المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌11- غسل الرجلين إلى الكعبين: - الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة - جـ ١

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولأحكام المياه

- ‌الماء الطَّهور

- ‌الماءُ النَّجِس

- ‌ الماء المستعمَل

- ‌ فضل الماء في حديثين

- ‌تطبيقاتٌ على الماء

- ‌سُؤْر الحيوان

- ‌الفصل الثاني أعيانُ النجاسات

- ‌ البول

- ‌النجاساتُ من الإنسان

- ‌الغائط:

- ‌ المَذِي:

- ‌ الوَدِي:

- ‌النجاساتُ من الحيوان

- ‌2. الخنزير:

- ‌3. الميتة:

- ‌النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان

- ‌الدم المسفوح

- ‌النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان

- ‌الخمر:

- ‌شُبُهات

- ‌أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

- ‌ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة:

- ‌ثالثاً: نجاسة الدم:

- ‌رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس:

- ‌أ - النبيذ:

- ‌ب - لحوم الحُمُر الأهلية:

- ‌ج - الصَّديد:

- ‌هـ- القيء:

- ‌الفصل الثالث أحكامُ النجاسة

- ‌تمهيد

- ‌حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس

- ‌هل يجب العدد في إزالة النجاسة

- ‌ما يُستعمل في إزالة النَّجِس

- ‌تطهيرُ المتنجس

- ‌الاستحالة

- ‌الفصل الرابعأحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران

- ‌الفصل الخامسسُنَنُ الفِطرة

- ‌السواكُ

- ‌قصُّ الشَّارب

- ‌إعفاءُ اللحية

- ‌نتفُ الإبط

- ‌قصُّ الأظفار

- ‌غسل البراجم

- ‌حلقُ العانة

- ‌الخِتان

- ‌الفصل السادسالسُّننُ المُلحقة بالفِطرة

- ‌ أحكام الشَعَر

- ‌1. إكرام الشعر

- ‌2. نتف الشعر الأبيض:

- ‌3. صبغ الشعر الأبيض:

- ‌4. وصل الشعر:

- ‌5. نفش الشعر:

- ‌6. فرق الشَّعَر:

- ‌الفصل السابعالأغسالُ المستحبَّة بالنصوص

- ‌غسلُ يوم الجمعة

- ‌غُسل الإحرام ودخول مكة

- ‌غُسل مَن أُغمي عليه

- ‌غُسل من غسَّل ميتاً

- ‌الفصل الثامنالغُسل

- ‌صفة الغُسل

- ‌الغُسل المُجْزئ

- ‌الغُسل الأكمل

- ‌تفصيلات تتعلق بالغسل

- ‌الفصل التاسعمُوجباتُ الغُسل

- ‌أولاً: الجنابة

- ‌أحكامُ الجُنُب

- ‌ثانياً: إسلام الكافر

- ‌ثالثاً: الموت

- ‌رابعاً: الحيض

- ‌أحكام الحائض

- ‌الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب

- ‌دمُ الحيض ومدَّته

- ‌المستحاضة وأحكامها

- ‌خامساً: النفاس والولادة

- ‌الفصل العاشرالوضوء

- ‌تعريف الوضوء ومشروعيته

- ‌فضلُ الوضوء

- ‌صفةُ الوضوء

- ‌1ـ النِّيَّة:

- ‌2ـ التسمية:

- ‌3 ـ غسل الكفين:

- ‌4 ـ المضمضة:

- ‌5- التَّسوُّك:

- ‌6- الاستنشاق والاستنثار:

- ‌7- غسل الوجه:

- ‌8- غسل اليدين إلى المرفقين:

- ‌9- مسح الرأس:

- ‌10- مسح الأذنين:

- ‌11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين:

- ‌12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً:

- ‌13- الترتيب:

- ‌14- التيمُّن:

- ‌15- الموالاة:

- ‌الدعاءُ عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌الصلاة ركعتين عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌ما يُستحبُّ له الوضوء

- ‌ما يُلبس على الرأس

- ‌ما يُعْصَب على الجُرح والجَبيرة

- ‌ما يُلبس في القدم

- ‌1) الخارج من السبيلين

- ‌2) خروج الدم

- ‌3) القَيء

- ‌4) مسُّ الفرْج

- ‌5) النوم

- ‌6) أكل لحم الجَزور

- ‌مسائل

- ‌المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء

الفصل: ‌11- غسل الرجلين إلى الكعبين:

ولذلك لم يُجْزِهِ مسحُهما عن مسحه عند من اجتزأ بمسح بعضه والأَولى مسحهما معه) وهذا يفيد استحبابه لمسحهما دون وجوبه.

