الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما ما يقولونه بخصوص إطعام الميتة للكلاب،فهو ليس من باب الانتفاع الذي نبحث فيه، فالكلاب نجسة وإطعامها الميتة النجسة هو حالة خاصة، إذ هو ضم نجاسة إلى نجاسة ولا مانع من ذلك، أما إطعامها للحيوانات الطاهرة، أو استعمالها في شيء طاهر فهو تنجيس له، وهذا لا يجوز. وقد ورد النهي عن ركوب الجَلَاّلة وأكل لحمها وشرب لبنها، لا لشيء إلا لأنها تأكل العذرة النجسة. فعن ابن عباس قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبن شاة الجَلَاّلة، وعن المُجثِّمة، وعن الشرب مِن في السِّقاء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية وعن الجَلَاّلة وعن ركوبها وأكل لحومها» رواه أحمد والنَّسائي بسند جيد رجاله ثقات ما عدا مؤمِّل وثَّقه ابن مُعين. فإذا أكلت الإبل والأبقار والأغنام والدجاج النجاسات فقد نُهينا ليس عن أكلها فحسب، بل عن ركوب ما يُركب منها أيضاً، فانظر إلى أي أثرٍ لاستعمال النجاسة في الأشياء الطاهرة. ويُكره أكل الجَلَاّلة إلا أن تُعلف بالعلف الطاهر فترة تكفي لتخلِّصها مما أكلت من النجس.
هل يجب العدد في إزالة النجاسة
؟
إن إزالة عين النجاسة هي التطهير أو الطهارة، وهذه الطهارة لا يلزمها تحديد عدد الغسلات، وإنما المطلوب فحسب هو إزالة النجاسة. أمَّا أَن تُزال النجاسة بعدد محدد من الغسلات فليس بلازم، فجميع النصوص التي ورد فيها الأمر بإزالة النجاسة أو غسل الأشياء المتنجسة لم تطلب عدداً محدداً من الغسلات إلا في ثلاثة مواضع لا غير: هي الاستنجاء بأحجار ثلاثة، وغسل اليدين بعد نوم الليل ثلاث مرات، وغسل ما ولغ فيه الكلب من الآنية سبعاً أُولاهن بالتراب، وما سوى هذه المواطن الثلاثة جاءت النصوص مطلقة دون تقييد الغسلات بعدد محدد. فحديث بول الأعرابي لم يرد فيه عدد، وأحاديث غسل دم الحيض ودم المستحاضة لم يرد فيها عدد، وأحاديث غسل المذي والبول وآنية الكفار مما وضع فيها من لحم الخنزير والخمر لم يرد فيها عدد مطلقاً، ولم يرد العدد إلا في المواطن الثلاثة المارة فحسب، وإذن فإنَّ الأصل في الطهارة أو التطهير أن تُزيل أعيان النجاسات فقط، بمعنى أن يُغسل الثوب أو البدن أو الأرض أو أي شيء حتى تزايله النجاسة، سواء احتجنا في إزالتها إلى غسلة واحدة أو ثلاثٍ أو عشرين، فالعدد غير مقصود وغير مطلوب، وإنما المطلوب فقط الغسل الذي يزيل النجاسة.
المواطنُ الثلاثة التي ورد فيها عدد
أ - غسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يُدخلْ يدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
ب - الاستنجاء من الغائط: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «
…
لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أحمد ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذهب أحدكم للحاجة فلْيَسْتطبَّ بثلاثة أحجار فإنها تُجْزِئه» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي. ورواه الدارقطني وصحَّحه.
ج - غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
أما الحديث الأول فإنه معلَّل «فإنه لا يدري أين باتت يده» فالأمر بغسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل معلَّل بوَهْمِ النجاسة أو بالشك في النجاسة، ولولا ذلك لما أمر بالغسل فضلاً عن أن يأمر بالغسل ثلاثاً، وكون العلَّة هي وَهْمُ النجاسة، فهي قرينة صارفة للأمر عن الوجوب، لأن الواجب هو غسل المتيقَّن من نجاسته، وحيث أن النجاسة هنا غير متيقنة، فإن الأمر في الحديث يُحمل عن الندب فقط. فغسل اليدين عقب القيام من النوم مندوب، فيكون غسلهما ثلاثاً داخلاً في المندوب وليس ذلك واجباً، فالعدد هنا مندوب ولا يجب.
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلْيستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ولم يقل الفقهاء والعلماء بوجوب الاستنثار هذا، وإن هذا الطلب إنما قُصد منه إذهاب ما يلصق بمجرى النفس من الأوساخ، ليكون سبباً في نشاط القارئ وطرد الشيطان.
