الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: إن الشرع جعل النوم ناقضاً تماماً كما جعل خروج الريح ناقضاً، فجعلهما الشرع ناقضَيْن، ولم يجعل أحدهما علَّة للآخر، لأن من شأن ذلك أن يكون الناقض واحداً ويُلغَى الآخر، وهذا الإلغاء نسخ ولا يملكه أحد من المسلمين سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألغى أو أبطل أو نسخ النوم كناقض، فالقول إن النوم معلَّل بخروج الريح فإذا انتفى الخروج بالنوم جالساً زال حكم النوم، هذا القول غير صحيح لما أسلفنا، ما دامت في الشرع نصوص كثيرة تفيد حكم النقض للنوم ولم تُنسخ، بل إن آخر حديثهم يرد على فهمهم لأوَّله، فالحديث يقول «العين وِكاءُ السَّهِ فمن نام فلْيتوضأ» فإن آخر الحديث يقول «فمن نام» ، فلم يقيِّد ولم يخصِّص ولم يفصِّل، والنوم جالساً داخل لا شك في النص، والأشبه أن يقال إن خروج الريح من النائم هو مصاحب محتمل للنوم، فلا يصلح أن يكون علَّة.
هذه آراء العلماء والأئمة وهذه أدلتهم، وقد فشلوا في التوفيق والجمع بين الأدلة كلها إلا بتأويل متعسّف، وقد تبين لكم أنه لا يُجمع بين الأحاديث كلها إلا بالقول الذي قلناه، وهو أن النوم في الصلاة الفعلية، وفي الصلاة حكماً لا ينقض، وما سواه ينقض، فهو جمعٌ صحيح وجميلٌ فيه القناعة والطمأنينة، وهو الجمع الوحيد الذي فيه إعمالٌ للأدلة كلها.
6) أكل لحم الجَزور
لحم الجَزُور هو لحم الجمال. وقد اختلف المسلمون في أكل لحم الجمال من حيث نقضُ الوضوء على رأيين: فنُسب إلى الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأُبيِّ بن كعب وابن عباس وأبي الدرداء وأبي أمامة ومالك وأبي حنيفة والشافعي أن أكل لحم الجَزور لا ينقض الوضوء. وذهب أحمد وإسحق بن راهُوَيه وابن المنذر وابن خُزَيمة والبيهقي وأصحاب الحديث مطلقاً، وجماعةٌ من الصحابة إلى أن أكل لحم الجَزُور ينقض الوضوء، ونُسب هذا الرأي إلى الشافعي في قول له، وإلى محمد بن الحسن من الأحناف. هذا وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: إن صحَّ الحديث في لحوم الإبل قلنا به. ونحن نقول نعم قد صح الحديث. قال البيهقي وهو شافعيُّ المذهب (بلغني عن أحمد بن حنبل وإسحق بن إبراهيم الحنظلي ـ أي ابن راهُوَيه ـ أنهما قالا قد صح في هذا الباب حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث البراء بن عازب وحديث جابر بن سمرة) ونحن نذكر الأحاديث كما يلي:
1-
عن جابر بن سمرة «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضَّأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضَّأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة.
2-
عن البراء بن عازب قال «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: توضأوا منها، وسُئل عن لحوم الغنم فقال: لا تتوضأوا منها، وسُئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة» رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة وابن حِبَّان، ورواه ابن خُزَيمة وقال (لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه) .
3-
عن ذي الغرَّة قال «عرض أعرابيٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فقال: يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل أفنصلي فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: نعم، قال: أفنصلي في مرابض الغنم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: لا» رواه أحمد والطبراني. قال الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد (رجال أحمد مُوثَّقون) .
4-
عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال «إنما أتوضَّأ من أثوار أَقِطٍ أكلتها، لأنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضأوا مما مسَّت النار» رواه مسلم والنَّسائي. قوله أثوار ـ جمع ثور ـ: هي القطعة من الأقِط. وقوله الأقِط: هو اللبن الجامد المتحجِّر. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «توضأوا مما مسَّت النار» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي.
5-
عن جابر قال «أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر خبزاً ولحماً، فصلوا ولم يتوضأوا» رواه أحمد وابن أبي شيبة. ورواه عبد الرزاق مطوَّلاً.
6-
عن جابر قال «كان آخِرَ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركُ الوضوء مما مسَّت النار» رواه النَّسائي وأبو داود وابن خُزَيمة وابن حِبَّان.
7-
عن بُشَير بن يسار أن سويد بن النعمان أخبره «أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي أدنى خيبر، فصلى العصر ثم دعا بالأزواد فلم يُؤتَ إلا بالسَّويق، فأمر به فثُرِّي، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ» رواه البخاري وابن ماجة ومالك. قوله ثُري ـ بالتشديد والتخفيف ـ: أي بُلَّ بالماء لما لحقه من اليبس. والسَّويق: هو دقيق الشعير.