[مسألة]

لم يرد في مسح الرقبة حديث صحيح ولا حسن يصلح للاحتجاج، فما رُوي عن طلحة ابن مصرِّف عن أبيه عن جده «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القُذال وما يليه من مُقدَّم العنق بمَرَّة. قال القُذال السالفة العنق» رواه أحمد. ففيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، قال ابن حِبَّان (كان ليث يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه ابن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد)، وقال النووي (اتفق العلماء على ضعفه) . وما عزاه الألباني للجُوَيني والغزالي من حديث «مسح الرقبة أمانٌ من الغِلِّ» قال عنه ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قول بعض السلف. وقال النووي (هذا حديث موضوع) وقال (لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء)، وأضاف (وليس هو بسنَّة بل بدعة) وقال ابن القيم: لم يصح عنه في مسح العنق حديثٌ البتة. ولذا فإن مسح الرقبة غير مشروع، وهو ليس بواجب ولا مندوب، وينبغي تركه.

‌11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين:

وهو الفرض الخامس من فروض الوضوء. والأدلة عليه قوله تعالى {وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} وكذلك إجماع الصحابة، والأحاديث الصحيحة الكثيرة وقد مرت.

ص: 401

ولنقف وِقفةً متأنيَّة عند الآية الكريمة {يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا قمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} الآية 6 من سورة المائدة. قوله إذا قمتم: أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى {فإذا قَرَأْتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ} أي إذا أردت قراءة القرآن. وقد فهم بعضهم من هذه الآية فرض النية للوضوء، فقد قالوا: إن قوله إذا قمتم معناه إذا نويتم القيام، ولكنَّ هذا الفهم ضعيف، ويكفي في النية حديث عمر «إنما الأعمال بالنية» والآية تقول {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} بالجمع للمرفق، وتقول {وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} بالتثنية للكعب. والذي يترجح لديَّ أن سبب ذلك هو ما قاله ابن عطية صاحب التفسير الجليل [المُحرَّر الوجيز] في تفسيره (ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي {إلى المَرَافِقِ} أي في كل يد مرفق، ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خُصَّا بالذكر) . وقد قرأ نافع والحسن البصري والأعمش {أَرْجُلَكُمْ} بالنصب وقرأها بالجر حمزة وابن كثير وأبوعمرو. أما قراءتها بالنصب فبعطف أرجلكم على أيديكم، وحيث أن الأيدي طُلب غسلها فكذلك الأرجل تُغسل، وعلى هذا التفسير وأن الأرجل تُغسل جمهرةُ المسلمين قديماً وحديثاً والأئمة الأربعة. قال النووي (اختلف الناس على مذاهب، فذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يُجْزِيء مسحُها، ولا يجب المسح مع الغسل ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتدُّ به في الإجماع) وقال ابن حجر (لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك) وخالف في ذلك الطبري قائلاً إن الأرجل فيها الغُسل أخذاً بقراءة نصب أرجلكم، وفيها المسح أخذاً بقراءة جرِّ

ص: 402

أرجلكم لأنها بالجر تكون معطوفة على رؤوسكم التي طُلب مسحها. وهذا القول منه يعتبر معتدلاً، ولكن رُوي عن عكرمة والشعبي وقتادة غير ذلك، فقد رُوي عن عكرمة أنه قال: ليس في الرِّجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. ورُوي عن الشعبي أنه قال: نزل جبريل بالمسح. وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين. فهؤلاء لم يأخذوا بالقراءة الصحيحة بنصب أرجلكم، وتمسكوا بالقراءة الصحيحة الأخرى بجر أرجلكم وقد أخطأوا في ذلك.

