الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هناك نجِسٌ، وهناك متنجِّسٌ،فأعيان النجاسات السابق بحثها وتحديدها هي من فئة النَّجِس، وإذا خالط النَّجِس غيره نجَّسَه فصار متنجِّساً، والحكم بالاجتناب والإزالة إنما يتعلق بالنَّجِس دون المتنجِّس، فالمتنجِّس يمكن إعادته إلى أصله من الطهارة بتخليصه من النَّجِس إلا أشياء نادرة، وأما النَّجِس فأصله النجاسة، ويظل نجِساً ولا يَطْهر إلا في حالة واحدة نادرة أيضاً.
حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس
حرَّم الشرع الانتفاع بالنَّجِس تحريماً عاماً مطلقاً، وأوجب على المسلمين الابتعاد عنه دون إيجابه على الكافرين، فالكافرون سمح الإسلام لهم بالانتفاع بالنجس، فقد سمح لهم بالانتفاع بالخمر وهي نجسة، وسمح لهم بالانتفاع بالخنزير وهو نَجِس، وسمح لهم بالانتفاع بما يشاءون من النَّجاسات دون ممانعة من دولة الخلافة، فلو شربوا أبوالهم وخلطوا دماءهم في أدويتهم وأكلوا الميتة لم يعترض المسلمون عليهم، فالإسلام أمر المسلمين بترك الكفار وما يعبدون وما يأكلون، أما المسلمون فهم طاهرون متطهِّرون يأنفون من النجاسات ويعافون الاقتراب منها، ويلزمهم إزالتُها وعدمُ الانتفاع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، إلا ما خصَّه الدليل ككلب الصيد وكلب الحراسة، وكجلد الميتة بعد دباغه، وما سوى هذه الثلاثة لا يجوز الانتفاع بالنَّجِس مطلقاً. ونسوق عدداً من الأدلة على ذلك:
أ - عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخِنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهنُ بها الجلود ويَستصبحُ بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لمَّا حرَّم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. وقد سبق.
ب - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لعن الله اليهود - ثلاثاً - إن الله حرَّم عليهم الشُّحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قومٍ أكل شيء حرَّم عليهم ثمنه» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي.
ج - عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه «أنه اشترى غلاماً حجَّاماً فأمر بمحاجمه فكُسِرت، فقلت له: أتكسرها؟ قال: نعم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البَغِيِّ، ولعَنَ آكِلَ الربا ومُوكِله والواشمة والمستوشمة ولعن المُصوِّر» رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله المحاجم - واحدتها مِحْجَم: هي الأداة التي يُحجَم بها.
د - عن ابن عباس قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفَّه تراباً» رواه أبو داود. ورجاله ثِقات، ورواه أحمد بلفظ «ثمن الكلب خبيث، قال: فإذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفيه تراباً» .
هـ - عن ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: أَلقوها وما حولها، فاطرحوه وكلوا سمنكم» رواه البخاري ومالك وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
…
و- عن وائل الحضرمي «أن طارق بن سُويد الجُعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي.
الحديث الأول ذكر ثلاثة أصناف من النجاسات هي الخمر والميتة والخنزير، وفرَّع على الثاني وهو الميتة الشحوم، وذكر أن هذه النجاسات حرام بيعها، وحرام الانتفاع بالشحوم في طلاء السفن ودهن الجلود والإضاءة، فالحديث نص صريح في عدم الانتفاع بهذه النجاسات بيعاً واستعمالاً. وفي الحديث الثاني قاعدة فقهية عريضة في موضوع الانتفاع بالمحرَّمات، ومنها النجاسات، هي أن كل مُحرَّم الأكل مُحرَّم البيع. وفي الحديث الثالث تحريم بيع صنفين من النجاسات هما الدم والكلب، والبيع انتفاع. والحديث الرابع يدل على تحريم بيع الكلب «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً» والحديث الخامس أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بإتلاف السمن المتنجس بالميتة. وفي الحديث السادس رفض الرسول صلى الله عليه وسلم الانتفاع بالخمر حتى ولو صُنعت واستعملت كدواء.
فهذه أمثلة على تحريم الانتفاع بالميتة وشحومها، وتحريم الكلب والخنزير والدم والسمن المتنجس، ولو لم يكن من أدلة سوى الحديث الخامس لكفى، ذلك أن الأصناف السابقة هي من فئة النجس سوى ما جاء في الحديث الخامس، فهو من فئة المتنجس، ومع ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقائه وعدم الانتفاع به فإذا كان المتنجِّس يُتْلف فكيف بالنَّجس؟ ثم إذا علمنا أن الشرع قد نهى عن إتلاف المال، بل عن إتلاف أو إضاعة أدنى كمية منه، كاللقمة تسقط من اليد، لما روى جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إذا طَعِم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فلْيُمط ما رابه منها ولْيطعمها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق يده، فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارَك له
…
» رواه ابن حِبَّان ومسلم وأحمد. أقول إذا كان الشرع قد نهى عن إضاعة اللقمة تسقط من اليد فكيف يأمر بإتلاف ما هو أثمن منها كالسمن تقع فيه نجاسة لولا أن الانتفاع به لا يجوز؟
ولقد أجاز عدد من كبار الأئمة الانتفاع بالنجس منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث، مستدلين على رأيهم بالأدلة التالية:
أ - الحديث الأول المشار إليه آنفاً وهو حديث البخاري وغيره من طريق جابر.
