الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالحنَّاء أو بالأصفر كالكَتَم، ولبس السراويل والأُزُر، والصلاة في النعال والخفاف كل ذلك غير واجب، فكذلك قصُّ السِّبال أي الشوارب وتوفير العثانين أي اللحى غير واجبين، وإن جاء النص بأن يُفعل كله من باب مخالفة أهل الكتاب.
والخلاصة، هي أن قص الشارب وتقصيره، بحيث لا يطول كثيراً، أو لا يتهدل على الشفتين هو سُنَّة مؤكدة، وأنَّ كلا الحلقِ والتطويلِ مخالف لهذه السُّنَّة.
إعفاءُ اللحية
وردت في إعفاء اللحية الأحاديث التالية:
1-
حديث عائشة المار، وفيه «عشْرٌ من الفطرة: قصًّ الشارب، وإعفاء اللحية
…
» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي.
2-
حديث ابن عمر المار، وفيه «خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى
…
» رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوْفُوا اللحى» .
3-
حديث أبي هريرة المار وفيه «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد.
هذه الروايات تتضمن الألفاظ التالية: إعفاء، وفِّروا، أَوفوا، أرخوا، وكلها تعني معنى واحداً هو تركها تطول دون حلق أو قصٍّ أو إحفاء، أي افعلوا فيها عكس ما تفعلون في الشوارب، وقد كان من عادة الكفار قصُّ اللحية فنهى الشارع عن ذلك، وأمر بإعفائها وتوفيرها مخالفة لهم.
وإعفاء اللحية من سُنن الفطرة، وهو سُنَّة مؤكَّدة كقص الشارب، قال القاضي عياض: يُكْره حلق اللحية وقصها وتحليقها. وقال الشوكاني عند كلامه على حديث عشر من الفطرة ما يلي (الكلمات العشر ليست واجبة) . وقال شمس الدين بن قُدامة في الشرح الكبير (ويُسْتحب إعفاء اللحية) . وما قلته في قص الشارب أقوله في إعفاء اللحية، فحكمهما واحد وقرائنهما واحدة وإن كان التشديد على قصِّ الشارب أكثر منه على إعفاء اللحية لوجود «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» فهذا التشديد لا يوجد ما يضارعه في إعفاء اللحية.
والسُّنَّة أن تُترك اللحية حتى تظهر وتبرز على الوجه. ولا حدَّ لطولها، وإنَّ ما كان ابن عمر يفعله من قص لحيته بحيث لا تزيد على قبضة اليد يمكن الأخذ به، قال البخاري (كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) وهذا الفعل من ابن عمر ليس دليلاً، ولكنه يُعتبر حكماً شرعياً يجوز اتِّباعه. وفي المقابل لا يتحقق المطلوب بتقصيرها تقصيراً يؤدي إلى ظهور لون الجلد تحتها، ولذلك فالأصل الاعتدال، وحدُّه أن يتوارى لون بشرة الوجه خلف شعر اللحية، وله بعدئذ أن يقص أو يدع ما يزيد على ذلك.
وإعفاء اللحية اهتم به المتصوِّفة والمشايخ اهتماماً جاوز حد الاعتدال إلى الغلو، حتى عدُّوا الحليق فاسقاً لا تُقبل شهادته ولا يُصلى خلفه وكأنه أتى معصية من أكبر المعاصي، رغم أن الأحاديث ذكرت إعفاء اللحية ضمن العشر من الفطرة، ولم تحُثَّ عليه بأكثر من مخالفة المشركين كحال الحث على قصِّ الشارب، ومع ذلك لم يُولِ المشايخ اهتماماً بأي من السنن العشر اهتمامهم بإعفاء اللحية، والأصل أن لا تصل هذه المسألة إلى حجم أكبر من حجمها، وأن ما يقوله بعضهم من أنها علامة على الرجولة والفحولة هو قول ساقط متهافت. وكمثال على هذا التَّشدُّد أُورد رأياً للشيخ محمد ناصر الدين الألباني في هذه المسألة أنقله بكامله من كتابه [آداب الزفاف] وأناقشه بالتفصيل:
حلق اللحى. الخامس: ومثلها في القُبح ـ إن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفِطَر السليمة ـ ما ابتُلي به أكثر الرجال من التَّزين بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق وفي ذلك عدة مخالفات:
أ- تغيير خلق الله، قال تعالى في حق الشيطان {لعَنَهُ الله وقال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عبادِك نصيباً مفروضاً ولأُضِلَّنَّهم ولأُمنِّينَّهم ولآمُرنَّهم فَلَيبتِّكُنَّ آذانَ الأنعام ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرُنَّ خلقَ الله ومَنْ يتَّخِذ الشيطانَ وليَّاً من دونِ الله فقد خَسِرَ خُسراناً مُبيناً} فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله بدون إذن منه تعالى إطاعة لأمر الشيطان وعصيان للرحمن جل جلاله، فلا جَرَم أنْ لعنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيِّرات خلقَ الله للحُسن كما سبق قريباً، ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللَّعن المذكور بجامع الاشتراك في العلة كما لا يخفى، وإنما قلت: بدون إذن من الله تعالى، لكي لا يُتوهم أنه يدخل في التَّغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع بل استحبه وأوجبه.
