المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل: - الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة - جـ ١

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولأحكام المياه

- ‌الماء الطَّهور

- ‌الماءُ النَّجِس

- ‌ الماء المستعمَل

- ‌ فضل الماء في حديثين

- ‌تطبيقاتٌ على الماء

- ‌سُؤْر الحيوان

- ‌الفصل الثاني أعيانُ النجاسات

- ‌ البول

- ‌النجاساتُ من الإنسان

- ‌الغائط:

- ‌ المَذِي:

- ‌ الوَدِي:

- ‌النجاساتُ من الحيوان

- ‌2. الخنزير:

- ‌3. الميتة:

- ‌النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان

- ‌الدم المسفوح

- ‌النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان

- ‌الخمر:

- ‌شُبُهات

- ‌أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

- ‌ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة:

- ‌ثالثاً: نجاسة الدم:

- ‌رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس:

- ‌أ - النبيذ:

- ‌ب - لحوم الحُمُر الأهلية:

- ‌ج - الصَّديد:

- ‌هـ- القيء:

- ‌الفصل الثالث أحكامُ النجاسة

- ‌تمهيد

- ‌حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس

- ‌هل يجب العدد في إزالة النجاسة

- ‌ما يُستعمل في إزالة النَّجِس

- ‌تطهيرُ المتنجس

- ‌الاستحالة

- ‌الفصل الرابعأحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران

- ‌الفصل الخامسسُنَنُ الفِطرة

- ‌السواكُ

- ‌قصُّ الشَّارب

- ‌إعفاءُ اللحية

- ‌نتفُ الإبط

- ‌قصُّ الأظفار

- ‌غسل البراجم

- ‌حلقُ العانة

- ‌الخِتان

- ‌الفصل السادسالسُّننُ المُلحقة بالفِطرة

- ‌ أحكام الشَعَر

- ‌1. إكرام الشعر

- ‌2. نتف الشعر الأبيض:

- ‌3. صبغ الشعر الأبيض:

- ‌4. وصل الشعر:

- ‌5. نفش الشعر:

- ‌6. فرق الشَّعَر:

- ‌الفصل السابعالأغسالُ المستحبَّة بالنصوص

- ‌غسلُ يوم الجمعة

- ‌غُسل الإحرام ودخول مكة

- ‌غُسل مَن أُغمي عليه

- ‌غُسل من غسَّل ميتاً

- ‌الفصل الثامنالغُسل

- ‌صفة الغُسل

- ‌الغُسل المُجْزئ

- ‌الغُسل الأكمل

- ‌تفصيلات تتعلق بالغسل

- ‌الفصل التاسعمُوجباتُ الغُسل

- ‌أولاً: الجنابة

- ‌أحكامُ الجُنُب

- ‌ثانياً: إسلام الكافر

- ‌ثالثاً: الموت

- ‌رابعاً: الحيض

- ‌أحكام الحائض

- ‌الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب

- ‌دمُ الحيض ومدَّته

- ‌المستحاضة وأحكامها

- ‌خامساً: النفاس والولادة

- ‌الفصل العاشرالوضوء

- ‌تعريف الوضوء ومشروعيته

- ‌فضلُ الوضوء

- ‌صفةُ الوضوء

- ‌1ـ النِّيَّة:

- ‌2ـ التسمية:

- ‌3 ـ غسل الكفين:

- ‌4 ـ المضمضة:

- ‌5- التَّسوُّك:

- ‌6- الاستنشاق والاستنثار:

- ‌7- غسل الوجه:

- ‌8- غسل اليدين إلى المرفقين:

- ‌9- مسح الرأس:

- ‌10- مسح الأذنين:

- ‌11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين:

- ‌12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً:

- ‌13- الترتيب:

- ‌14- التيمُّن:

- ‌15- الموالاة:

- ‌الدعاءُ عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌الصلاة ركعتين عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌ما يُستحبُّ له الوضوء

- ‌ما يُلبس على الرأس

- ‌ما يُعْصَب على الجُرح والجَبيرة

- ‌ما يُلبس في القدم

- ‌1) الخارج من السبيلين

- ‌2) خروج الدم

- ‌3) القَيء

- ‌4) مسُّ الفرْج

- ‌5) النوم

- ‌6) أكل لحم الجَزور

- ‌مسائل

- ‌المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء

الفصل: ‌أولا: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

دليلها هو دليل نجاسة الخمر نفسه، وهو حديث أبي ثعلبة الخُشني في وجوب غسل آنية أهل الكتاب وقدورهم التي يستعملونها في طبخ لحم الخنزير وشرب الخمر، وهذا الحديث قد مرَّ في بحث [سؤر الحيوان] .

‌شُبُهات

والآن نود أن نزيل شُبُهاتٍ تثور في أثناء استعراض أعيان النجاسات، ونبدأ بشُبهة نجاسة بول الحيوان.

