الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في خلقه، وسلطان قدرته عليهم، إلى ما جرت به العادة، وتعارفه الناس، فقد فظع بهم أن يؤمنوا بهذا، كما آمن المؤمنون بجلال الله، وواسع قدرته، ومحكم إرادته، وعظيم سلطانه، وأبوا إلا تحريف كلام الله عن مواضعه، وتأويل آياته الصريحة الصادقة، والتمسوا في الأمور الاعتيادية ملجأ للتأويل!
والطير في لغة العرب عامة معروف المعنى، والحجارة كذلك معروفة المعنى، والقرآن إذ عبّر بهما أراد إلى هذا المعنى المكشوف البين المتبادر إلى فهم السامع!
وإذا كان وزر المتزيّدين في الروايات أنهم تزيدوا وأغرقوا، وقبلوا كل تافه وغثاء، فوزر المتأولين أنهم أجحفوا، وتنقصوا وظلموا الحقيقة، وردوا ظاهر القرآن لغير ضرورة ملجئة!
وإذا جاء التأويل في شيء من موضوعات القرآن الكريم، وصرف ألفاظه عن معانيها الظاهرة المتبادرة، لاعتياصها على بعض الأفهام، فالقصص القرآني أبعد ما يكون عن ذلك؛ لأن ألفاظ هذا القصص من الوضوح والبيان بمكان رفيع؛ لأن المقصود الأول من القصص في القرآن هو العظة والعبرة والتأسي، وذلك لا يتحقق إلا بألفاظ بيّنة المعاني، واضحة الدلالة على مقصودها!
3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها:
وثالث ما يطالعنا: رواج قصة الحصبة والجدري، فقد روى الطبري عن عكرمة قال: كانت ترميهم بحجارة معها، قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري، قال: كان أول يوم رُؤي فيه الجدري، قال: لم يُر قبل ذلك
اليوم ولا بعده! وروى -أيضاً- عن يعقوب في عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أنه حدّث، أن أول ما رُؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام (1)!
وقد قال بعض الكتّاب:
إنهم أصيبوا بالجدري قَرَّحَ أجسامهم، ولعل جرثومة ذلك الداء الوبيل كانت من الأحجار التي رمتها الطيور التي جاءتهم وباء وبلاء وإهلاكاً، وقد كادوا من الشر كيدهم، ودبروا بالفساد أمرهم!
قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله:
وليس عندي ما يمنع أن يكونوا قد أصيبوا بالجدري بما رماهم الله تعالى به .. إذا قلنا إن الحجارة كانت تحمل معها جرثومة هذه الأمراض الفتاكة، ولكن ما لا يقبل هو القول بأن الطير هي جراثيم ذلك المرض؛ لأن هذا يكون مخالفاً لنص الآية الكريمة الذي يفيد أن الطير رمتهم بحجارة قوية شديدة (2)!
وقال الشيخ محمد عبده رحمه الله (3):
وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة .. وذكر الروايتين السابقتين عن عكرمة ويعقوب .. وقال: وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذُعر الجيش وصاحبه، وولوا هاربين، وأصيب قائد الجيش، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة، وأنملة أنملة، حتى انصدع صدره، ومات في صنعاء!
(1) تفسير الطبري: 30: 298، 303، وانظر: تفسير القرطبي: 20: 198.
(2)
خاتم النبيين: 1: 133 بتصرف.
(3)
تفسير جزء عم: سورة الفيل، بتصرف، وانظر كتابنا: السنة بين أنصارها وخصومها: 1: 411 وما بعدها.
قال: هذا ما اتفقت عليه الروايات، ويصح الاعتقاد به. وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فرق عظيمة من الطير، مما يرسله الله مع الريح!
فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الظن المسموم اليابس الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسده دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير -الذي يسمونه الآن بالميكروب- لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يُحصي عددها إلا بارئها .. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها .. فلله جند من كل شيء:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد
وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته .. فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه، قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه -على وثنيّتهم- حفظاً لبيته، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه!
وقال: هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو مما
لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته .. ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل -وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً- ويهلك، بحيوان صغير لا يظهر للنظر، ولا يدرك بالبصر، حيث ساقه القدر. لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر!
وهذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ الإمام ليس أولى بتفسير الحادث من ظاهر النصوص -كما أسلفنا-، وبالتالي لا يصح الاعتماد عليه، ذلك أن ابن الأثير علّق على رواية الطبري عن يعقوب بن عتبة التي أوردها الطبري -كما سبق- بقوله:
وهذا مما لا ينبغي أن يعرج عليه، فإن هذه الأمراض قبل الفيل منذ خلق الله العالم (1). وأن الماوردي نقل قول أبي صالح: رأيت في دار أم هانئ نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة، كأنها الجزع. وقال ابن مسعود: ولما رمت الطير بالحجارة بعث الله ريحاً فزادتها شدة، وكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة (2)!
ولذلك يتبيّن لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض الذين قالوا (3): إن الله عز وجل يريد بالطير الرياح المتجمعة، وبالحجارة ذرات التراب التي حملت ميكروب الجدري، كما ذهب الدكتور (هيكل) وغيره!
فإنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل، ولا ينبغي
(1) انظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1:، 97.
(2)
تفسير الماوردي: 4: 521.
(3)
القول المبين في سيرة سيد المرسلين: 16 - 17، وانظر قول الدكتور هيكل في (حياة محمد):102.
أن يقال ذلك، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله!
وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري فلماذا هلك الأحباش وحدهم، ولِمَ لم يهلك معهم العرب؟!
وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن الثابت -كما أسلفنا- أن سورة الفيل قد نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا الحادث بأعينهم، وبعضهم من أعداء الرسالة والرسول، فلو لم تكن الطيور طيوراً حقيقة، والحجارة حجارة حقيقيّة، لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب حادث الفيل بهذه الصورة في تلك السورة، ويعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وينتهزها فرصة في الكيد للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم!
ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت تقرّر حقيقة واقعة معروفة عند العرب، لا شك فيها، ولا يجرؤ أحد على إنكارها!
ثم إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه (1)، وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يُطيقون، وبمقدار ما يتهيّؤون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق-كما يسمّونها- هي من سنّة الله، ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه!
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة متردّدين ولا مؤوّلين لها -متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت
(1) في ظلال القرآن: 6: 3977 وما بعدها بتصرف.
خارقة، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم. في الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف، فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر!
إن طلوع الشمس وغروبها خارقة -وهي معهودة كل يوم- وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة - وإلا فليجرّب من شاء أن يجرّب!
وإن تسليط طير -كائناً ما كان- يحمل حجارة مسحوقة ملوّثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقاءها في هذه الأرض، في هذا الأوان، وإحداث هذا الوباء في الجيش، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة، بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير .. وليست أقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة .. هذه من تلك .. هذه خارقة، وتلك خارقة، على السواء!
فأما في هذا الحادث خاصة، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفاً مثيراً، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشير بأن عنصر المبالغة والتهويل مضافاً إليها! - تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود!
نحن أميل إلى هذا الاعتبار؛ لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة، ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فقد كان الله سبحانه يريد بهذا البيت أمراً .. يريد أن يحفظه ليكون مثابةً للناس وأمناً، وليكون نقطة تجمع للعقيدة تزحف منه حرة طليقة، في أرض حرة طليقة، لا
يهيمن عليها أحد من خارجها، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها .. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى ليمتنّ بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها .. فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكل مقوماته وبكل أجزائه .. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو ذاته وبملابساته مفرد فذ!
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فقد روى ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يُهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيراً أنشئت من البحر، أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار مجزّعة، حجرين في رجليه، وحجراً في منقاره، قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إِلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إِلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحاً شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة، فأهلكوا جميعاً (1)!
ومنهم من هلك سريعاً، ومنهم من جعل يتساقط عضواً عضواً وهم هاربون، كما قال عطاء وغيره (2)!
والجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضواً عضواً!
(1) تفسير ابن كثير: 4: 551، وانظر: تفسير الطبري: 30: 303.
(2)
تفسير ابن كثير: 4: 551.