المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: النفاس والولادة - الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة - جـ ١

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولأحكام المياه

- ‌الماء الطَّهور

- ‌الماءُ النَّجِس

- ‌ الماء المستعمَل

- ‌ فضل الماء في حديثين

- ‌تطبيقاتٌ على الماء

- ‌سُؤْر الحيوان

- ‌الفصل الثاني أعيانُ النجاسات

- ‌ البول

- ‌النجاساتُ من الإنسان

- ‌الغائط:

- ‌ المَذِي:

- ‌ الوَدِي:

- ‌النجاساتُ من الحيوان

- ‌2. الخنزير:

- ‌3. الميتة:

- ‌النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان

- ‌الدم المسفوح

- ‌النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان

- ‌الخمر:

- ‌شُبُهات

- ‌أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

- ‌ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة:

- ‌ثالثاً: نجاسة الدم:

- ‌رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس:

- ‌أ - النبيذ:

- ‌ب - لحوم الحُمُر الأهلية:

- ‌ج - الصَّديد:

- ‌هـ- القيء:

- ‌الفصل الثالث أحكامُ النجاسة

- ‌تمهيد

- ‌حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس

- ‌هل يجب العدد في إزالة النجاسة

- ‌ما يُستعمل في إزالة النَّجِس

- ‌تطهيرُ المتنجس

- ‌الاستحالة

- ‌الفصل الرابعأحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران

- ‌الفصل الخامسسُنَنُ الفِطرة

- ‌السواكُ

- ‌قصُّ الشَّارب

- ‌إعفاءُ اللحية

- ‌نتفُ الإبط

- ‌قصُّ الأظفار

- ‌غسل البراجم

- ‌حلقُ العانة

- ‌الخِتان

- ‌الفصل السادسالسُّننُ المُلحقة بالفِطرة

- ‌ أحكام الشَعَر

- ‌1. إكرام الشعر

- ‌2. نتف الشعر الأبيض:

- ‌3. صبغ الشعر الأبيض:

- ‌4. وصل الشعر:

- ‌5. نفش الشعر:

- ‌6. فرق الشَّعَر:

- ‌الفصل السابعالأغسالُ المستحبَّة بالنصوص

- ‌غسلُ يوم الجمعة

- ‌غُسل الإحرام ودخول مكة

- ‌غُسل مَن أُغمي عليه

- ‌غُسل من غسَّل ميتاً

- ‌الفصل الثامنالغُسل

- ‌صفة الغُسل

- ‌الغُسل المُجْزئ

- ‌الغُسل الأكمل

- ‌تفصيلات تتعلق بالغسل

- ‌الفصل التاسعمُوجباتُ الغُسل

- ‌أولاً: الجنابة

- ‌أحكامُ الجُنُب

- ‌ثانياً: إسلام الكافر

- ‌ثالثاً: الموت

- ‌رابعاً: الحيض

- ‌أحكام الحائض

- ‌الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب

- ‌دمُ الحيض ومدَّته

- ‌المستحاضة وأحكامها

- ‌خامساً: النفاس والولادة

- ‌الفصل العاشرالوضوء

- ‌تعريف الوضوء ومشروعيته

- ‌فضلُ الوضوء

- ‌صفةُ الوضوء

- ‌1ـ النِّيَّة:

- ‌2ـ التسمية:

- ‌3 ـ غسل الكفين:

- ‌4 ـ المضمضة:

- ‌5- التَّسوُّك:

- ‌6- الاستنشاق والاستنثار:

- ‌7- غسل الوجه:

- ‌8- غسل اليدين إلى المرفقين:

- ‌9- مسح الرأس:

- ‌10- مسح الأذنين:

- ‌11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين:

- ‌12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً:

- ‌13- الترتيب:

- ‌14- التيمُّن:

- ‌15- الموالاة:

- ‌الدعاءُ عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌الصلاة ركعتين عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌ما يُستحبُّ له الوضوء