‌أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

ذكر عدد من الأئمة أن بول ما يُؤكل لحمه طاهر، وأن بول ما لا يُؤكل لحمه نجس، وذكر آخرون أن بول ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل لحمه نجسٌ كله. فذهب إلى الرأي الأول مالك وأحمد والزُّهري والنخعي والأوزاعي والثوري والشوكاني، وجماعة من الأحناف منهم محمد ابن الحسن وزُفَر، وجماعة من الشافعيين منهم ابن المنذر وابن خُزيمة وابن حِبَّان والإصطخري والروياني. وذهب إلى الرأي الثاني الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والحسن.

وقد استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:

أ - عن أنس قال «قدم أُناس من عُكَلٍ - أو عُرَينة - فاجتَوَوْا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلِقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» رواه البخاري ومسلم وأحمد. قوله اجتوَوْا: أي استوخموا. وقوله اللقاح: أي النوق ذوات اللبن واحدتها لِقحة. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرهم بشرب أبوال الإبل وهي من مأكول اللحم فهو دليل على طهارة بولها وبول ما يُؤكل لحمه. أي أنهم قد استنبطوا من هذا الحديث علة كون الإبل يُؤكل لحمها، فقاسوا عليها كل ما يُؤكل لحمه كالغنم والبقر والغزلان والدجاج والحمام وغيرها.

ص: 85

ب - عن أنس رضي الله عنه قال «كان النبي- صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يُبنى المسجد في مرابض الغنم» رواه البخاري ومسلم. فقالوا هذا دليل ثانٍ على طهارة بول الغنم والبقر، لأن الصلاة في مرابض الغنم دليل على طهارتهما، إذ لا يخلو المِرْبض من البول والبعَر، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي في مكان فيه بول وبعر من الغنم فهو دليل على طهارتهما، وقاسوا عليهما سائر أبوال ما يُؤكل لحمه.

ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تَوَضَّأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» رواه مسلم وأحمد والبيهقي.

د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغنم من دوابِّ الجنة، فامسحوا رُغامها وصلوا في مرابضها» رواه البيهقي والخطيب، وإسناده حسن. وفي روايةٍ للبيهقي وابن عديٍّ عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «صلوا في مُراح الغنم، امسحوا رُغامَها فإنها من دوابِّ الجنة» . قوله مُراح: أي مأوى. وقوله رُغامها: أي مُخاطها. فهذه نصوص أُخر في جواز الصلاة في مرابض الغنم مع ما فيها من أبوال ورجيع، وهو دليل على طهارتها.

ص: 86

وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في معاطن الإبل فإنه ليس للنجاسة، وإنما هو معلَّل بأن الإبل من الشياطين. فعن البراء بن عازب قال «

وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان من طريق عبد الله بن مغفل بلفظ «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقت من الشياطين» وفي لفظٍ لأحمد من طريقه «فإنها من الجن خُلقت» فكون الحديث ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة أنها من الشياطين - بمعنى أنها تُؤذي من يقترب منها إذا نفرت - فهو بذلك ينفي علَّة النجاسة.

هـ - عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يجعل شفاءَكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار.

و عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداوَوْا ولا تداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي.

ز- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي.

ص: 87

وبهذه الأحاديث ردُّوا على من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بأبوال الإبل للدواء، وأنَّ هذا خاص بالعلاج، وإلا فأبوال الإبل نجسة. وقالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالخبيث أي بالنجس وبالحرام عموماً، وكونه أذن بالتداوي بالأبوال فهو دليل على خروجها على حكم النجاسة والتحريم. واستدل بعضهم بالحديث المرفوع الذي رواه البراء وجابر ولفظه «لا بأس ببول ما أُكل لحمه» رواه الدارقطني بسندٍ واهٍ جداً. وأورده ابن حزم في الموضوعات. هذا هو مُجمل رأيهم في طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه من الحيوان، وهذه هي أدلتهم.

أمّا قولهم إن ما سوى ما يُؤكل لحمه نجس، فلهذه الأدلة التي عللوها بأنها مأكولة اللحم وقالوا: بما أن ما سواها غير مأكول فيكون نجساً. وللحديث الآتي: عن عبد الله ابن مسعود قال «أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت رَوْثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الرَّوْثة وقال: هذا رِكْس» رواه البخاري وأحمد والترمذي. ورواه ابن خُزَيمة عنه هكذا «أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرَّز فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين وطرح الرَّوْثة وقال: هي رِجْس» . فقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وصف الرَّوْثة بأنها رِكْس أو رِجْس، أي نجسة، وهي رَوْثة حيوان لا يُؤكل لحمه، فدل ذلك على أن بول أو روث أو رجيع ما لا يُؤكل لحمه نجس.