ب- مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وهو قوله «أَنهِكوا الشوارب وأَعْفوا عن اللحى» ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة، والقرينة هنا مُؤكِّدة للوجوب وهو:
ج - التَّشبُّه بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى خالفوا المجوس» ويؤيد الوجوب أيضاً:
د - التَّشبُّه بالنساء، فقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال» ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته التي ميَّزه الله بها على المرأة أكبر تشبُّه بها، فلعل فيما أوردنا من الأدلة ما يقنع المُبتَلَيْن بهذه المخالفة، عافانا الله وإياهم من كل ما لا يحبه ولا يرضاه.
وقال في هامش الكتاب ما يلي (ومما لا ريب فيه ـ عند من سلمت فطرته وحسُنت
طويته - أنَّ كل دليل من هذه الأدلة الأربعة كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية وحُرمة حلقها فكيف بها مجتمعة؟!) .
والجواب عليه من وجوه:
أـ أقف عند قوله (من التَّزيُّن بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار) فهو قد جعل حلق اللحية زينة ولم يذكر أن إعفاء اللحية زينة هو الآخر، إذ ربما كان إعفاء اللحية أجمل من حلقها، ثم إنه اعتبر التَّزيُّن بحلق اللحية داخلاً تحت تقليد الكفار، وهذا يضطرنا إلى تبيين معنى تقليد الكفار وحكمه.
تقليد الكفار تقليدان:تقليد في شؤون الدين، وتقليد في شؤون الحياة، فما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم المتصلة بدينهم فهو تقليد في شؤون الدين، وما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم غيرِ المتصلة بالدين عندهم فهو تقليد في شؤون الحياة. أما ما كان من تقليدٍ في شؤون دينهم فهو حرام، ومخالفته واجبة، وأما ما كان من تقليدٍ لهم في شؤون الحياة فليس بحرام ولا إثم فيه، وإن كان الأَوْلى تركه، إلا أن يكون ذاتُه محرَّماً في ديننا نحن فيحرم. فتقليدهم بلبس البدلات وربطات العنق، وتقليدهم بإلباس جنودنا ما يلبسه جنودهم من غطاء الرأس، وتقليدهم باستقبال رؤساء الدول الأجنبية بإطلاق إحدى وعشرين طلقة واصطفاف حرس الشرف لهم، وتقليدهم بافتتاح المشاريع الحيوية بقص الشريط، وأمثال ذلك كله تقليد لا إثم فيه وليس بحرام، لأن هذه الأفعال والأمور ليست من دينهم هم، وهم لا يفعلونها ولا يتخذونها امتثالاً لعقيدتهم، ثم هي ليست مما ورد في شرعنا تحريم له، وما دام ذلك كذلك فتقليدهم فيها لا حرمة فيه، وإن كان الأولى تركه، بينما تقليدهم بجعل التعليم مختلطاً في الجامعات وتقليدهم بتبرُّج النساء حرام لا يجوز، وإن كان ذلك ليس من شؤون الدين عندهم ولكنه حرام عندنا فيظل حراماً.