8-
عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفاً، ثم صلَّى ولم يتوضأ» رواه البخاري.
في هذه الأحاديث مسألتان أو مسألة ذات شقين هما: الوضوء من أكل لحوم الإبل، والوضوء من أكل ما مسَّته النار. وقد ذكرنا من قبلُ الفريقين المختلفين في الشق الأول، ونذكر الآن الفريقين المختلفين في الشق الثاني.
إن من ذهبوا إلى أن الوضوء من أكل ما مسَّته النار لا يجب، أي أن أكل ما مسَّته النار لا ينقض الوضوء هم الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبيُّ بن كعب وأبو أمامة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله وعائشة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحق بن راهُوَيه وأبوثور وسفيان الثوري. قال النووي (إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك أنه لا يجب الوضوء من أكل ما مسَّته النار) .
أما من ذهبوا إلى أن أكل ما مسَّته النار ينقض الوضوء فهم عمر بن عبد العزيز وأبو قلابة والحسن البصري والزُّهري، ورواية ثانية عن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبي موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وإنما قلت رواية ثانية عن عبد الله بن
عمر
…
إلى أبي هريرة، لأن هؤلاء قد روي عنهم القول الأول وذُكروا مع الفريق الأول.
الأحاديث الثمانية تصلح للاحتجاج باستثناء السادس منها الذي رواه النَّسائي وغيره، فقد أعلَّه ابن حجر بعلَّتين فنطرحه. الحديث الأول «أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل» والحديث الثاني «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضأوا منها» والحديث الثالث «أفنتوضأ من لحومها؟ قال: نعم» والحديث الرابع «توضأوا مما مسَّت النار» والحديث الخامس «أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر خبزاً ولحماً، فصلوا ولم يتوضأوا» والحديث السابع «فلم يُؤتَ إلا بالسَّويق فأمر به فَثُرِّي، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا.... ثم صلى ولم يتوضأ» والحديث الثامن «أكل عندها كتفاً ثم صلى ولم يتوضأ» .
الأحاديث الثلاثة الأولى فيها أنَّ الأكل من لحوم الإبل ينقض الوضوء منطوقاً وصراحة، والحديث الرابع فيه الوضُوءُ مما مسَّت النار، والحديث الخامس فيه أنَّ أكلَ اللحم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر لا ينقض الوضوء، والحديث السابع فيه أن أكل السَّوِيق من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لا ينقض الوضوء، والحديث الثامن فيه أن أكل اللحم المطبوخ لا ينقض الوضوء. الأحاديث الثلاثة الأولى تأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل، والحديث الرابع وحده يأمر بالوضوء من أكل ما مست النار، والأحاديث 5، 7، 8 فيها أن أكل ما مسَّته النار لا ينقض الوضوء باختلاف الأحوال، فتارة اللحم، وتارة السَّوِيق ـ وهما مما مسته النار ـ وتارة من فعله عليه الصلاة والسلام، وتارة من فعل أصحابه رضوان الله عليهم، وتارة من فعله وفعل الصحابة معاً.
من هذا الاستعراض نستخلص أن الوضوء من أكل ما مسته النار كان مطلوباً، ثم جاءت أحاديث متأخرة تبطل هذا الطلب وتنسخه. فحديث السَّوِيق كان في غزوة خيبر، وغزوة خيبر متأخرة، فيصلح ناسخاً، يشهد لذلك ما روى محمد بن مسلمة «أكل رسول
الله صلى الله عليه وسلم مما غيرت النار ثم صلى ولم يتوضأ، وكان آخر أمريه» رواه البيهقي. فهو مصرِّح بالتأخر. وإذا وجد تعارض بين الأحاديث أُخذ بالمتأخر، وأحاديثُ إِبطال الوضوء متأخرة فيُعمل بها، وتعتبر ناسخة لأحاديث طلب الوضوء.
ولا يقال إن أحاديث الوضوء قول، وأحاديث الترك فعل، لا يقال ذلك لأن حديث السَّويق فعلٌ من الصحابة على مرأى ومسمع من الرسول عليه الصلاة والسلام، بل فعلٌ منهم ومشاركة منه عليه الصلاة والسلام، فهو إقرار منه على فعلهم، إضافة إلى كونه فعلاً منه أيضاً، والإقرار منه يأخذ حكم القول منه، فيكون الموضوع أمراً منه أولاً بالوضوء ثم أمراً منه بالترك، أي يكون حكم الوضوء مما مسته النار منسوخاً.
وبذلك يظهر أن القائلين بعدم الوضوء مما مسته النار هم المصيبون. ولا يبعد أن يكون الاختلاف في الصدر الأول على هذا الحكم ناتجاً عن كون القائلين بالوضوء لم يصلهم النسخ لأنه متأخر، ثم لما وصلهم رجعوا إليه وأجمعوا عليه إلا القليل منهم. هذا هو حكم أكل ما مسته النار، وقد بينا أنه لا ينقض الوضوء.