ص: 88

أما أصحاب الرأي الثاني وهم الشافعيون والأحناف الذين اعتبروا رجيع وأبوال ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل نجس كله، فقد استندوا إلى حديثين: هذا الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، أي حديث الرِّكس، فعمَّموه على أبوال وأرواث كل الحيوانات، وحديث القبرين وهو: عن ابن عباس قال «مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة

» رواه البخاري وأحمد. وفي رواية لابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «أكثر عذاب القبر من البول» . وفي روايةٍ للدارقطني عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تنزَّهوا من البول، فإن عامَّة عذاب القبر منه» فعمَّموا البول على سائر الإنسان والحيوان، لأن لفظ (البول) اسم جنس فيعمُّ، وأن البول ينسحب على بول الإنسان وبول الحيوان، فدل ذلك على نجاستهما.

أما صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك أمره بالصلاة في مرابض الغنم، فقال الشافعي هذا محمول على أن تكون الصلاة بعيداً عن البَعَر والبول. وأما شُرب أبوال الإبل فقالوا هذا للعلاج، وفي العلاج يجوز شرب النجِس، وحمَلوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الدواء الخبيث أو التداوي بالحرام على حالة الاختيار، أما في حالة الضرورة فلا بأس، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضْطُرِرتُمْ إليه} الآية 119 من سورة الأنعام.

هذه هي آراء الفريقين وأدلتهما، وبالنظر يتبين أنهما يلتقيان عند نجاسة بول ما لا يُؤكل لحمه كبول الأسد والذئب والنمر والحمار والبغل وغيرها، ويفترقان عند بول ما يُؤكل لحمه من الأنعام والغزلان والدواجن والطيور المأكولة وغيرها.

ص: 89

وقبل أن نناقش هذين الرأيين بالتفصيل، نذكر في المسألة رأياً ثالثاً قال به الشعبي وداود ومال إليه البخاري يقول: إن جميع أبوال الحيوانات طاهرة دون استثناء، ولم يُنقل عنهم إن كانوا استثْنَوْا بول الكلب والخنزير أو لا. وإنما قلت مال إليه البخاري ولم أقل قال به، وذلك لأنه اكتفى بأنْ عقد في صحيحه باباً سمَّاه [باب أبوال الإبل والدوابِّ والغنم ومرابضها، وصلى أبو موسى في دار البريد والسِّرقين، والبرية إلى جنبه، فقال: ها هنا وثَمَّ سواء] ولم يُفصح بالحكم، ولكنَّ إيراده حديث العُرَنيين يُشعر باختياره الطهارة، ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر (ولم يذكر سوى بول الناس) قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله كان لا يستتر من البول بول الإنسان لا بول سائر الحيوان، فلا يكون حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان.

ص: 90

ولست أريد في المناقشة أن أتناول كل رأي من الآراء الثلاثة على حدة، وإنما سأناقش المسألة كلها دفعة واحدة، ليتضح من ثَمَّ الرأي الصواب بإذن الله، فأقول: إنَّ استشهاد من استشهد على نجاسة أبوال الحيوانات بحديث البخاري وروايتي ابن ماجة والدارقطني هو استشهاد غير دقيق، فقولهم إن كلمة البول تشمل بول الإنسان وبول الحيوان إنما هو كالقول: الماء كله طَهور بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» دون التفاتٍ إلى حديث القُلَّتين الذي خصص العموم. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا يستتر من البول» أو قوله في رواية أخرى «لا يستنزه من البول» أخرجها أحمد. وفي روايةٍ «لا يستبريء» أخرجها النَّسائي. هو عام في جميع الأبوال بلا خلاف أعلمه، إلا ممن قال إن البول هنا للعهد، وإنَّ كلمة (أل) هنا جاءت نيابة عن المضاف إليه. وإذن فإنَّ البول يعني بول الإنسان، أو من مثل القرطبي الذي يقول (قوله من البول اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل) .

ص: 91

ولكنَّ هذا القول مجمل، وجاءت روايات أُخر للأحاديث السابقة نفسها تبينه بأنه بول الإنسان، ففي روايةٍ للبخاري «لا يستتر من بوله» وفي رواية لأحمد وابن ماجة «لا يستنزه من بوله» وهذان نصان في بول الإنسان، وهما مبيِّنان للمُجمَل في الأحاديث الأخرى، والمعلوم عند الأصوليين العملُ بالمُبيِّن وحمل المُجمَل عليه، وهذا ما خفي على أصحاب الرأي القائل بنجاسة جميع الأبوال لدخولها تحت لفظ البول. فالأحاديث التي استشهدوا بها لا تصلح لتأييد دعواهم لأنها مجملة وروايات لفظة (بوله) تردُّ هذا الرأي، وتبين أن البول الوارد في تلك الأحاديث هو بول الإنسان. وهذا التفسير والفهم لألفاظ الأحاديث ينسجمان مع أحاديث طهارة بول الغنم وبول الإبل وأبعارها. والمعلوم أن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، بدلالة قوله تعالى في سورة الحج {أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في الأَرْضِ} الآية 65. وقوله في سورة الجاثية {وسَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأَرْضِ جَمِيْعَاً مِنْهُ} الآية 13. فالله سبحانه قد سخَّر لنا ما في الأرض وما في السموات جميعاً، والتسخير يقتضي الاستعمال والاستفادة، والنجس لا يُستعمل ولا يُستفاد منه، وإذن فإنَّ الطهارة هي الأصل، ونجاسة أي شيء هي التي تحتاج إلى دليل. قال ابن المنذر (إن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة) ولذا فإنهم إما أن يأتوا بدليل ينص منطوقه أو يُؤخذ من مفهومه أن أبوال الحيوانات نجسة، وإما أن تظل على أصلها من الطهارة. وقد أتوا بحديث ظنُّوه نصاً في نجاسة بول الحيوان، هو حديث الرَّوْثة الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود، فإنْ بان بعد المناقشة أن الحديث ليس حجة لهم ولا يسند لهم رأياً، وأنه ليس لهم سواه من أدلة بان خطأُ رأيهم.