وقد تأثّر بقولهم هذا ابن حزم والطحاوي، فقالا بأن المفروض في الأرجل كان المسح في بدء الإسلام ثم نُسخ. وهذه دعوى ينقصها البرهان. وقد رُوي أن علياً وأنساً وابن عباس كانوا يقولون بالمسح، ثم ثبت رجوعهم عنه إلى القول بالغسل، ولم يبق صحابي واحد يقول بالمسح. وللرد على الطبري وقتادة وعكرمة والشعبي أقول إن الأحاديث كلها أفادت غسل الأرجل، ولم يُرو حديث واحد صحيح واضح الدلالة على أن المسلمين كانوا يمسحون أرجلهم في الوضوء، والمعلوم أن السُّنَّة تبين القرآن: تفصِّل مُجمَله، وتقيِّد مطلَقه، وتخصِّص عمومه، ولا تتعارض معه. وجميع الأحاديث تقول بالغسل، فوجب القول إن الآية تُوجب هي الأخرى الغسل، وإنه لا إشكال في الجمع بين القرآن والسُّنَّة هنا بقراءة أرجلَكم بالنصب، وهي قراءة صحيحة قطعية. فهذه القراءة والأحاديث تفيد غسل الأرجل، فلا تعارض.

ص: 403

أما القراءة بالجر فهي التي أشكلت على عدد من الفقهاء، وكان ينبغي الأخذ بالقاعدة التي تقرِّر أن السُّنَّة لا يمكن أن تتعارض مع القرآن، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأتي بأمر من عنده، وما دام قد ثبت أنه أمر بالغسل فإن ذلك دليل أكيد على أن القرآن قد أتى هو الآخر بالغسل، فوجب تفسير الآية بحسب ذلك، وأنَّ قراءة الجر لا تخرج عن هذا الفهم، ذلك أن جرَّ أرجلكم لا يعني عطفها على رؤوسكم، وبالتالي لا يعني وجوب إلحاقها بالرؤوس في المسح، وإنما جاء الجر للمجاورة لا أكثر، فهي تظل معطوفة على وجوهكم وأيديكم التي طلب فيها الغسل، وبذلك تكون الآية بالقراءتين تفيد الغسل تماماً كما تفيد الأحاديث، وبذلك أيضاً يزول التعارض وتنتفي الشبهة.

أما أخذ بعضهم بقراءة الجر وترك قراءة النصب على اعتبار تعارضهما فإنه لا يجوز، لأن القراءتين صحيحتان، وكل قراءة منهما قرآن لا ينبغي هجرة وتركه، ثُم إن هؤلاء كان ينبغي عليهم عدم القول بتعارض القرآن مع السنة، فما دامت السنة تقول بالغسل، فإن الواجب عليهم أن لا يقولوا إن القرآن يخالفها ويأمر بالمسح، بل يجب أخذ الآية بقراءة الجر وحملها على أنها للمجاورة ليظل عطفها على ما سبق من المغسول دون الممسوح. وفي هذا الخطأ وقع القائلون بأن الآية أفادت غسلاً ومسحاً أخذاً بظاهر القراءتين، وخطأ هؤلاء أنهم اعتبروا الآية الواحدة تطلب شيئين مختلفين في موضوع واحد، فكأنهم اعتبروا الآية بقراءتيها متعارضة، ولو حكَّموا القاعدة بأن السُّنَّة والقرآن لا يتعارضان، وأن القرآن لا يعارض نفسه لأمكنهم فهم الآية بالقراءتين وبالسُّنَّة فهماً واحداً، وأنها كلها تفيد غسل الأرجل.

ص: 404

قد يقال إن المجاورة تضعف إن كان هناك فاصل كما هو الحال في هذه الآية بوجود الواو العاطفة، وأن المجاورة الشائعة تكون بدون فواصل، فنجيب بأن القرآن وقد استعملها فإنَّه يجب قبولها، لأنه لا يمكننا التوفيق بين القراءتين، ولا بينهما وبين الأحاديث إلا بالأخذ بالمجاورةِ إيماناً منا بأن القرآن لا يعارض نفسه، ولا تعارضه السُّنَّة.

إن ابن هشام في كتابه [شذور الذهب] ذهب إلى أن المجاورة مع وجود فاصل أمر شاذ عند العرب، وأن الأصح أن تكون المجاورة حين لا يكون فاصل، ولكنه لم يقطع بخطأ القاعدة، ثم قال إن المجاورة تحصل بوجود فاصل محذوف مقدَّر، فنقول إن القرآن أتى بالمجاورة مع وجود فاصل غير محذوف، وقد جاءت على لسان شاعر:

كأنَّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ

كبيرُ أُناسٍ في بجادٍ مُزمَّل

فظل طُهاةُ اللحم مِن بين مُنضجٍ

صفيفَ شُواء أو قديرٍ معجَّل

فـ (قدير) حكمها أن تكون منصوبة لأنها معطوفة بـ (أو) على (صفيف) المنصوبة على الحال، فالواجب أن يقال (صفيفَ شواءٍ أو قديراً معجَّلاً) ولكنه جرَّ (قديراً) لمجاورة (شُواءٍ) المجرورة. وهذا مثال على جواز المجاورة مع وجود الفاصل غير المحذوف وهو العاطف هنا. ويكفينا سيبويه كبير أئمة الإعراب، وكذلك الاخفش، فقد حكما بجواز المجاورة مع وجود العطف، فبالأخذ بقاعدة المجاورة نكون قد أعملنا جميع الأدلة، وأزلنا شبهة القائلين بوجود التعارض.

