزنطيّة، والإيرانيّة مشغولتين في حرب إبادة وتدمير، بينما كانت الهند في حالة توزعّ ويؤس)(1)!
وبالجملة فقد كانت الإنسانية حينئذ في طريق الانتحار (2)، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وفقد قوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، وكان الناس في شغل شاغل، وفكر ذاهل، لا يرفعون إلى الدّين والآخرة رأساً، ولا يفكرون في الروح والقلب، والسعادة الأخروية وخدمة الإنسانية، وإصلاح الحال لحظة!
وهنا نبصر القرآن الكريم يكشف عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، ويبين أن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارها، غالباً عليها:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم]!
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة (3)!
(1) السيرة النبويّة: الندوي: 42 - 43 نقلاً عن: A short History of the world (London، 1924) P. 140 - 41 ، 144 .
(2)
المرجع السابق: 44.
(3)
انظر: في ظلال القرآن: 5: 2773.