ص: 92

الحديث الذي رواه البخاري وغيره وصفَ الروثة بأنها رِكس بالكاف، وحديث ابن خُزَيمة الذي رواه ابن ماجة أيضاً وصف الروثة بأنها رِجس بالجيم، وذكر ابن خُزَيمة أن الروثة كانت روثة حمار. والجواب عليه ما يلي: إن الرواية الصحيحة القوية تُقدَّم على الرواية الأضعف منها، حتى وإن كانت هي الأخرى صحيحة. فرواية البخاري أقوى من رواية ابن خُزَيمة وابن ماجة، فالأصل العمل بحديث البخاري دون حديث ابن خُزَيمة وابن ماجة، ومع ذلك، وإقامةً للحُجَّة على هؤلاء، سنَعمل بالروايتين معاً، ولنبدأ برواية البخاري.

إن كلمة رِكس الواردة في الحديث وصفاً للروثة لا تعني النجاسة، ومن فسرها بذلك فقد أخطأ، فاللغة العربية لم تُستعمل فيها كلمة رِكس بمعنى نجِس، وما ورد في بعض المعاجم من تفسيرها بنجس إنما كان بتأثيرٍ من أقوال الفقهاء. فالقاموس المحيط فسرها بمعنيين رِكس بالكسر: رِجس، ورَكس بالفتح: ردُّ الشيء مقلوباً وقلب أوَّله على آخره. وجاء في لسان العرب لابن منظور: الرَّكس: قلب الشيء على رأسه أو ردُّ أوله على آخره، وجاء في مكان ثانٍ له: الرَّكس: ردُّ الشيء مقلوباً. قال ابن حجر العسقلاني (الأوْلى أن يُقال ردٌّ من حالة الطعام إلى حالة الروث) ونُقل عن أبي عبد الملك أن معناه الردُّ كما قال تعالى: أُرْكِسوا فيها، أي رُدُّوا. وعلَّق ابن حجر على هذا القول (ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال أركسه رَكساً إذا ردَّه) وبمثل هذا فسرها ابن عباس فقال: أَرْكَسهم ردَّهم. وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى {كلَّ ما رُدُّوا إلى الفتنةِ أُركِسوا فيها} قال (يقول الله كلما رُدوا إلى الفتنة أُركِسوا فيها، يعني كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا، فصاروا مشركين مثلهم) وقال النَّسائي (الرِّكس طعام الجن) فعقَّب عليه ابن حجر العسقلاني بقوله (وهذا إن ثبت في اللغة فهو مُريحٌ من الإشكال) .

ص: 93

إذن أئمة اللغة والحديث اختلفوا في تفسير هذه اللفظة، وجُلُّهم يفسرها بالردِّ والقلب، وما ترددهم إلا لأن اللغة استعملت اللفظة بالفتح، والحديث قُرئت فيه الكلمة بالكسر، وإذا اختلفت الآراء فلا بد من مُرجِّح وإلا ظل تفسيرها يحتمل أكثر من وجه، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال كما يقول الأصوليون. أي إما أن يظل الاحتمال قائماً فلا تصلح للاحتجاج، وإما أن يُزال الاحتمال بمرجِّح فيصح الاستدلال.

وبالرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف نجد المرجِّح واضحاً تماماً. أما القرآن الكريم فقد استعمل جذر هذه الكلمة في موضعين: الأول في الآية 88 من سورة النساء، والثاني في الآية 91 من السورة نفسها. الآية الأولى تقول {فَمَا لَكُمْ في المنَافِقِيْنَ فِئَتَيْنِ واللهُ أَرْكَسَهم بما كَسَبُوا} والآية الثانية تقول {كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيْها} وهاتان الآيتان تشيران إلى معنى واحد للرَّكس هو الرد والقلب، وهو ما يوافق تفسير القاموس المحيط وتفسير لسان العرب، وتفسير ابن عباس وابن حجر وابن جرير وأبي عبد الملك. فالصواب هو أن كلمة رَكس بالفتح معناها القلب والرد. هذا هو معناها في القرآن الكريم، وهو معناها في اللغة.