أما ما تمسك به القائلون بالمسح من أحاديث فإنه لا يصمد أمام المناقشة، فهؤلاء استدلوا على شبهتهم بما يلي:

1-

عن عبد الله بن عمرو قال «تخلَّف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سَفْرة سافرناها، فأَدرَكَنا وقد أرهَقَنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً» رواه البخاري ومسلم. قوله أرهقنا العصر: أي اقترب وقت العصر.

ص: 405

2-

عن عبد الله بن عمرو قال «رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء الطريق تعجَّل قومٌ عند العصر، فتوضَّأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسَّها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ للأعقاب مِن النار أسبغوا الوضوء» رواه مسلم.

3-

عن أوس بن أبي أوس الثقفي «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كِظامَةَ قومٍ، فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه» رواه أبو داود. والكِظامة: هي بئر الماء.

4-

عن عبَّاد بن تميم عن أبيه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ويسمح على رجليه» رواه الطبراني.

5-

عن ابن عباس رضي الله عنه قال «توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في الإناء فاستنشق ومضمض مرة واحدة، ثم أدخل يده فصبَّ على وجهه مرة واحدة، وصبَّ على يديه مرتين مرتين ومسح رأسه مرة، ثم أخذ حفنةً من ماء فرشَّ على قدميه وهو متنعل» رواه البيهقي.

6 -

إضافة إلى قراءة آية الوضوء بجرِّ (أرجُلِكم) عطفاً على (رؤوسكم) .

الحديث الأول استدلوا به على المسح لقوله «فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا» وهذا استدلالٌ فاسدٌ لأنهم قطعوا هذه العبارة عن سابقها وعن لاحقها واقتصروا عليها، والواجب عليهم النظر في هذه العبارة بعد وضعها في جوِّها ليسهل فهمها ويصح الاستدلال بها. قال ابن بطَّال: كأن الصحابة أخروا الصلاة عن أول الوقت طمعاً أن يلحقهم النبي صلى الله عليه وسلم فيصَّلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء، ولعجلتهم لم يُسبغوه فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم.

ص: 406

هذا هو جو العبارة، وفي هذا الجو صارت العبارة مفهومة، فصارت غير مفيدة لهم، وغير دالة على دعواهم. إن قول الحديث «فأدْرَكَنا وقد أرهَقَنا العصر» صريحٌ في أنهم كانوا على أشدِّ ما تكون العجلة، والمستعجل لا يحسن الوضوء ولا يتقنه، فوصف ابن عمرو حالة القوم بأنهم كانوا لشدة السرعة يظهر عليهم أنهم يمسحون أرجلهم ولا يغسلونها، وفي هذه الحالة وصل النبي صلى الله عليه وسلم فرآهم كأنهم يمسحون، ورأى أماكن مِن أرجلهم لم يصبها الماء فقال بغضب - بأعلى صوته – «ويلٌ للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً» والتدقيق في هذا الحديث يوصل إلى أنَّهم كانوا يغسلون ولم يكونوا يمسحون، ولكنْ لسرعة الغسل بدت أجزاء من الأرجل دون ماء، فأنكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك منهم، بينما لو أنهم كانوا يمسحون، ولو كان المسح جائزاً لما أبرز ابن عمرو مسح الأرجل كدليل على السرعة دون سائر أفعال الوضوء. فقوله «نتوضأ ونمسح على أرجلنا» واضح فيه التركيز على مسح الأرجل فحسب وأن المسح دليل على السرعة، وهذه دقيقةٌ تحتاج إلى تدبُّر. هذه واحدة.