- ‌ما يُلبس على الرأس

- ‌ما يُعْصَب على الجُرح والجَبيرة

- ‌ما يُلبس في القدم

- ‌1) الخارج من السبيلين

- ‌2) خروج الدم

- ‌3) القَيء

- ‌4) مسُّ الفرْج

- ‌5) النوم

- ‌6) أكل لحم الجَزور

- ‌مسائل

- ‌المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء

الفصل: ‌خامسا: النفاس والولادة

وقد يُسأل عن دليل جواز وطء المستحاضة، فأجيب بأنه لا يلزم دليلٌ لذلك لأن المستحاضة زوجةٌ تُوطأ، ولا يُمنع الزوج من وطء زوجته إلا في حالة الحيض والنفاس، وما سواهما لا يوجد دليل بالحظر والتحريم، والأصل إباحةُ الوطء لعموم الأدلة، ولا يصار إلى التحريم إلا بدليل ولا دليل. وقد روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش «أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» وإسناده حسن. وحمنة زوجة طلحة بن عبيد الله، وروى أبو داود عن عكرمة أيضاً «كانت أم حبيبة تُستحاض فكان زوجها يغشاها» وأم حبيبة زوجة عبد الرحمن بن عوف كما ذكر مسلم في صحيحه. وروى عبد الرزاق في مصنَّفه في باب المستحاضة عن عكرمة عن ابن عباس قال «لابأس أن يجامعها زوجها» فهذه المرويات من الآثار وإن كانت ليست أدلة لأنها أقوالُ صحابةٍ إلا أنها يُستَأنَسُ بها ويُطمئَنُّ بها على سلامة الرأي.

4-

المستحاضة تصلي وتصوم، وتفعل كل شيء كما تفعل الطاهرات سواء بسواء: وقد مرَّ في الأحاديث الأمر بالصلاة وبالصوم، ففي حديث حمنة السابق «وكذلك فافعلي وصلِّي وصومي» وحيث أن الصلاة والصوم شرطهما الطهارة، وقد طُلِبا من المستحاضة فقد دل ذلك على أن المستحاضة طاهرة كسائر الطاهرات، تفعل ما تفعله الطاهرات دون أي تمييز. وهذا رأي العلماء والأئمة دون مخالف.

‌خامساً: النفاس والولادة

أ- النِّفاس: هو الدم الخارج من الفرج بسبب الولادة شرط أن يتبين في المولود خلق إنسان سواء ولد حياً أو ميتاً. فيخرج من هذا التعريف ما يقذفه الرحم من نطفة أو علقة أو بداية مضغة، فهذا ليس ولادة وليس نفاساً، ولا تندرج النطفة أو العلقة أو بداية المضغة تحت لفظ المولود. والدليل على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية.

ص: 335

أما القرآن الكريم فقد قال الله عز وجل في سورة الحج، الآية 5 {يا أيها الناسُ إنْ كُنتم في رَيْبٍ مِن البَعْثِ فإنَّا خَلَقْنَاكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقةٍ وغيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنُبَيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأَرحَامِ ما نَشَاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} فجعلت الآية التخلق في مرحلة المضغة، وبالتالي فقد نفته عن النطفة والعلقة، فالمضغة بدء التخلُّق، أي بدء خلق الإنسان، وما قبلها ليس تخلُّقاً، وليس بدء إنسان، والولادة هي إنزال مولود مُخلَّق، وليس إنزال دم سائل أو جامد، لأن النطفة معناها المني، والعلقة معناها الدم الجامد، في حين أن المضغة هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ، فما كان دماً فليس بمولود، وما صار لحماً فهو مولود، وإن أردنا الدقة أكثر قلنا إن المضغة هي بداية مولود.

ص: 336

وأما الحديث فقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إنَّ أحدكم يُجمع خلْقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغَةً مثل ذلك، ثم يُرسَلُ المَلَكُ فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات بِكَتْبِ رزقِه وأجَلِهِ وعملِهِ وشقيٌّ أو سعيدٌ

» رواه مسلم والبخاري. فالحديث فسر الآية وبيَّن أن نفخ الروح إنما يحصل عقب تحوُّل العلقة إلى مضغة، بل عقب اكتمال تخلق المضغة، فالحديث يقول «ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يُرْسَل المَلَكُ فينفخ فيه الروح» فقد قال «ثم» وهي تفيد التعقيب والترتيب، فنفخُ الروح إنما يتم عقب حصول المضغة، أي عقب التَّخلُّق الحاصل في المضغة وليس في أثناء تخلُّقها، فلا تُنفخ الروح إلا بعد اكتمال خلق المضغة، فالتَّخلُّق مُصاحِبٌ للمُضغة تماماً، بمعنى أن العلقة بمجرد تحولها تدريجياً إلى مضغة يحصل التَّخلُّق تدريجياً، فالمضغة مصاحبة للتَّخلُّق، ولا يقال لها مضغة إلا إذا اكتملت، ولا تكتمل إلا إذا اكتمل تخلقها، وإذا اكتملت أو اكتمل تخلقها، فقد آن أوان نفخ الروح.