أما أكل لحم الإبل فإنه لا يوجد أي نص ينسخ حكم الوضوء منه. وقد أشكل على عدد من الأئمة كالشافعي قولُ جابر ترك الوضوء مما مست النار، وهو المُعلُّ بعلَّتين وهو «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسَّت النار» فقالوا إن حديث جابر متأخر وهو نص في ترك الوضوء مما مسته النار، وإن لحم الجَزور يدخل في ما مسَّته النار، فيكون منسوخاً بهذا الحديث، ومنهم من أوَّلوا الأحاديث الثلاثة بأنها تعني الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين فحسب، وذلك لعلة الدَّسَم والزُّهُومة، فنجيبهم بأن حديث جابر ضعيف، فإن فيه انقطاعاً بين ابن المنكدر وجابر، فهو منقطع، وفيه عمرو بن منصور ضعفه أبو حاتم الرازي وذكر الخطيب أنه روى عن عليّ بن المديني خبراً منكراً، وفي سند أبي داود موسى بن سهم ضعيف، فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج.
قال الشوكاني في كتابه المسمى [إرشاد الفُحول](قال الشافعية: إن تأخَّر العام عن وقت العمل بالخاص يُبنى العام على الخاص، لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون، والمتيقن أولى) فلو حكَّم الشافعيون قاعدتهم الأصولية لما قالوا بعدم نقض الأكل من لحوم الإبل للوضوء. أجل إن قاعدة الشافعي الأصولية صحيحة، وإعمالها يؤدي إلى القول بأن لحم الجَزور ينقض الوضوء. فالنووي وهو من الفقهاء الشافعيين قال (أما النسخ فضعيف أو باطل، لأن حديث ترك الوضوء مما مست النار عام، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص يقدَّم على العام سواء وقع قبله أو بعده) وعقَّب الشوكاني على قوله هذا بقوله (وهو مبنيٌّ على أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً كما ذهب إليه الشافعي وجماعة من أئمة الأصول وهو الحق) وقال الشوكاني في [إرشاد الفُحول] وهو كتابه في علم الأصول (وما احتجَّ به بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا وعُلِم التاريخ بينهما، فوجب تسليط المتأخر على السابق كما لو كان المتأخر خاصاً، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة فلا ينتهض لترجيحه على قويِّ الدلالة، وأيضاً في البناء جمعٌ وفي العمل بالعام ترجيحٌ، والجمع مقدَّم على الترجيح، وأيضاً في العمل بالعام إهمالٌ للخاص وليس في التخصيص إهمالٌ للعام كما تقدم) ثم إن الإمام الشافعي يقول: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. فهذا قول صريح في أنه لا يذهب إلى أن العام ينسخ الخاص، وإلا لما كان لقوله هذا معنى.
والحق أن الشافعية كلهم الذين يلتزمون بأصول إمامهم ينبغي عليهم القول بالوضوء من لحوم الإبل بعد أن ثبت أكثر من حديث صحيح في لحوم الإبل، وأن أتباعه لا ينبغي لهم ترك الوضوء من أكل لحوم الإبل بعد ثبوت الدليل، بل الأدلة التي لم تثبت عند الشافعي، وهذا ما تنبَّه له كثير من فقهاء الشافعية، فأخذوا بحكم النقض كابن المنذر والبيهقي وابن خُزَيمة. والنووي الشافعي يقول في كتابه [المجموع] عن حكم النقض (هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه) .
أما الذين تأوَّلوا الأحاديث وعلَّلوها بأنها لأجل الزُّهومة، فنجيبهم بأن الزُّهومة كما هي موجودة في لحوم الإبل، فهي موجودة في لحوم الغنم، ولم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالوضوء منها، فتنتفي حجتهم وتعليلهم. وأما قولهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد الوضوء اللغوي أي غسل اليد، فنرد عليهم بقول النووي وهو أحدهم (أما حمل الوضوء على اللغوي فضعيف، لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدَّم على اللغوي كما هو معروف في كتب الأصول) وأيضاً إن القول بأن الأحاديث أرادت غسل اليدين يحتاج إلى دليل ولا دليل، وأيضاً إن الأحاديث لو أرادت غسل اليدين لما ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر بذلك في لحوم الغنم في الأحاديث الآمرة بالوضوء من أكل لحم الجزور نفسها. والحق أن هذه التأويلات فاسدة وتركٌ للقول بالنقض الوارد في الأحاديث.
والخلاصة أن لحم الجزور ناقض للوضوء، وأن أكل ما مسته النار من سائر اللحوم الأخرى ومن أصناف الأطعمة والأشربة لا ينقض بحال. ويدخل في لحوم الإبل كبدها وطحالها دون لبنها وحليبها.