الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعود للحديث الثاني فنقول: القَلس ـ بفتح القاف واللام، ويُروى بسكونها ـ قال الخليل: هو ما خرج من الحلق ملءَ الفم أو دونه، وليس بقيء، وإن عاد فهو قيء. فالحديث يفيد أن ما يخرج من المعدة إلى الفم ينقض الوضوء سواء خرج دفقة واحدة أو عدة دفقات، أي سواء خرج قليلاً أو كثيراً.
4) مسُّ الفرْج
وردت في مس الفرج الأحاديث التالية:
أ- عن بُسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من مسَّ ذَكرَه فلا يصلِّ حتى يتوضأ» رواه الترمذيُّ وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة ومالك، وصححه الترمذي وأحمد والدارقطني والبيهقي والحاكم. وفي روايةٍ للنَّسائي عن بُسرة «أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما يُتوضأ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويُتوضأُ من مسِّ الذَّكر» . وفي رواية لابن حِبَّان عن بُسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا مسَّ أحدُكم فرجه فلْيتوضأ، والمرأة مثل ذلك» . وفي رواية للطبراني عن بُسرة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مسَّ فرجه فقد وجب عليه الوضوء» .
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما سِتر ولا حجاب فلْيتوضأ» رواه ابن حِبَّان والحاكم من طريق نافع بن أبي نعيم عن المقبري عن أبي هريرة. وصححه ابن حِبَّان والحاكم وابن عبد البر.
ج - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيُّما رجلٍ مسَّ فرجه فلْيتوضأ، وأيُّما امرأةٍ مسَّت فرجها فلْتتوضأ» رواه الدارقطني وأحمد والبيهقي. ونقل الترمذي عن البخاري قوله (هو عندي صحيح) وقال الحازمي: هذا إسناد صحيح. وقوَّاه الذهبي.
د- عن طلق بن علي قال «قدِمْنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مسِّ الرجل ذَكَرَه بعدما يتوضأ؟ فقال: هل هو إلا مُضغة منه، أو قال: بَضعة منه؟» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد والترمذي. وصححه ابن حِبَّان والطبراني وابن حزم. ويُروى أنَّ ابن المديني قال: هو عندنا أحسن من حديث بُسرة. وضعَّفه الشافعي وأبوحاتم وأبو زُرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادَّعى ابن حِبَّان والطبراني وابن العربي والحازمي أنه منسوخ.
اختلف الأئمة والعلماء ومِنْ قبلهم الصحابةُ في نقض الوضوء من مسِّ الفرج، فذكر الحازمي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص في إحدى الروايتين عنه، وسعيد بن المسيِّب في إحدى الروايتين عنه، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وربيعة بن عبد الرحمن وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأصحابه رأوا ترك الوضوء من مسِّ الذَّكر.
وخالفهم آخرون ذاهبين إلى إيجاب الوضوء من مسِّه، وممن رُوي عنهم الإيجاب من الصحابة - حسب ما ذكر الحازمي - عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري وزيد بن خالد وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وعائشة وأم حبيبة وبُسرة بنت صفوان وسعد بن أبي وقاص في الرواية الثانية عنه وابن عباس في الرواية الثانية عنه، ومن التابعين عروة بن الزبير وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح وأبان بن عثمان وجابر بن زيد والزُّهري ومصعب بن سعد ويحيى بن أبي كثير وسعيد بن المسيِّب في أصح الروايتين عنه وهشام بن عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق والمشهور من قول مالك.
وقال الشافعيون إن النقض إنما يكون إذا مُسَّ الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء، وروي عن مالك القول بندب الوضوء من مسِّ الذَّكر، ورُوي عن جابر بن زيد أنه قال بالنقض إن وقع المسُّ عمداً لا إن وقع سهواً. هذه خلاصة الآراء في هذه المسألة.
ونستعرض الأحاديث المتعلقة بهذه المسألة، ونستنبط منها الأحكام بإذن الله كما يلي: الحديث الأول: الرواية الأولى تقول «مَن مسَّ ذَكَره فلا يُصلِّ حتى يتوضأ» والرواية الثانية تقول «ويُتوضأ من مسِّ الذَّكر» والرواية الثالثة تقول «إذا مسَّ أحدُكم فرجَه فلْيتوضأ، والمرأة مثل ذلك» والرواية الرابعة تقول «من مسَّ فرجه فقد وجب عليه الوضوء» والحديث الثاني يقول «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه
…
فلْيتوضأ» والحديث الثالث يقول «أيُّما رجلٍ مسَّ فرجه فلْيتوضأ وأيُّما امرأةٍ مسَّت فرجها فلْتتوضأ» والحديث الرابع يقول «هل هو إلا مُضغة منه، أو قال: بَضعة منه؟» .