ب - عن ابن عمر «أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر، أرض ثمود، فاستَقَوْا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقَوْا، ويعلفوا الإبل العجين
…
» رواه مسلم والبخاري.
ج - عن مُحيِّصة أخي بني حارثة «أنه أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحَجَّام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: اعلفْهُ ناضحَك وأَطْعِمْه رقيقَك» رواه الترمذي وحسنه.
فنرد عليهم بأن الحديث الثاني الذي رواه الشيخان، والحديث الثالث الذي رواه الترمذي لا يصلحان للاستدلال في موضوعنا، فهما ليسا في موضوع النجاسات والانتفاع بها، وإنما موضوعهما استعمال المُحرَّم، والمُحرَّم ليس بالضرورة نجساً، فالحشيشة محرَّمة ولكنها ليست نجسة، والصُّلبان محرمة وهي ليست نجسة، والتصاوير، أي التماثيل، محرمة وهي ليست نجسة، فكذلك كسب الحجَّام، وماء آبار من ظلموا أنفسهم، بل إن كسب الحجَّام لم يتفق الفقهاء على تحريمه، فقد أباحه قوم وكرهه آخرون. ولست أريد أن أدخل في هذا الباب حتى لا أخرج عن الموضوع، ولذا أقول إن الحديثين الثاني والثالث لا يصلحان هنا، وليست فيهما دلالة على جواز الانتفاع بالنجس، فيُتركان ويسقط الاحتجاج بهما في المسألة.
بقي الحديث الأول، وهو الذي رواه البخاري وغيره من طريق جابر، هذا الحديث لا يصلح للاستشهاد به على جواز الانتفاع بالنجس بل هو على العكس من ذلك تماماً. الحديث يقول «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى به السفن ويُدهن به الجلود ويَستصبحُ به الناس، فقال: لا هو حرام» نظروا في الحديث وتساءلوا: هل الضمير (هو) في قوله (هو حرام) راجع إلى البيع (إن الله ورسوله حرَّم بيع) ، أم هو راجع إلى الانتفاع (يُطلى
…
يُدهن
…
يَستصبح) ؟ فقالوا: الظاهر أن مرجع الضمير للبيع، لأنه المذكور صريحاً والكلام فيه، ويؤيد ذلك قوله في آخر الحديث (باعوه) ومن قال إن الضمير يرجع إلى البيع، قال بجواز الانتفاع بالنجس مطلقاً، ولكن فقط يحرم بيعه. ويستدل أيضاً بالإجماع على جواز إطعام الميتة للكلاب، وقالوا: إذا كان التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي ودهن بدنه، فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطُّبِ بالنجاسة. هكذا قالوا، وهكذا استدلوا واستشهدوا، ولكن الناظر في النص يتبين خطأ هذا الاستدلال لما يلي:
أ - إن الضمير لغةً يعود إلى أقرب اسم، وليس إلى أبعده، والأقرب هنا هو ما جاء من ألفاظ تفيد الانتفاع (يُطلى
…
يُدهن
…
يَستصبح) وليس لفظةَ البيع التي هي أبعد كلمة في النص.
ب - إن قولهم الضمير يعود إلى البيع لأنه المذكور صريحاً قول غير دقيق، لأن الشحوم وما اتصل بها من أفعال هي أيضاً صريحة.
ج - إننا لو فسرنا الحديث على ضوء عودة الضمير إلى البيع لما أفاد القول الأخير شيئاً، لأن شحوم الميتة تابعة للميتة في حكم تحريم البيع لأنها منها، في حين أن تفسيره على ضوء عودة الضمير إلى الشحوم يفيد معنى جديداً، وهذه الإضافة أولى من إلغائها.
د - إن النصف الأول من الحديث مكتمل تام بنفسه «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» وهو ليس بحاجة إلى تكملة، ولو لم يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شحوم الميتة لانتهى الحديث عند كلمة الأصنام، ولكن لما سُئل عن الشحوم التي يُفعل بها كذا وكذا، أي يُنتفع بها بكذا وكذا وكذا قال (لا، هو حرام) والضمير (هو) يبعد أن يعود إلى البيع، لأن الحديث جملتان تامتان منفصلتان، فكلمة (إن الله ورسوله حرَّم) أفادت تحريم الأربعة المذكورة أولاً، وكلمة (لا، هو حرام) أفادت تحريم الطلاء والدهن والاستصباح بالشحوم. هكذا يجب فهم الحديث، وهكذا يفهمه من أخذ بظاهره وترك التعمق والتكلف. ومن ذلك يظهر خطأ الرأي القائل بجواز الانتفاع بالنجس.