وقد ذكر الشافعي وغيره من العلماء أن السبب في حديث غسل اليدين أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على دُبُره الذي فيه أثر الغائط. وقد روى ابن خُزَيمة هذا الحديث بلفظ يقوِّي هذا الفهم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في إنائه أو في وَضوئه حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين أتت يده منه» أي من جسده. فالأمر إذن إنما هو لدفع وهْم النجاسة بالغائط، فإذا نام أحدنا الآن وقد لبس ملابس تحول دون وصول يديه إلى دُبُره، فإن غسل يديه حين الاستيقاظ يكون غير مطلوب إلا أن يفعله تعبُّداً محضاً، سيما ونحن اليوم نستنجي بالماء الذي ينقِّي الدبر من الغائط تماماً. فالعدد إذن هنا غير واجب، وهو لا يزيد عن كونه يعالج وهم النجاسة.
أما الحديث الثاني فهو في موضوع تنظيف الدُّبُر من الغائط وقد طلب الحديث استعمال ثلاثة أحجار على الأقل وقال «فإنها تُجْزِئه» ففهم من هذا النص جماعة من العلماء أن العدد هنا واجب وأن الاستجمار لا يجوز بأقل من ثلاثة، واعتبروا أن العدد يدخل في إزالة النجاسة وقاسوا غسل النجاسات كلها على هذا الحديث فقالوا بغسل كل نجاسة ثلاثاً، وقد وَهَمَ هؤلاء جميعاً، فإن لدينا حديثاً يردُّ عليهم ويبطل العدد حتى في الاستنجاء، فقد روى الدارقطني بسند حسن عن سهل بن سعد «أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الاستطابة، فقال: أَوَلا يجد أحدُكم ثلاثة أحجار: حجرين للصَّفحتين، وحجرٍ للمسربة؟» فأي نصٍّ أبلغ وأوضح من هذا النص الذي يقرر أن تنظيف الموضع الواحد يكفيه حجر واحد؟ فقد جعل حجراً واحداً للمسربة، وحجراً واحداً للصفحة اليمنى، وحجراً واحداً للصفحة اليسرى، أي أن هذا الحديث اكتفى في الاستنجاء بحجر واحد للموضع الواحد ولم يطلب عدداً، وبيَّن في الوقت نفسه سبب طلب الأحجار الثلاثة للاستنجاء، وأنها ثلاثة أحجار لثلاثة مواضع، فأي تفسير أبلغ من هذا التفسير؟ وأي رد أبلغ من هذا الرد على من اشترطوا العدد في الاستنجاء وعمَّموه على سائر الأغسال؟ ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً.
هذا هو منطوق الحديث، وهو واضح الدلالة على نفي العدد في إزالة النجاسة، فإذا علمنا أن المسربة مثلاً يكفيها حجر واحد، علمنا أن المسربة سيظل بها أثر الغائط، ومع ذلك لم يطلب الشرع إتْباع الحجر الأول بحجر ثان، فإذا كان الموضع يبقى فيه أثر النجاسة، ومع ذلك لا يطلب منا إزالته بحجر ثان أو ثالث، فأي رد أبلغ عليهم من ذلك؟ وما هذا العدد الذي أَتوْا به في إزالة النجاسات؟ وكيف يقال إن الغسل يجب له عدد؟ وهذا هو ما يفسِّر قول الشافعي وغيره في سبب طلب الرسول عليه الصلاة والسلام غسل اليدين عند الاستيقاظ، وهو أن الدبر يظل فيه أثر النجاسة. وبذلك ينتفي استدلالهم بهذا الحديث وبالذي قبله على وجوب العدد في إزالة النجاسات.
وإذا أضفنا إلى ما سبق القول، إن الغسل هو مجرد إزالة النجاسة لتنقية الموضع فحسب وليس للتعبُّد بعدد مخصوص، وإن ما جاء في الأحاديث هو طلب إزالة النجاسة دون أية إضافة أدركنا تماماً عُقم القول بوجوب العدد. وليس أدل على هذا من حديث أبي ثعلبة الخشني وقد مرَّ، فهذا الحديث يطلب غسل آنية الكفار وقدورهم ولا يطلب عدداً، وقد بيَّن الغاية من الغسل وهي الإنقاء «فقال أَنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها» رواه الترمذي. فالغاية من كل غسل هي الإنقاء، وهكذا يجب عند غسل أي شيء متنجس تحقيق هذه الغاية فحسب، ولا بأس بعدئذ من بقاء آثار يسيرة من النجاسة، فالشرع يسَّر على الناس، وتجاوز عن اليسير والنادر.
بقي الحديث الثالث، والجواب عليه من وجهين:
أ- إن العدد الوارد في أحاديث ولوغ الكلب غير معلَّل، وإذن فلا يجب الوقوف عنده ولا يصح قياس غيره عليه، فنجاسة الإناء من ولوغ الكلب تُزال بالغسل بعدد، ولا يُزال غيرها به، فالعدد محصور ومقصور على غسل نجاسة الولوغ.
ب - ورد حديث الولوغ أو أحاديث الولوغ بألفاظ وروايات عديدة نجتزيء منها ما يفي بالغرض هكذا:
1-
«إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسلْه سبعاً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي ومالك.