من هذا الاستعراض يتبين أن من مسَّ ذَكَره أو فرجه أو ذَكَراً توضأ، وأن ذلك عام في الرجال والنساء، فمن مسَّ ذَكره أو ذَكَر غيره بدلالة الرواية الثانية من الحديث الأول، أو مسَّ فرجه توضأ، والمرأة إن مسَّت فرجها توضأت، ونجد أن الأحاديث ذكرت الذَّكَر وذكرت الفرج، أما الذَّكر فهو قُبُل الرجل، وأما الفرج فيطلق على القُبُل وعلى الدُّبُر للرجال والنساء، لأنه العورة كما في القاموس ولسان العرب، وألفاظ الأحاديث تُفسر باللغة ما لم يكن لها حقائق شرعية مغايرة، وهنا كلمة الفرج وكلمة الذَّكَر ليس لهما في الشرع معنى مغاير لما هو في اللغة فتُفسَّران تفسيراً لغوياً، والقاموس ولسان العرب فسَّرا الفرج بأنه العورة وهي تشمل القبل والدُّبر، فيُعمل بهذا التفسير. وبذلك تكون الأحاديث قد أفادت أن مسَّ القُبُل والدُّبُر للرجل والمرأة ينقض الوضوء، والأحاديث صحيحة تصلح للاحتجاج، وهي أعطت هذا الحكم، أي حكم النقض للوضوء من مسِّ القُبُل والدُّبُر للذَّكَر والأنثى.
أما الحديث الرابع فقد استدل به من قالوا بعدم النقض، وهم من ذكرنا من الصحابة والأئمة والعلماء، ولكن الحديث لا يُسعفهم، ولا يصمد أمام أحاديث النقض، قال البيهقي (يكفي في ترجيح حديث بُسرة ـ أي الأول ـ على حديث طلق ـ أي الرابع ـ أن حديث طلق لم يحتجَّ الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته) فهذه أولى الحجج في ترجيح الإيجاب على عدمه.
والثانية: إن إسلام بُسرة متأخر وإسلام طَلْقٍ متقدِّم. قال ابن حِبَّان الذي روى الحديث (خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ، لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنة من سِنِي الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة) . في حين أن بسرة أسلمت بعد ذلك بكثير كما هو معلوم عند أئمة الحديث، وحديث أبي هريرة الثاني يعضد حديث بُسرة لأن أبا هريرة هو الآخر متأخر الإسلام كبُسرة. قال ابن حِبَّان (أبو هريرة أسلم سنة سبعٍ من الهجرة، والمتأخر أقوى وأوجب في الأخذ والعمل من المتقدم، والذي يزيد حديث بُسرة قوة أنها حدَّثت بالحديث في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون) .
والثالثة: إن حديث طلق ضعَّفه عدد كبير من الأئمة المعتبرين. قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: قيس بن طلق ممن لا تقوم به حجة. والمعلوم أن حديث طلق بن علي هو من رواية ابنه قيس بن طلق، في حين أن الأئمة الذين ضعَّفوا حديث بسرة إنما ضعَّفوه من طريق عروة عن مروان عن بُسرة، ومروان مطعون في عدالته، ولكن ابن خُزَيمة وغيره جزموا بأن عُروة سمعه من بُسرة مباشرة، ففي صحيح ابن حِبَّان وسنن الدارقطني «قال عروة فسألت بُسرة فصدَّقته» . وبمثل هذا أجاب ابن خُزَيمة والحاكم، فيسقط تضعيفهم هذا.
ثم هم قد ضعَّفوه بقولهم إن هشاماً لم يسمع من أبيه عروة، قاله النَّسائي والطَّحاوي، ونحن ندفع هذا التضعيف بأن هشاماً قد رواه مرة عن أبيه عروة، ومرة عن أبي بكر بن محمد، وقد صرَّح أحمد في روايةٍ بأن أباه حدثه، وصرَّح الترمذي في رواية بأن أباه أخبره، وبذلك يكون هشام قد رواه مرة عن أبيه مباشرة، ومرة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، فحدَّث بهذا وحدَّث بهذا، وهذا لا يضعِّف الحديث. فالحديث غير ضعيف بل هو صحيح، في حين أن حديث طلق مشكوك في صحته.
والرابعة: إن عدم وجوب الوضوء من مسِّ الفرج أُخذ من حديث طلق بالمفهوم، في حين أن أحاديثنا تفيد الوجوب منطوقاً، والمنطوق أقوى من المفهوم.
لهذه الأسباب يترجح حديث بُسرة والأحاديث الأخرى القائلة بإيجاب النقض، ويُترك العمل بحديث طلق لأنه لا يصلح للاستدلال به على هذه المسألة بعد أن بان ما بان. وبذلك يظهر وجه الحق في إيجاب الوضوء من مسِّ الفرج قُبُلاً كان أو دُبُراً، لرجل أو لامرأة، لفرجِهِ أو لفرجِ غيرِهِ.
أما رأي الشافعية من أن النقض إنما يكون بباطن الكف دون ظهره فضعيف، قال عالم اللغة ابن سيده في المحكم: أفضى فلان إلى فلان وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم (الإفضاء يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها، قال: ولا دليل على ما قالوه من التخصيص بالباطن من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي صحيح) أجل إما أن يأتي الشافعيون بدليل على ما يقولون وإما أن رأيهم غير صحيح، فالأدلة الشرعية لا تقول بما يقولون، واللغة لا تسعفهم فيما ذهبوا إليه.
أما ما يُروى عن مالك من القول باستحباب الوضوء من المسِّ دون الوجوب، فحديث بُسرة القائل «فقد وجب عليه الوضوء» يردُّه. وأما رأي جابر بن زيد القائل إن النقض إنما يكون بالمسِّ المتعمَّد دون المسِّ سهواً فإن الأحاديث كلها تردُّه، إذ لم تُفرِّق الأحاديث بين العمد والسَّهو.