أما تقليدهم بلبس المسوح التي يلبسها كهنتهم واتِّخاذ رجال دين عندنا، وتقليدهم باتخاذ شجرة عيد الميلاد، وتقليدهم باتخاذ التوابيت الخشبية للموتى، وأمثال ذلك فهو حرام لا يجوز، ومخالفتهم فيه واجبة، لأن هذه الأفعال والأمور هي من شؤون الدين عندهم، فتقليد الكفار في كفرهم أو تقليدهم بوصفهم كفاراً حرام. أما تقليدهم فيما سواه فلا حرمة فيه إلا ما كان حراماً عندنا، وإن كان الأولى تركُه. فالمسلم حين يحلق لحيته تقليداً للأوروبيين لا يقلدهم فيه بوصفهم كفاراً، ولا يقلدهم في شأن من شؤون دينهم، وإنما هو مظهر دنيوي بحت مقطوع الصلة بالدين، فتقليدهم فيه ليس حراماً، وهكذا سائر الأفعال والأمور التي لا علاقة لها بشؤون دينهم، ومن ذلك يظهر أن تقليد الأوروبيين في حلق اللحية لا يفيد تحريماً.
وأما قوله (حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق) هذه العبارة فيها غلو، فالعارُ هو الشيء أو الفعل الذي يشين صاحبه ويجلب عليه الخزي والهوان، وهذا المعنى غير موجود هنا.
ب ـ نأتي الآن لمناقشة الأدلة الأربعة التي يقول عنها (إن كل دليل من هذه الأدلة الأربعة كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية) إن الآية التي استشهد بها الشيخ الألباني على أنها دليل صالح على تحريم حلق اللحية وردت في سورة النساء، وحتى نتبين إن كانت هذه الآية تدل على دعواه أو لا، لا بد من وضعها في موضعها من السورة، ثم نستدل بها على ما تدل عليه {إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشْرَكَ به ويَغفرُ ما دون ذلك لِمَنْ يَشاء ومَنْ يُشْرِكْ باللهِ فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً. إنْ يَدْعونَ مِن دونِهِ إلا إناثاً وإنْ يَدْعُونَ إلا شيطاناً مَريداً. لعَنَهُ الله وقال لأتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِك نَصِيباً مَفْرُوضاً. ولأُضِلَّنَّهم ولأُمنِّينَّهم ولآمُرَنَّهم فلَيُبتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ومَن يتَّخذ الشيطانَ ولياً مِن دون اللهِ فقد خسرَ خُسراناً مُبيناً. يعِدُهم ويُمنِّيهم وما يعِدُهُمُ الشَّيطان إلا غُرُوراً. أولئكَ مَأْواهُمْ جهَنَّمُ ولا يجدونَ عنها مَحِيْصاً} بالتدقيق في هذه الآيات يظهر أنها وردت في موضوع العقيدة وليس في موضوع الأحكام الشرعية، انظر في أيَّة آية منها تجد ذلك واضحاً، فالآية الأولى هي في موضوع الشِّرك وهو من العقيدة، والآية الثانية هي في موضوع الأصنام والشيطان وهو من العقيدة، والآية الثالثة هي في موضوع إخراج قسمٍ من المؤمنين إلى جماعة الكفار وهو من العقيدة، والآية الرابعة هي في موضوع تبتيك آذان الأنعام للتقرب إلى الأصنام وهو من العقيدة، والآية الخامسة هي في موضوع أماني الشيطان وغروره وهو من العقيدة، والآية السادسة هي في موضوع العقيدة لأنها تحدثت عن دخول جهنَّم والاستقرار فيها، فالآيات كلها سِيقت في موضوع واحد هو العقيدة، وليس منها آية واحدة في موضوع الأحكام الشرعية الفرعية.
وثانياً: الآيات هذه تحدثت صراحة عن الضَّلال في بدء الآية الرابعة {ولأُضِلَّنَّهم} ، والضلال عكس الهُدى، وهو من أفكار العقيدة، فالضَّالُّ هو من خالف العقيدة في مجملها أو أصولها أو فروعها، أما من خالف الحكم الشرعي فهو الفاسق أو العاصي أو الفاجر أو الآثم، وهذا التفريق لا بد من إدراكه، ولست أُريد أن أسوق الآيات الدالة على هذا الأمر، فلْيرجع إليها من يشاء.