فإن قالوا إن القرآن استعمل جذر كلمة ركس بالفتح، أما الحديث فقد ورد فيه اللفظ بالكسر رِكس، ورِكس معناها نجس، قلنا لهم: وأين اللغة التي تحدد هذا المعنى أيضاً؟ فالقاموس المحيط فسَّر كلمة رِكس بالكسر بأن معناها رِجس وكذلك فسرها مختار الصحاح، ولم يُفسِّراها بنجس، وكلمة رِجس لا تعني النجس إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.

والآن لننتقل إلى تفسير كلمة رِجس، وهي اللفظة الواردة في رواية ابن ماجة وابن خُزَيمة.

ص: 94

ب- قالت معاجم اللغة إن كلمة رِجس معناها القَذَر، وإن القذر منه المادِّي، ومنه غير المادي من الأعمال، وقد فسَّرتها بالغضب وبالقبح وبالإعاقة وبالاختلاط وبالالتباس وبالشك وبالعقاب، وفسرتها بعض المعاجم بالنجس. فهي إذن ذات معانٍ متعددة ليست النجاسة أبرزها. هذا في اللغة.

أما في القرآن الكريم فقد وردت هذه اللفظة في عشرة مواضع في تسع آيات، لا بأس بأن أذكرها كلها:

1-

{إنما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآية 90 من سورة المائدة.

2-

{كذلك يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية 125 من سورة الأنعام.

3-

{إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ} الآية 145 من سورة الأنعام.

4-

{قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ ربِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ} الآية 71 من سورة الأعراف.

5-

{فأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية 95 من سورة التوبة.

6-

{ويَجْعَلُ الرِّجْسَ على الذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الآية 100 من سورة يونس.

7-

{فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِن الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الآية 30 من سورة الحج.

8-

{إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} الآية 33 من سورة الأحزاب.

9-

{وأَما الذِينَ في قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ فزَادتْهُمْ رِجْسَاً إلى رِجْسِهِمْ} الآية 125من سورة التوبة.

ص: 95

وبالتدقيق في هؤلاء الآيات يتبين أن كلمة رِجس الواردة فيها لها عدة معان، ليس منها النجاسة إلا في موضعٍ واحد وبالقرينة، كما سبق بحثه في بحث [سُؤر الحيوان] هو الآية الثالثة {إلا أَنْ يَكُوْنَ مَيتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ} وجميع المعاني الباقية تغاير هذا المعنى. ففي الآية الأولى ليس الميسر وليست الأنصاب نجسة، وفي الثانية تفيد معنى السوء، وفي الرابعة تفيد معنى العذاب، وفي الخامسة تفيد نجاسةً معنوية كما سبق تحقيقه، وفي السادسة تفيد عقاباً وسوءاً، وفي السابعة لم يقل أحد إن الأوثان نجسة، وفي الثامنة لا يقول أحد إن الله يريد أن يُذهب النجاسة عن أهل البيت، وفي التاسعة لا تفيد لفظة رِجس النجاسةَ في موضعيها من الآية. ولو شئتُ أن أجمع هذه المعاني كلها في كلمة واحدة لقلت إن معناها (سوء) ، وخذ الآيات كلها وفسِّرها بهذا المعنى فستجد انطباقها عليه. فكلمة رِجس تعني السوء، ولا تعني النجاسة إلا بقرينة كما أسلفنا. إذن فليس في القرآن ما يوجب تفسير الرِّجس بأنه النجس، فيكون معنى الحديث أن الروثة رَكس أي ردٌّ وقلبٌ، أو رِجس، بمعنى سوء. هذه هي دلالتها في اللغة وفي القرآن الكريم.

أما الحديث فقد فسَّر هذه اللفظة بأوضح بيان وأجلى عبارة، ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً.

ص: 96

1-

عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال فانطَلَق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابِّكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» رواه مسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «فلا تستنجوا بالعظم ولا بالبعر فإنه زاد إخوانكم من الجن» . ورواه الترمذي ولفظه «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجنِّ» وقال (والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم) .

2-

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستنجَى بروثٍ أو عظمٍ وقال: إنهما لا تُطهِّران» رواه الدارقطني وقال: إسنادٌ صحيح.

3-

عن أبي هريرة «أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إِداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: ابغني أحجاراً أستنفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بالُ العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجنِّ، وإنه أتاني وفد جنِّ نَصِيبِين - ونعم الجنُّ - فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمرُّوا بعظم، ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً» رواه البخاري.

ص: 97

4-

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «سأَلَت الجنُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة لقيهم في بعض شعاب مكة الزاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ عظم يقع في أيديكم قد ذُكر اسمُ الله عليه أوفرُ ما يكون لحماً، والبعرُ يكون علفاً لدوابكم، فقال: إن بني آدم يُنَجِّسونه علينا، فعند ذلك قال: لا تستنجوا بروث دابَّة ولا بعظمٍ، إنه زاد إخوانكم من الجن» رواه الطَّحاوي. ففي هذه الأحاديث الدليل القوي الواضح على أن كلمة رِجس وكلمة ركس هنا لا تعنيان النجاسة، وأن علة منع الاستنجاء بالعظم وبالروث هي أنهما من طعام الجن وليس لأنهما نجستان.