ص: 337

ومن هذا الفهم نخرج بالرأي التالي: إن المرأة إن أسقطت نُطفة أي عقب مرور أربعين يوماً كأقصى وقت لبدء الحمل، فإنها لا تكون قد أسقطت مولوداً، وإن أسقطت علقة أي عقب مرور ثمانين يوماً كأقصى وقت لبدء الحمل، فإنها أيضاً لا تكون قد أسقطت مولوداً، وهذا أمر ظاهر الوضوح. أما إن أسقطت مضغةً كاملةً التَّخلُّقِ بعد مرور ما يزيد على مائة وعشرين يوماً ولو بيوم واحد، فإنها تكون قد أسقطت مولوداً فيه روح، وهذا إسقاطٌ لإنسان وهو نفاس قطعاً لا شك فيه. فتبقى الفترة ما بين ثمانين يوماً ومائة وعشرين يوماً، وهي فترة تخلق المضغة، فهذه الفترة مرحلة انتقالية من جسم لا شك في أنه ليس مولوداً، ولم تحل فيه الروح، لأنه قطعة دم جامد كالكبد والطحال وليس لحماً، إلى جسم من لحم مخلَّق حلَّت فيه الروح. هذه الفترة اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من اعتبر إسقاط المضغة قبل اكتمال تخلقها إسقاط مولود، وبالتالي سمَّوْه نفاساً، ومنهم من اعتبر إسقاطها إسقاطاً مماثلاً لإسقاط النطفة والعلقة، أي ليس إسقاط مولود وليس نفاساً، والصحيح هو أن المضغة قبل اكتمال تخلُّقِها حكمُها حكم ما قبلها، لأن الروح لا تحل فيها قبل التَّخلُّق.

أما ما يتعلق بالنفاس من حيث الحكم للصلاة والطهارة والجماع فإنَّا نقول إن المرأة إن أسقطت بعد مائة يوم فَحَصْنا الساقط، فإن تبيَّنَّا فيه تخلق المولود بشكل بيِّن اعتبرناها في حالة نفاس وإلا فلا. قال ابن قدامة في المغني (إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان فهو نفاس نُصَّ عليه، وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس، وإن كان الملقى بضعة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان ففيها وجهان - أحدهما - هو نفاس لأنه بدء خلق آدمي فكان نفاساً كما لو تبين فيها خلق آدمي - والثاني- ليس بنفاس لأنه لم يتبين فيها خلق آدمي فأشبهت النطفة) .

ص: 338

ب- مدة النفاس: اختلف الأئمة والفقهاء في أكثر النفاس، فذهب مالك والشافعي إلى أن أكثره ستون يوماً، وقد رُوي عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. ورُوي مثله عن عطاء. وقال الشافعي: غالبه أربعون يوماً. وذهب علي وعمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وأنس وأم سلمة والشعبي والثوري وإسحق وأصحاب الرأي وأحمد والشوكاني والمزني وأبو عبيد إلى أن أكثره أربعون يوماً. وهذا الرأي الأخير هو الصحيح، والدليل عليه ما يلي:

1-

قال الترمذي (قد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومَن بعدهم على أن النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصلاة أربعين يوماً، إلا أن ترى الطُّهْر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي) فهو إذن إجماع الصحابة، وهذا دليل.

2-

عن علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مُسَّة الأزديَّة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، فكنا نطلي وجوهنا بالوَرْس من الكلف» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة. قال المُباركْفُوري شارح الترمذي (الحديث حسن صالح) . وقال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث. والحديث صححه الحاكم.

3-

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «

كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس» رواه أبو داود.

ص: 339

أما إجماع الصحابة فهو كاف كدليل على أن حدَّ النفاس الأعلى أربعون يوماً، وهذا وحده كافٍ للرد على أصحاب الرأي الأول، كما أن حديث أم سلمة الأول صريح الدلالة على الأربعين. وهذا القول من أُم سلمة يأخذ حكم الرفع لأنها قالت «كانت النُّفَسَاء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» فهي قد أضافت الفعل إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الإضافة تجعل الحديث يأخذ حكم الرفع كما يقول جمهور المُحدِّثين والأُصوليين.

أما أصحاب الرأي الأول فقد قالوا به بالاستقراء، وبِردِّ حديث أم سلمة الثاني واصفين إياه بأنه مُنْكَرُ المتن، لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما منهن مَن كانت نُفَسَاء أيام كونها معه سوى خديجة، وخديجة كانت زوجة له قبل الهجرة، وإذن فلا معنى لقول أم سلمة هذا كما يقولون.

