الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم
-:
(وأما عن بلاغته صلى الله عليه وسلم، فحسبنا أن فصاحته من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق -كما يقول الرافعي- (1) فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه، وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغويّة فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعاً مقدراً، على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع إيجاز، ومن كلمة غيرُها أليق، ومعنى غيره أردُّ، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلّ ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام، وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها. يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به!
بيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب؛ على أنه لا يتكلّف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقَط ولا استكراه، ولا تستزله الفجاءة وما يبده من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد الناظر إلى كلامه طريقاً يتصفح منه صاعداً أو منحدراً، ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية!
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 281 وما بعدها بتصرف.
وإن كان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ:
(هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف .. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجرَ الغريب الوحشيّ، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا (1) عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، هو مع استغنائه عن إعاداته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت له قدم، ولا بارتْ له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ (2) الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلَج (3) إلا بالحق، ولا يستعن بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لساناً لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم)!
(ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذ ابتعثه للعرب، وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في
(1) في المرجع السابق بدون (إلا) وهي في: خاتم النبيّين: 1: 227 ونقلنا منه زيادات في بعض الألفاظ.
(2)
في خاتم النبيّين: (بل يبدأ) انظر: المرجع السابق.
(3)
الفلج: الظّفَر، يقال: فلك بحاجته وبحجته: أحسن الإدلاء بها فغلب خصمه: المعجم الوسيط (فلج).
البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون في ذلك، على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، وعلى اختلاف مواطنهم، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ)!
(فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدّهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه وتحدّثوا به واستفاض فيهم)!
(ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيًّا بعد حي، وقبيلاً بعد قبيل، حتى يَفْلى (1) لغاتهم، وبتتبع مناطقهم، مستفرغاً في ذلك متوفّراً عليه، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتهيّأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه، علماً ليس بالظن، ويقيناً لا مساغ للشبهة فيه، إذا ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم، فما عُرف أن أحداً منهم تقصص اللغات، وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع، واختلاف الصيغ، وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم، أو ينتحله فيهم، بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم؛ لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها أو ينمّيها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها، فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قد
(1) يقال: فلى الأمر: تدبره، والقضية: أطال التأمل فيها والنظر: المرجع السابق.
كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن، فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم، حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم، لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البيِّنة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة .. فهذه واحدة!
وأما الثانية فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في اللغة القرشيّة التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها، مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة، واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفاً، ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولةً ومعاناةً، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعة، والذهن الحاد، والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع)!
(وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها، كالرسول صلى الله عليه وسلم، فهو اصطنعه لوحيه، ونصَبه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته، وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام، وجمال الطبيعة، وصفاء
الحاسة، وثقوب الذهن، واجتماع النفس، وقوة الفطرة، ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض)!
(ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغويّة في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها، فإنما هذه سبيله: يأتي من ورائها، وهي الأسباب إليه، وقد نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده -كلما أسلفنا- في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة)!
(والفصاحة أكبر أمر العرب -كما عرفنا-، والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم ولا ردوه، ولا غضّوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلاً، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقاً، ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ولجعلوا من ذلك سبباً لنقض دعوته، والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الفصاحة على أتم وجوهها، وأشرف مذاهبها، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم، ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير، متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء، لا يستكره في بيانه معنى، ولا يندُّ في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف، ولا يشق عليه مَنْزْعٌ، ولا يعتريه مما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما
ليس منه، والتحيّف لمعنى آخر بالنقض فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع، إلى أمثال أخرى، لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصاً ينبض تحت أصابعه، ولو هم اطّلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرّضوا، ولكان ذلك مأثوراً عنهم، دائراً على ألسنتهم، مستفيضاً في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردّوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلسه حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خُلَّص، لا يستجيبون إلا لأفصحهم لساناً، وأبينهم بياناً، وخاصة في أول النبوة، وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته، واطّرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم .. علمنا قطعاً وضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافياً بغيره، كافياً من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم)!
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من فصاحة اللسان وبلاغة القول -كما يقول القاضي عياض- (1) بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثيراً من أصحابه يسألونه في موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله!
(1) خاتم النبيين: 1: 229 وما بعدها بتصرف.
يقول الشيخ أبو زهرة: وإن هذا يدل على أنه عليه السلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة التي كان يلتقي فيها بقبائل العرب، في موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء مدرك لها، وتحصيل واعٍ لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجري حوله!
وإن تعلمه لهجات العرب، وفوارق لغاتهم، يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة!
وساق القاضي عياض شواهد من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم .. ثم قال:
وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألّفت فيها الكتاب، ومنها ما لا يُوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة .. وذكر بعض الأحاديث .. وبعض العبارات التي لم يسبق بها (1)!
وإننا إن تركنا أقوال الذين شاهدوا وعاينوا من صحابته، والذين رأوا المنقول في سيرته، وعمدنا إلى الأحاديث المدونة الصادقة النسبة، والتي رواها العدول طبقة بعد طبقة، وأردنا أن نتعرف نسق بيانها عن عباراتها، ومحكم معانيها من ألفاظها!
فإننا نجد أن اللفظ يجيء سهلاً، وفيه الجمال الطبيعي، والألفاظ المتناسقة، مع الإيجاز، وإحكام المعاني، والاتجاه إلى مقصد القول وتصوره أحياناً، بالحقيقة وبكون لها جمال كجمال الطبيعة!
ونجد من خصائص البلاغة النبويّة أنها لا تعلو على العقول الفطريّة، فهي تدركها في أيسر كلفة، مع جلال المعنى وعمقه وقوة نفوذه في النفوس، والخاصة يجدون فيه علم ما لم يعلموا!
(1) انظر: الشفاء: 1: 46.
ونجد أن كلامه عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، التي تجمع بين الحكم الكثيرة والألفاظ القليلة والمعاني الجديدة التي لم تكن معروفة!
ونجد من الظواهر العامة أنه يخاطب العقل والوجدان، من غير استكراه للألفاظ، أو تكلف في المعاني، وأن قوله يجري سهلاً طيباً قيّماً!
ونجد أن كلامه بديع في ذاته من غير صناعة، وجميل في نسق محكم .. ولهذا أثره البالغ في الدعوة!
حقاً، إن بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه، فنحن لا ندرك كنهه، وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه، وإنما تعلم خبره!
وهل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟!
وهل يُعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟!
وهل يجد في نفسه (1) من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟!
إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربيّة، وإذا كان كلام الله كتاب البيان المعجز، فإن كلام الرسول سنة هذا البيان، وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة خاتم النبيين، حيث تجمعت فيه صلى الله عليه وسلم خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة -كما أسلفنا- وإن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز!
فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانيّة، ويرتجله من الأوضاع التركيبيّة، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحيّة!
(1) وحي الرسالة: 3: 105 وما بعدها بتصرف.