القرآن الكريم استعمل كلمة رَكس بمعنى الردِّ والقلب، واستعمل كلمة رِجس بمعانٍ عدة يجمعها كلها كلمةُ سوء، والرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بالروثة قال عنها:

أ- إنها رَكس، أي ردٌّ وقلبٌ، بمعنى أنها سترتدُّ وستنقلب، أي ستتحول من حال إلى حال. وجاءت الأحاديث الأخرى تبين ماهية التحول هذا، وأن ذلك يعني تحولَها من جديد إلى طعام أي سترتدُّ إلى حالها الأُولى من الغذاء. هذا هو معنى الردِّ والقلب كما جاء في معاجم اللغة، وكما جاء في استعمالات القرآن الكريم. فالقرآن الكريم والسنة الشريفة ومعاجم اللغة التقت كلُّها عند معنى واحد لكلمة رَكس، هو الارتداد والانقلاب إلى ما كان عليه من قبل. وإذا التقت هذه الثلاثة على معنى واحد لم يجُزْ لأحدٍ كأنناً مَن كان أن يخالف ذلك.

ص: 98

ب- إنها رِجس، ورِجس معناها سوء، ومعناها سُخط كما فسَّرها عبد الله بن عباس. والسوء عكس الصلاح، قال سبحانه {وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطَوا عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سيِّئاً} الآية 102 من سورة التوبة. وقال سبحانه {ومَنْ يُؤْمِنْ باللهِ ويَعْمَلْ صَالِحَاً يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ} الآية 9 من سورة التغابن. وقال جل جلاله {ومَا يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ والذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا المُسِيءُ} الآية 58 من سورة غافر. فهؤلاء الآيات الكريمات قد ذكرن الصلاح والسوء وجعلن الصلاح عكس السوء، فالسوء غير الصلاح والسَّيِّءُ غير الصالح فهما متضادتان. وإذن فإن لفظة (رِجس) معناها سوء وسخط وعدم صلاح. هذه هي أجمع معانيها، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام عن الروثة إنها رِجس، يفيد أنها سيئةٌ في الاستنجاء، أو أنها سُخط، أو أنها غير صالحة. هذه هي معاني رِجس هنا، وليس من معانيها هنا النجاسة لا من قريب ولا من بعيد.

وباختصار نقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بروثةٍ أراد أن يبين أنها لا تُستعمل في الاستنجاء، فاستعمل كلمة رَكس ومعناها أنها ستتحول إلى حالها الأولى من الطعام أي أنها ستكون طعام الجنِّ بعد تحولها في أيديهم إلى طعام، وإذا أوردنا لفظة رِجس قلنا إنه عليه الصلاة والسلام أراد بها إظهار رفضه لاستعمالها فقال إنها سيئة أي غير صالحة وإنها سخط أي مخالفة للوعد الذي قطعه عليه الصلاة والسلام لإخواننا الجن.

ص: 99

هذه هي معاني الحديث بلفظتيه رَكس ورِجس، وهي معانٍ متعاضدةٌ متناسبة مع استعمال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الكثيرة التي اجتزأنا بعضاً منها، وليس منها معنى النجاسة. بل لماذا نذهب بعيداً والحديث الرابع يقول «إن بني آدم يُنجِّسونه علينا» فهذا نصٌّ يدلُّ دلالة قطعية على طهارة الروث والعظم، لأن ما كان نجساً لا يُطلب عدم تنجيسه، فكون الحديث يقول ما قال فهو دليل أكيد على طهارتهما.

وإذن وبعد أن ظهر خطأُ استشهادهم على نجاسة الروث، فإن الرَّوث يظل على أصله من الطهارة، ويظل بول الآدمي فحسب هو النجس، وهذا وحده يكفي للتدليل على طهارة جميع الأبوال لجميع الحيوانات، باستثناء أبوال الكلاب والخنازير، لما سبق تحقيقه من نجاسة الكلب ونجاسة الخنزير، إذ أنهما ما داما نجسين فأبوالهما نجسة قطعاً.

وإنَّ الأمر ليزيد عن حد الكفاية إلى حد الاطمئنان حين نستشهد بالأحاديث الثلاثة التي سبق أن استشهد بها أصحاب الرأي الأول على طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه، فهي في الواقع يُستشهد بها للاطمئنان على صحة الرأي القائل بطهارة أبوال وأزبال الدوابِّ كلها، وأن هذه النصوص الثلاثة إنما تناولت أفراداً من المباح ولم تستقص المباح كله، فالمباح ثبت حين أبطلنا أدلة من قال بنجاسة الأبوال، لأن الأصل في الأشياء أن تكون طاهرة.

بقيت النقطة الأخيرة، وهي التداوي: هل يجوز التداوي بالدواء الخبيث أو النجس، أو الحرام أم لا يجوز؟ الصحيح أن التداوي بالنجس أو بالمُحرَّم حرام لا يجوز لما يلي:

أ- عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.