ص: 340

أما الاستقراء فإنه لا يفيدهم، لأن الصعيد الذي بحثوه عليه هو غير الصعيد الذي كان عليهم بحثه عليه، وذلك أنهم علَّقوا أحكام النفاس على ما توصلوا إليه من دراسة ما عليه النساء، مِن حيثُ أكثرُ ما يكون نزول الدم عندهن دون أي اعتبار آخر، وهذا خطأ وقعوا فيه، وأوقعهم من ثَمَّ في خطأ الحكم المترتب عليه، ذلك أن الشرع نفسه قد حسم هذه المسألة حسماً قاطعاً، فقال إن حكم النفاس أقصاه أربعون يوماً كما جاء بإجماع الصحابة وهو دليل، وكما جاء بالحديث أيضاً، وكان ينبغي عليهم وقد قال الشرع كلمته أن يتوقفوا عن البحث عن أكثر زمنٍ لنزول دم النفاس إنْ هم أرادوا من ذلك تعليق حكم النفاس به، أما لو هم أرادوا مطلق المعرفة بأكثر وقت النفاس من حيث الواقع دون ربط ذلك بحكم النفاس فلا بأس، ولكنهم بحثوا عن أقصى النفاس، فوجوده عند عدد من النساء يزيد على الخمسين، وقد يصل إلى الستين والسبعين، فقالوا إن المرأة تدع الصلاة والصوم والجماع طيلة هذه الفترة الطويلة، وهذا خطأ لأن هذا القول معاندٌ صريحٌ للشرع، فالشرع علق الحكم بأربعين كحدٍّ أقصى، وما دام علق الحكم بالأربعين فإن تعليقه بالخمسين أو بالستين أو بالسبعين هو نسخ له، وهم لا يملكون النسخ.

أما ردهم حديث أم سلمة الثاني الذي فيه «كانت المرأة من نساء النبي» واصفين إياه بأنه مُنْكَر المتن، فرغم أن الشوكاني أوَّله بقوله (نساؤه أعمُّ من الزوجات لدخول البنات وسائر القرابات تحت ذلك) فإني أُقرُّهم على هذا الرد ولا أميل إلى تأويل الشوكاني، وبالتالي يُترك الحديث ولا يُحتج به. ولكن هذا الرد لا يفيدهم لأن الحديث الأول لا يمكن إنكار متنه لأن النفساء فيه غير مقيدة بكونها من نساء الرسول عليه الصلاة والسلام، وحيث أن الحديث صحيح وصريح فلا يجوز تركه وإعمال الذهن فيما جاء فيه نص، أو الاجتهاد في مورد النص.

ص: 341

لكن تبقى تساؤلات لا بد من الإجابة عليها وهي: هل الشرع حدد الأربعين على اعتبار أن الدم لا ينزل أكثر من أربعين؟ أم أن الشرع حدد الأربعين وهو يعلم أن الدم قد يحتاج لدى بعض النساء إلى أكثر من ذلك ولكنه عفى عن الزيادة؟ وهل هذه الزيادة على الأربعين نفاس معفى عنه أم هو شيء آخر؟.

الذي يترجح لديَّ هو أن دم النفاس فعلاً لا يزيد على أربعين يوماً، فإذا استمر نزول الدم أكثر من ذلك كان إمَّا مرضاً وهو استحاضة - أي انقطاعُ عرقٍ نتيجة ما قاسته الوالدة من تشنجات عضلية وعصبية - وإمَّا أنَّه صادف فترة الحيض، وحينئذ ينزل أسود يُعرف، فيكون في هذه الحالة حيضاً يأخذ حكمه، وليس في حاجة للنص عليه في حالة النفاس، لأن النص عليه موجود في حالة الحيض، فلا تصلي المرأة عقب انقضاء الأربعين، وإنما تستمر على عدم الطهارة وعدم الصلاة حتى تنتهي حالة الحيض، وهذا لا يخالف ما سبق من تحديد النفاس بالأربعين لأنه ليس نفاساً. قال الإمام أحمد: إذا استمر بها الدم فإن كان في أيام حيضها الذي تقعده أمسكت عن الصلاة ولم يأتها زوجها، وإن لم يكن لها أيام كانت بمنزلة المستحاضة يأتيها زوجها وتتوضأ لكل صلاة وتصوم، وتصلي إن أدركها رمضان ولا تقضي. وهو تلخيص جيد، وأحمد كما سبق بيانه هو ممن يقولون بالأربعين كحدٍّ أقصى للنفاس.