وإذن فالآية التي استشهد بها هي في موضوع العقيدة وليست في موضوع الأحكام، ولا تقاس العقائد على الأحكام ولا الأحكام على العقائد، فكلٌّ منهما موضوع غير موضوع الأخرى، ولذلك فإن قوله تعالى {فَلَيُغيِّرُنَّ خَلْق الله} يُقْصر على العقيدة والأعمال التي في معناها، وليس على الأعمال التي تفيد حراماً وحلالاً، لأن الآية والحديث إن جاءا في موضوع معين وجب قصرهما عليه. ولا يقال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن الموضوع غير السبب، فهذه الآيات ليست العقيدة سبباً في نزولها، وإنما العقيدة هي الموضوع الذي نزلت الآيات فيه، وبين السبب والموضوع فارق كبير. وإلى هذا المعنى الدقيق أشار عدد من المفسِّرين لهذه الآيات، فقد فسرها عدد منهم بقولهم: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيَّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبمثل هذا القول قال الزَّجَّاج. ويدعم هذا القول الآية الثانية {إنْ يدْعُون مِن دونه إلا إناثاً} وفسرها أبو مالك فيما رواه عنه ابن جرير الطبري وابن المنذر وغيرهما بقوله: اللات والعُزَّى ومَناة كلها مؤنثة. وفسرها أُبيُّ بن كعب فيما رواه عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن المنذر وغيرهما بقوله (قال مع كل صنم جِنِّيَّة) وفسرها الحسن بقوله (كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أُنثى بني فلان، فأنزل الله إن يدعون من دونه إلا إناثاً) ذكره سعيد بن منصور
وابن جرير وابن المنذر. وقال الضحَّاك (قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى) ذكره ابن أبي حاتم. ونقل ابن جرير الطبري عن قتادة قوله في تفسير {فليُبتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ} (التبتيك في البَحِيرة والسَّائبة يُبتِّكون آذانها لطواغيتهم) وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى {ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرنَّ خَلْق الله} قال (دين الله) وروي مثل ذلك عن الضحَّاك وسعيد بن جبير. هذا هو معنى التغيير، وهذا هو الموضوع الذي جاءت فيه الآية، ولذا فان تفسيرها بغير هذا خطأ، فقولهم إنها تعني الخصاء أو الوشم أو غير ذلك مثل حلق اللحية هو خروج على موضوع الآية وسياقها وإطارها.
نخلص من ذلك إلى أن هذه الآية لا تصلح مطلقاً للاستدلال بها على تحريم اللحية، فالآية في موضوع، وحلق اللحية في موضوع آخر، وما دام حلق اللحية أو إعفاؤها من غير العقائد فإن الاستدلال بها هنا استدلال غير صحيح.
ج- قوله: (ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلاّ لقرينة) غير مُسلَّم به وفيه لَبس، فالقارئ العادي حين يقرأ هذا القول (ومن المعلوم) يظن أنها قاعدة مُجمَعٌ عليها لدى عامة الفقهاء والأصوليين، لأنه جعلها قاعدة معلومة علماً مطلقاً دون تقييد، في حين أنه من المعلوم أن هذه القاعدة لا يقول بها جميع الفقهاء والأصوليين، ولذلك كان الأَوْلى أن يُقال (ومن المعلوم عندنا) أو (ومن المعلوم أن عدداً من الفقهاء يقولون) أو (الأمر يفيد الوجوب عند فلان وفلان) أو ما يشبه ذلك حتى لا يقع القارئ في لبس.
د- قوله (والقرينة هنا مؤكِّدة للوجوب وهو التَّشبُّه بالكفار) يعني أن الأمر إن اقترن بالتَّشبُّه بالكفار كان واجباً، فقد جعل التَّشبُّه بالكفار قرينة على الوجوب أو قل قرينة على التأكيد على الوجوب. فماذا يقول في الحديث التالي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود؟ فالحديث يطلب منا أن نصبغ شعرنا الأبيض وأن نخالفهم في ذلك، فهل مخالفة الكفار هنا تصلح قرينة على وجوب الصَّبغ؟ لا أظن أن أحداً قال بوجوب صبغ الشعر الأشيب. وماذا يقول في الحديث الذي رواه شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خِفافهم» رواه أبو داود. ولم يقل فقيه إن الصلاة في النعال والخفاف واجبة؟ فكذلك التَّشبُّه بالكفار هو من هذا القبيل.
وأُذكِّر بما سبق من التفريق في التقليد أو التَّشبُّه بالكفار بين التَّشبُّه بهم في شؤون الدين عندهم وبين التَّشبُّه بهم في شؤون الحياة. وهذا يعني أن الكفار لو كانوا يتركون الشعر الأشيب تعبُّداً وجئنا نتشبَّهُ بهم في هذا الأمر لكان ذلك حراماً ولصلُح ذلك قرينة على الوجوب ولو أن الكفار يحلقون لحاهم تعبداً، وجئنا بحلق اللحى تشبُّهاً بهم في عبادتهم ودينهم لكان ذلك حراماً، ولصلُح قرينةً على الوجوب، ولكن لم يقل أحد إن الكفار يحلقون لحاهم تعبداً، فلا يصلح ذلك إذن قرينة على الوجوب. وبذلك ينتفي صلاح الدليلين الثاني والثالث على وجوب إعفاء اللحية.
