الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ميزان ثقلت إحدى كفتيه -لغير سبب- ينبسطون للمستحيلات ويقبلونها، ويتهجمون للوقائع ويرفضونها!
ونحن موقنون من مطالعة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه طراز رفيع من الفكر الصائب، والنظر السديد، وأنه -قبل رعي الغنم وبعده، وقبل احتراف التجارة وبعدها- كان يعيش الحياة في أعماق الصحراء، صاحياً بين السكارى والغافلين!
وجو الجزيرة العربيّة يزيد خمول الخامل وحدة اليقظان، كالشعاع الذي ينمي الأشواك والورد معاً .. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعين بصمته الطويل، صمته الموصول بالليل والنهار .. صمته المطبق على الرمال الممتدة، والعمران القليل!
كان يستعين بهذا الصمت الطويل الموصول المطبق على طول التأمل، وإدمان الفكر، واستنكاه الحق!
ودرجة الارتقاء النفسي التي بلغها من النظر الدائم أرجح يقيناً من حفظ لا فهم فيه، أو فهم لا أدب معه، ومثله في احترام حقائق الكون والحياة أولى بالتقديم من أولئك الذين اعتنقوا الأوهام وعاشوا بها ولها!
ولاشك أن الله حاطه بما يحفظ عليه هذا الاتجاه الفذ!
مراتب التعليم:
إن مراتب التعليم المختلفة هي مراحل جهاد متصل لتهذيب العقل وتقوية ملكاته، وتصويب نظرته إلى الكون والحياة والأحياء، فكل تعليم يقصر بأصحابه عن هذا الشأو لا يؤبه له، مهما وسم بالشهادات والإجازات!
وأحق منه بالحفاوة، وأسبق إلى الغاية المنشودة، أن ينال المرء حظاً وافراً من حسن الفطرة وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف!
وقد أشار القرآن الكريم إلى نصيب إبراهيم عليه السلام من هذه الخصال عندما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} (الأَنبياء)!
ومحمد صلى الله عليه وسلم في هذا كجده إبراهيم، إنه لم يتلق علماً على راهب أو كاهن أو فيلسوف ممن ظهروا في عهده، ولكنه بعقله الخصب، وفطرته الصافية، طالع صحائف الحياة، وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف منها ما عرف من خرافة ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجده حسناً شارك فيه بقدر -كما عرفنا- وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، يتابع النظر الدائم في ملكوت السموات والأرض، وذلك أجدى عليه من علوم هي بالجهل المركب أشبه، ومن مجتمع فقد الهداة من قرون، فهو يضم ضلالاً جديداً إلى الضلال القديم كلما مر عليه ليل وجاء صباح!
إن الوثنيّة تزيّن باطلها بطلاء من التمويه، ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة!
وإن العامة بهم أحلاس ما توارثوا، ففقدوا نعمة العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون!
وأما الذين أوتوا حظاً من التفكير، فإن تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرأ على التقاليد الباطلة المستحكمة ويجهر بالحق، وأقل من ذلك من يعيش له ويضحي في سبيله!
وهيأ الله للبشرية رجلاً يبصر الحق، ويملك من الطاقة ما يدفعه إلى آفاق العالمين!
وفي الغار المهيب المحجّب، كانت نفس كبيرة تطل من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم واعتداء وانحدار، ثم تتألم حسرة وحيرة؛ لأنها لا تدري من ذلك مخرجاً!
في هذا الغار النائي المهيب المحجّب كانت عين نافذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم العتم لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه!
في غار حراء المهيب المحجّب كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبّد، حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأصبح لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح -كما سيأتي- ومن قبله شهد بطن الصحراء أخاً لمحمد صلى الله عليه وسلم يخرج من مصر ويجتاز القفار متلمساً الأمن والسكينة والهدى، لنفسه وقومه، فبرقت له من شاطئ الوادي الأيمن نار مؤنسة، فلما تيممها إذا النداء الأقدس يغمر مسامعه ويتخلل مشاعره:
إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون لتتقد مرة أخرى في جوانب الغار المهيب المحجّب الذي حوى خير الخلق يتعبّد، نائياً بجسمه وروحه عن أرجاس الجاهليّة ومساوئها وأدناسها، لكن الشعلة لم تكن ناراً تستدرج الناظر، بل