ص: 342

هذا هو الحدُّ الأعلى للنفاس. أما الحد الأدنى فقد قال محمد بن الحسن من الأحناف، وأبو ثور: أقلُّه ساعة. وقال أبو عبيد: أقلُّه خمسة وعشرون يوماً. وقال الأئمة الأربعة والثوري والأوزاعي: إذا لم تر دماً تغتسل وتصلي. أي هم لم يحدوا حداً لأقله وهو الصحيح. وذلك لأن الشرع لم يحد له حداً معلوماً فوجب الرجوع فيه إلى أحوال النساء. فلو ولدت امرأة وتوقف نزول الدم بعد مضي ثلاثة أيام فإنها تغتسل وتصلي، بل لو ولدت وتوقف نزول الدم مباشرة نهضت واغتسلت وصلت. فقد رُوي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر دماً فسميت ذات الجفوف، وهذه حالة نادرة طبعاً. أما إن نزل الدم عشرة أيام مثلاً وتوقف عشرة أيام اغتسلت فيها وصلت، ثم إن عاودها الدم بعد توقف العشرة الأيام هذه فإنه دم نفاس، تتوقف فيه عن الصلاة ما دام ينزل، فإن توقف اغتسلت وصلَّت.

وقد استغربت تناول الأئمة لهذه المسألة واختلافاتهم فيها، فقد قال مالك: إنْ رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة فهو نفاس، وإن تباعد ما بينهما فهو حيض. وقال أصحاب الشافعي: إذا رأت الدم يوماً وليلة بعد طُهر خمسة عشرة يوماً ففيه رأيان: أحدهما يكون حيضاً، والثاني يكون نفاساً. ونُقل عن أحمد روايتان: إحداهما أنه حيض، والأخرى أنه نفاس. وأنا لا أدري ما وجه الحكمة في هذا الخلاف؟ وما قيمة اعتبار الدم هذا حيضاً أو نفاساً؟ إذ لو كان للحيض حكم غير حكم النفاس لوجب الاهتمام بهذه المسألة، أما وأنه لا فرق بين أن يكون الدم حيضاً أو نفاساً فلماذا هذا البحث وهذا الخلاف؟.

ص: 343

بقيت نقطة أخيرة اختلف فيها الفقهاء هي: إذا ولدت المرأة توأمين فكيف تحسب فترة النفاس؟ أيكون النفاس كله من المولود الأول أوله وآخره، أم يكون من المولود الأول أوله ومن الآخر آخره؟ أم يكون من الآخر أوله وآخره؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه إلى أن النفاس من الأول كله أوله وآخره، وعللوا ذلك بقولهم: متى انقضت مدة النفاس من حين وضعت الأول لم يكن ما بعده نفاساً، لأن ما بعد ولادة الأول دم بعد الولادة فكان نفاساً كالمنفرد وآخره منه، لأن أوله منه فكان آخره منه كالمنفرد. وقال أبو الخطاب والشريف أبو جعفر من الحنابلة: إن أوله من الأول وآخره من الثاني. وقالا: إن الثاني ولد فلا تنتهي مدة النفاس قبل انتهائها منه كالمنفرد، فعلى هذا تزيد مدة النفاس على الأربعين في حق من ولدت توأمين. وقال القاضي أبو الحسين من الحنابلة وزُفَر من الأحناف: إن النفاس من الثاني فقط لأن مدة النفاس مدة تتعلق بالولادة فكان ابتداؤها وانتهاؤها من الثاني كمدة العدة. ولأصحاب الشافعي ثلاثة أقوال كالسابقة.

والذي أراه هو الرأي القائل بأن النفاس يبدأ بولادة الأول، وهذا ظاهر تماماً والأصل أن نفاسه هو النفاس في أوله وآخره، وأول نفاسه لم يجر عليه ما يلغيه أو يغيره فيستمر، ولكن طرأ على آخر نفاسه نفاس آخر لمولود آخر، وحيث أن الآخر مولود فإن له نفاساً له أول وله آخر، أما أوله فقد دخل في نفاس أخيه الأول، وظل آخره قائماً لم يغيره شيء أما آخر نفاس الأول فقد دخل في نفاس أخيه الثاني، فنفاس ذات التوأمين يبدأ بأول نفاس الأول وينتهي بآخر نفاس الثاني.

ص: 344