هـ ـ قوله (ويؤيد الوجوب التَّشبُّه بالنساء) وساق حديث التَّشبُّه، وعقَّب بقوله (ولا يخفى
…
أكبر تشبُّه بها) فهو يرى ويقرر أن حلق اللحية هو تشبُّه بالنساء وبالغ بقوله (أكبر تشبُّه بها) .
والرد عليه من عدة وجوه:
1 -
إن التَّشبُّه بالنساء يعني التَّشبُّه بمطلق النساء وليس بنساء مخصوصات، ويعني الخروج من أوصاف الرجال جنس الرجال، وليس من أوصاف الرجال المسلمين أو من أوصاف رجالٍ مخصوصين، لأن الحديث يقول «المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» فعمَّم ولم يخصِّص، أي أن الحديث يقول إن الرجل الذي يتشبَّه بالأنثى ملعون، ويحصل هذا إن خرج الرجل فيما فعل من صفة الرجال مطلق الرجال، وتشبَّه بعموم الإناث. هذا هو معنى الحديث، ولا تخصيص فيه ولا تقييد، فهل من حلق لحيته فقد خرج مما يوصف به مطلق الرجال؟ الجواب بالنفي من الواقع، ومن نصوص الأحاديث.
أما الواقع فإن معظم الرجال في العالم يحلقون لحاهم، وإذن فحلق اللحى صفة شائعة في الرجال، ولم يدَّعِ أحدٌ أن هؤلاء الملايين الملايين من الرجال خلعوا صفة الرجولة في هذا الأمر وتشبَّهوا بالنساء.
أما الحديث فيقول: خالِفوا المجوس، أي خالِفوا رجال المجوس بإطلاق اللحى، ومفهوم هذا الحديث أن رجال المجوس كانوا يحلقون لحاهم، ومفهومه أيضاً أن من يحلق لحيته فإنما يتشبَّه برجال المجوس، وهذا يدل على أن حلق اللحية ليس فيه تشبُّه بالنساء بقدر ما فيه تشبُّه بالرجال من المجوس، بل إن الحديث يحصره في التَّشبه بالرجال من المجوس، ولا يتطرق إلى التَّشبُّه بالنساء لا من قريب ولا من بعيد. فهل يصح له بعدئذٍ أن يقول إن حالق اللحية متشبِّه بالنساء؟ وكيف يُجيز لنفسه أن يقول هذا القول المغاير لما يفيده الحديث والواقع؟.
2 -
إن التَّشبُّه بالنساء لا يكون تشبُّهاً إلا إذا انتفت به عن الرجل صفة من صفاته ودخل به في صفةٍ من صفات النساء، فمثلاً النساء يلبسن العقود والأساور والرجال لا يلبسونها، وهذا عام في كل زمن وكل قوم وكل شعب إلا ما كان من الأقوام البدائية التي لا يُؤبه بما تفعله، بحيث أن من يلبس العقود والأساور من الرجال فإنما يتخلى بلبسها عن صفة من صفات الرجال ويدخل في صفة ملازمة للنساء، فيكون لبس الأساور والعقود تشبُّهاً، في حين أن الاكتحال صفة مشتركة بين الرجال والنساء، فمن اكتحل لا يكون قد تشبَّه بالنساء، لأنه لم يترك صفة من صفات الرجال، وقُل مثل ذلك في حلق اللحية، فإنها صفة شائعة في الرجال، فمن حلق لا يكون قد تخلى عن صفة الرجال واتصف بصفة النساء، أي لا يكون متشبِّهاً بالنساء، ومَن تضمخ بالطيب فإنه يفعل فعلاً مشتركاً بين الرجال والنساء، فلا يكون المتطيِّب قد تشبَّه بالنساء، هكذا يجب أن يُفهم التَّشبُّه بالنساء. إن حلق اللحية صفة ملازمة من صفات الرجال قديماً وحديثاً، ولا يقول أحد إن الملايين من الرجال في العالم الذين يحلقون لحاهم يتشبَّهون بالنساء، بل إن قول رسول الله عليه الصلاة والسلام «خالفوهم» فيه دلالة على أنهم لم يكونوا قبل هذا الأمر يخالفونهم، بل كانوا يوافقونهم بحلق لحاهم، وكانوا رجالاً لا يتصفون أو يتشبَّهون بالنساء.