ص: 100

ب - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداوَوْا ولا تَداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي وقد سبق.

ج - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار وقد سبق.

د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي وقد سبق.

فقوله عليه الصلاة السلام (في حرام) وقوله (الدواء الخبيث) وكذلك نهيه عن التداوي بالخمر يشمل كل نجس وحرام، ولم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم أية نجاسة أو أي مُحَرَّم من هذا العموم، ولذا يظل الحكم عاماً في كل حرام وكل نجس.

ص: 101

وأما حديث العُرَنيين الذي سمح بالتداوي بأبوال الإبل، فهو متَّسق مع هذا الحكم العام لأن أبوال الإبل طاهرة فلا يشملها النهي، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في أبوال الإبل وألبانها شفاءً للذَّرِبَةِ بطونُهم» رواه أحمد. ورواه ابن المنذر بلفظ «اشربوا من ألبانها وأبوالها» . قوله الذَّرِبة - من الذَّرَب بالتحريك -: هو داء يصيب المعدة فيمنعها من هضم الطعام فيفسد فيها. وقال ابن المنذر تعقيباً على حديث العُرَنيين (فإن قال قائل بأن ذلك للعُرَنيين خاصة، قيل له: لو جاز أن يقال في شيء من الأشياء خاصة بغير حجة لجاز لكل من أراد فيما لا يوافق من السنن مذاهب أصحابه أن يقول ذلك خاص

واستعمال الخاصَّة والعامَّة أبوالَ الإبل في الأدوية، وبيع الناس ذلك في أسواقهم، وكذلك الأبعار تباع في الأسواق، ومرابض الغنم يُصلَّى فيها، والسنن الثابتة دليل على طهارة ذلك، ولو كان بيع ذلك محرماً لأنكر ذلك أهل العلم، وفي ترك أهل العلم إنكار بيع ذلك في القديم والحديث، واستعمال ذلك معتمدين فيها على السُّنة الثابتة بيان لما ذكرناه) وهكذا فهم المسلمون الأوائل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يصنعون الأدوية من أبوال الإبل وهم يعلمون نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالنجس، مما يوضح أنهم كانوا يعتبرون أبوال الإبل طاهرة.

ص: 102

أما استشهاد بعضهم بحديث ترخيص رسول الله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن ابن عوف بلبس الحرير في الحكة مع أن لبس الحرير للرجال حرام، فنزيل هذه الشبهة بإيراد نص الحديث ثم بيان دلالته. عن أنس قال «رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي وأبو داود. ورواه مسلم ولفظه «إن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شَكَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قُمُص الحرير في غزاة لهما» . فهذا الحديث ليس في موضوع العلاج، وليس هو في باب التداوي، ولا يُدرج هنا، بل مكانه باب الرخص للمريض، فلبس الحرير ليس دواء وليس علاجاً، ولا يُصنَّف في قائمة العلاجات والأدوية لمرض الحكَّة، وإنما يقال إن الحكَّة مرض يُرخَّص لصاحبها في لبس الحرير، وبحث الرخص معلوم في الفقه، وهو حالات استثنائية يجوز فيها للمريض ما لا يجوز لغيره، فالمريض في رمضان يُرخَّص له في الإفطار، ولا يقال إن الإفطار - وهو في الأصل إثم - علاجٌ للمريض الصائم، وإنما يقال هو رخصة، والمريض يُرخَّص له في الصلاة قاعداً، ولا يقال إن الصلاة قاعداً علاج، وإنما يُقال إنها رخصة، والمريض إذا كان الماء يضرُّه يُرخَّص له في التيمُّم مع وجود الماء، ولا يقال إن التيمُّم علاج، وكذلك المريض بالحكَّة يُرخَّص له في لبس الحرير، ولبس الحرير ليس علاجاً، وإنما هو رخصة، وهكذا الرُّخص كلها حالات استثنائية يباح فيها فعل الحرام أو ترك الواجب، وليست علاجات وليست أدوية، والقاسم المشترك بينها هو دفع المشقَّة والأذى عن المريض، فالصيام مشقة، والوضوء بالماء مشقة وأذى، ولبس الملابس الخشنة مشقة. هكذا يجب أن يُفهم حديث لبس الحرير للحكَّة، وهو أنه رخصة في حالة مرض الحكة وليس علاجاً وليس دواء. وبذلك يظل الحكم العام قائماً، وتظل النصوص كلها منسجمة بعضها مع بعض. فالتداوي بالحرام

ص: 103

حرام، والتداوي بالنجس حرام، ولا يجوز استعمالهما في العلاج مطلقاً، وليس في النصوص أيُّ نسخٍ لهذا الحكم ولا أي مخصِّص ولا أي معارِض.