2-
«طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسلَه سبع مرات أُولاهنَّ بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
3 – «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفِّروه الثامنة في التراب» رواه مسلم وابن ماجة وأبو داود والنَّسائي.
4 – «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرقه ثم ليغسله سبع مرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي والبيهقي.
5-
«إذا ولغ الكلب في إناء أحدٍ فلْيغسله سبع مرات أحسبه قال: إحداهن بالتراب» رواه البزَّار.
6-
«إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرَّات، السابعة بالتراب» رواه أبو داود والدارقطني.
7 – «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أُولاهن أو أُخراهن بالتراب» رواه الترمذي والشافعي بسند صحيح.
جميع هذه الروايات مرويَّة من طريق أبي هريرة إلا الثالثة «وعفِّروه الثامنة في التراب» فمرويَّة من طريق عبد الله بن مغفل - مسلم وابن ماجه وأبو داود والنَّسائي -. وقد اختلف الأئمة حيال هذه الروايات اختلافاً واسعاً، فقال أحمد ومالك في رواية عنه، إن الغسل يكون بالماء سبع مرات والثامنة بالتراب، وقال الأحناف بعدم وجوب التتريب وعدم وجوب التسبيع بالماء. وقال المالكيون بوجوب التسبيع بالماء دون وجوب التتريب. وقال الشافعي بوجوب التسبيع بالماء، ووجوب التتريب في الغسلة الأولى.
وقد بحث الصنعاني في كتابه سبل السلام هذه المسألة بحثاً جيداً، أنقل لكم قوله كله فيه (بعض من قال بإيجاب التسبيع قال: لا تجب غُسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، وَرُدَّ بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة، وأورد على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فرُوي أولاهن أو أخراهن أو إحداهن أو السابعة أو الثامنة، والاضطراب قادح فيجب الاطِّراح لها، وأجيب عنه بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات وليس ذلك هنا كذلك، فإن رواية أُولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض، وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها، وبيان ذلك أن رواية أُخراهن منفردة لا توجد في شيء من كتب الحديث مسندة، ورواية السابعة بالتراب اختُلف فيها فلا تقاوم رواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن رواها الراوي على الشك، فهي إذن ضعيفة لا تصلح للاحتجاج، ثم إن هذه الرواية مطلقة فيجب حملها على المقيدة، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أُولاهن أرجح، وإن كان من كلامه صلى الله عليه وسلم فهو تخيير منه صلى الله عليه وسلم، ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عند الشيخين كما عرفت) وأضاف في موضع آخر (وقد ثبت عند مسلم - وعفِّروه الثامنة بالتراب - قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن البصري، ولم يقل بها غيره ولعل المراد بذلك من المتقدمين) فالصنعاني يأخذ بأرجح الروايات عنده وهي رواية رقم (2) المتقدمة، ورأيه صحيح، وهو يطابق رأي الشافعي.
وأُضيف لمزيد بيان: إن الرواية رقم 1 والرواية رقم 4 ذكرتا أن الغسل سبعٌ دون أن تأتيا على ذكر التراب، وجاءت روايات أخرى بذكر التراب وهذه زيادة يتعين المصير إليها والعمل بها. أما السادسة فجعلت التراب في المرة السابعة، والثالثة جعلته في الثامنة، والثانية جعلته في الأولى. أما رواية أبي داود وهي السادسة فلا تستوي مع الروايتين الثانية والثالثة من حيث السند فتقدمان عليها. نأتي للروايتين الثانية والثالثة فنقول: أما الرواية الثالثة «الثامنة في التراب» فقد أضافت غسلة ثامنة، بينما جميع الروايات الأخرى ذكرت أن الغسلات سبع، فهي رواية منفردة خالفت جميع الروايات، فهي إذن شاذَّة فتترك، فتبقى الرواية الثانية، وهذه حوت ما حوت جميع الروايات من حيث عدد الغسلات السبع، وهي التي تقول «أُولاهن بالتراب» فهي رواية محفوظة وصحيحة يُحتجُّ بها. قال البيهقي (إن أبا هريرة أحفظُ مَن روى الحديث في دهره فروايته أولى) يعني أولى من الرواية الثالثة، فلم تبق سوى الرواية الثانية التي تقول بجعل التراب في الأولى، والرواية السابعة التي تقول بالتخيير بين الأولى والأخرى، ونحن نرجح الرواية الثانية لأمرين: أحدهما أن الثانية أقوى إسناداً والأقوى مقدَّم حين التعارض أو الاختلاف. وثانيهما أن التخيير فيه معنى التردُّد، في حين أن تحديد التراب في الأولى حسم، والحسم أقوى من التردُّد. فتقدَّم الرواية الثانية على رواية التخيير ويُعمل بها، وبالعمل بها لا نكون خالفنا العمل برواية التخيير، وهذا مرجِّح ثالث.