3 -
وحيث أنه قد بان تماماً أن من يحلق لحيته لا يكون قد فارق صفة الرجال إلى صفة النساء، فقد بطل الدليل الأخير الذي استدل به الشيخ الألباني على حُرْمة حلق اللحية.
و بقيت نقطة تتعلق بتغيير خلق الله أود أن أبحثها من زاوية أخرى. استدل الشيخ الألباني بما رُوي عن ابن مسعود «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله» رواه البخاري. على أن تغيير خلق الله علة لتحريم ما جاء في الحديث، وقاس عليها حلق اللحية لأنها حُسنٌ يُغير خلق الله فيدخل في اللعن، وأكد ذلك بقوله (ولا شك) وبقوله (كما لا يخفى) وكأن أحداً لا يخالفه فيما يقول. لقد قال هو نفسه إن تغيير خلق الله ليس حراماً كله، فقوله (لكي لا يتوهم أنه يدخل في التغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع) يدل على أن هناك تغييراً لخلق الله محرَّماً، وأن هناك تغييراً غير محرَّم. فلْننطلق من هذه القاعدة التي وضعها هو، فنقول:
إن هذه القاعدة تنقض القول بأن تغيير خلق الله هو علة للتحريم، وذلك أن العلة في علم الأصول تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، وهذا يقضي بأن تحرِّم هذه العلة - وهي تغيير خلق الله -كلَّ فعل فيه تغيير، ولا تحرم أي فعل لا تغيير لخلق الله فيه، هذا هو معنى العلة وهذا هو مقتضاها. وحيث أن هناك أفعالاً فيها تغييرٌ لخلق الله ومع ذلك أجازها الشرع، فهذا دليل على أن التغيير ليس علة، لأن العلة مطَّردة دائماً، فإذا تخلَّفت مرة واحدة بطل كونها علة، وحيث أن الشرع نفسه أبطلها في حلق العانة ونتف الإبط وقص الأظافر وحلق شعر الرأس فقد دل ذلك على أن التغيير ليس علة لتحريم حلق اللحية. أما القول إن النصوص استثنت هذه الأحكام فهو ليس رداً على موضوع العلة، ومن هذه المقدمة ننطلق إلى شرح حديث «لعن الله الواشمات
…
المغيرات خلق الله» .
الحديث الشريف يذكر أن الواشمات والمستوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسن المغيرات خلق الله ملعونات، وما دام أن التغيير قد ثبت أنه قد تخلف مرات فقد ثبت أنه ليس علة، وأن هذه القاعدة تنسحب إذن على كل موضوع ومنها هذا الحديث، فتغيير خلق الله ليس علة للتحريم في هذا الحديث، بمعنى أن التحريم منصبٌّ على ما ذُكِر وليس لعلة التغيير، وعلى هذا فإن التغيير هنا لم يُذكر إلا على أنه وصفٌ ملازم لهذه الأفعال ليس غير، كما ذكر ذلك ابن حجر. والسؤال هنا: لماذا ذُكر هذا الوصف في الحديث؟ والجواب عليه هو أنَّ ذِكْرَ هذا الوصف في هذا الحديث إنما جاء قيداً وتحديداً للقدر الذي تصبح معه هذه الأفعال محرمة، بمعنى أن الوشم والنمص والتفلج لا تكون حراماً إلا إذا وصلت حد التغيير لخلق الله، فإن لم تصل إلى هذه الحد وهذا القدر فإنها لا تكون حراماً وتكون مباحة، فلو أخذت المرأة من حاجبيها عدة شعرات، ولو وضعت المرأة على وجهها أو يدها نقطة أو نقطتين من الوشم، ولو بردت المرأة إحدى أسنانها مقداراً يسيراً فإنها لا تكون قد فعلت حراماً لأنها لا تكون قد فعلت ما يصل إلى حد تغيير خلق الله، فهذا هو القصد من ذكر هذا الوصف، وهو أنه لتحديد المقدار الذي تصبح معه هذه الأفعال محرمة، وليس ليكون علة للتحريم.