أما قولهم إن الدواء الخبيث يُحمل على حالة الاضطرار، والدواء الخبيث لا يحل في حالة الاختيار، فهو تأويل يشبه تأويلهم لحديث الصلاة في مرابض الغنم من أنه يُحمل على الصلاة في الأماكن التي ليس فيها بول أو بَعَر، وتأويلهم لحديث التداوي بأبوال الإبل من أنه يُحمل على حالة الاضطرار، فهم يتبنَّون حكماً يرونه صحيحاً ثم يؤولِّون الأحاديث والنصوص التي تخالف هذه الحكم، وكان الواجب عليهم العمل بجميع النصوص عندما تكون منسجمة بعضها مع بعض ولا تَعارُض بينها.

أما هذه الحالة التي وضعوها للدواء - وهي حالة الاختيار والاضطرار - فإنا نقول إن الله سبحانه أباح لنا في حالة الاضطرار أن نفعل الحرام، فنأكل الميتة ونشرب الخمر ونسرق الطعام ولكن هذا شيء والتداوي بالخبيث في حالة الاضطرار شيء آخر، بمعنى أنه لو وُجد شخص أشرف على الموت عطشاً وليس عنده شراب إلا الخمر جاز له شُربُها لينقذ نفسه، وإذا كان المسلم سجيناً ومنع السَّجَّان عنه الطعام حتى أوشك على الهلاك جاز له أن يقتل السَّجَّان ويخلِّص نفسه، فهذا هو غير الباب الذي نحن بصدده، وهذا هو معنى الآية الكريمة التي استشهدوا بها على خطأ رأيهم {وَقَدْ فَصَّلَ لكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضطُرِرتُمْ إليه} . فالاضطرار حالة غير حالة المرض، وأدلتها غير أدلة المريض وأدلة العلاج، لأن الاضطرار هو الحالة التي يشرف فيها الإنسان على الموت، وهو الحالة التي أشارت إليها الآية الكريمة {فمَنْ اضطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ} ففي حالة الاضطرار يجوز فعل الحرام من أجل الخروج والخلاص منها، أما موضوعنا فشيء آخَرُ تماماً.

ص: 104

فالمرض ليس حالة اضطرار ولا يجوز خلط الاضطرار بحالة المرض أو الدواء للاختلاف بينهما، ففي حالة المرض يظل الحكم عاماً، وهو حرمة التداوي بالنجس أو بالحرام. وهكذا فإنه ليس لهم حجة على ما أوردوه، ويظل الأمر كله بجميع فروعه منسجماً مع بعضه، فأبوال الإبل طاهرة، ولذلك يجوز التداوي بها، والخمر نجسة ولذلك لا يجوز التداوي بها.

ونحن نستطيع الوصول إلى الحكم نفسه بأن نقول إن الشرع حرَّم الانتفاع بالنجس، وإن الشرع حرَّم الحرام بداهة، وجعل الانتفاع بالنجس وفعل الحرام حراماً وليس مباحاً ولا مكروهاً، وما دام الدواء النجس نجساً فإنه يحرم الانتفاع به وما دام الدواء محرَّماً فإنه يحرُم تعاطيه.

ويجوز أن نستثني من هذه الحكم العام ما نشاء إن وجدنا نصوصاً مخصِّصة ومستثنِية، ولكننا رغم بحثنا لم نجد أي نص مخصِّص أو مُستثنٍ، فالتداوي بأبوال الإبل ليس مُخصِّصاً، والترخيص بلبس الحرير ليس مستثنياً، وإذن فإن انتفاء التخصيص والاستثناء يقود بالضرورة إلى إعمال الحكم العام، وهو حرمة التداوي بالنجس وبالحرام. وما قلناه من عدم وجود التخصيص وعدم وجود الاستثناء نقوله أيضاً من عدم وجود التعارض، فليس في النصوص أي نص يعارض الحكم بالتحريم.

ص: 105

ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع كلمات كتبها ابن القيم في كتاب الطب النبوي أنقلها إليكم كما وردت (إنما حرَّم الله على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه، وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها لكنه يُعقِب سَقَماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سُقْم البدن بسَقَم القلب، وأيضاً فإن تحريمه يقتضي تجنَّبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواءً حضٌّ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع) وأضاف ابن القيم (إن في إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامها جالب لشفائها، فهذا أحبُّ شيء إليها، والشارع سدَّ الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سدِّ الذريعة إلى تناوله وفتحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً، وأيضاً فإن هذا الدواء المُحرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء) وأضاف (ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقِّي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء) فهو قول مُشرقٌ بليغ. وبذلك لا نكون في حالة نحتاج معها إلى التأويل الذي يؤدي إلى تعطيل الأدلة الشرعية، أو صرفها عن الجهة التي جاءت لعلاجها. من كل ذلك نخلص إلى القول إن أصحاب الفريق الأول أصابوا وأخطأوا وإنَّ أصحاب الفريق الثاني أخطأوا ولم يُصيبوا، وإنَّ أصحاب الفريق الثالث أصابوا ولم يُخطئوا، اللهم إلا إذا لم يستثنوا الكلب والخنزير، وهو استثناءٌ لا أعلم إِن كانوا قالوه أو لا.

ص: 106