والثانية أن شأن المسح كما لا يخفى لا يستوعب الممسوح عادة، وأن الشيء المطلوب مسحه يجري التخفيف فيه في الإسباغ والاستيعاب، أما إنْ أُريد استيعابه فإنه يُطلب غسله، وهذا ظاهر تماماً، فلو كان المطلوب مسح الأرجل لما أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم ترك استيعاب الأرجل من حيث إصابتها بالماء، فلما أنكر عليهم ترك جُزء وهو يراهم مستعجلين دل ذلك على وجوب الاستيعاب، وهذا يعني بالضرورة وجوبَ الغسل.

والثالثة إنَّ عملية المسح حصلت من الصحابة ولم تحصل إلا والرسول عليه الصلاة والسلام غائب عنهم، فلما حضر أنكر عليهم ولم يقرَّهم عليه، واستعمل أشد ألفاظ الإنكار بتوعدهم بالويل المكرَّر، فكيف يستدلُّون بهذا الحديث على جواز المسح؟

ص: 407

والرابعة إن ابن عمرو نفسه - وهو راوي الحديث - لا يقول بالمسح بل يقول بالغسل فكيف يقول بالغسل ثم يروي هذا الحديث ويعني به المسح، إلا أن يكون قد عنى بالمسح الغسل الخفيف بسبب السرعة، فأطلق هذه اللفظة عليه؟ وهذا الرد يقال بخصوص رواية مسلم «فتوضأوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسَّها ماء» فإنه لا يدل على المسح وإنما يدل على الغُسل السريع غير التامِّ. ومما يزيد الأمر وضوحاً وتأكيداً ما روى أبو هريرة في صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: ويل للأعقاب من النار» فقد صرَّح بالغسل. وما روى جرير بن حازم عن قتادة عن أنس بن مالك «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسِن وضوءك» رواه أحمد وابن خُزَيمة. وروى أحمد ومسلم مثله من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما روى بجير - هو ابن سعد - عن خالد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدرَ الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» رواه أبو داود. ورواه أحمد بدون «والصلاة» وقد مر. فهذه الأحاديث تفيد وجوب الاستيعاب، ولا يكون استيعابٌ إلا إذا كان غسلٌ، لأن المسح من شأنه أن يخلف شيئاً من الممسوح، فلما حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من ترك قدر ظفر أو قدر درهم أو ترك العقب، دل تحذيره على أن المطلوب الغسل لا غير.

ص: 408

وقد يقول أحدهم: لماذا لا نقول بالمسح المستوعِب؟. فنجيبه بأن المسح لا يستوعب عادة، وإذا أردنا الاستيعاب قمنا بالغسل. والقول بالمسح المستوعِب لا يختلف في جوهره عن القول بالغسل، فلما طُلب الاستيعاب فقد دل ذلك على أن المراد هو الغُسل لا المسح، إذ لو كان المسح هو المطلوب لما حذرنا عليه الصلاة والسلام من ترك قدر درهم أو قدر ظفر. أما حديث أوس - البند الثالث - فهو ضعيف أعلَّه ابن القطان بالجهالة في عطاء راوي الحديث عن أبيه، وأيضاً في إسناده هُشيم عن يعلى، قال أحمد: لم يسمع هُشيم هذا من يعلى مع ما عرف من تدليس هُشيم. وضعَّفه أيضاً ابن عبد البر. وأما حديث عباد الذي رواه الطبراني فقد ضعَّفه ابن عبد البر وشكَّك في صحبة راوي الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حديث ابن عباس البند الخامس «أخذ حفنة من ماء فرشَّ على قدميه وهو متنعل» فهو ليس دليلاً على المسح بقدر ما هو دليل على الغُسل، ولكنه الغُسل الخفيف، لأن المسح لا يكون برشِّ الماء وإنما يكون بالبلل العالق باليد، فالرشُّ دليل على الغُسل وليس على المسح.

وإذا استحضرنا في الذهن أن الوضوء يكفي فيه مُدٌّ من ماء - هذه الكمية القليلة هي ما كان يستهلكها المسلم في وضوئه - ازداد إدراكنا لمعنى أخذ حفنة ماء للرِّجل أو للرِّجلين للغسل، وأيضاً فإنه جاء حديث صريح بأن الرش يكون في الغُسل، هو ما رواه ابن عباس رضي الله عنه من صفة وضوء نبي الله صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه «

ثم أخذ غَرْفةً من ماء فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرفة أخرى فغسل بها رِجله - يعني اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» رواه البخاري، وقد مرَّ.

ص: 409

فإذا علمنا أن أحاديث الغسل جاءت كثيرة وفي أعلى درجات الصحة، وقابلناها مع هذه الأحاديث المُعلَّة والضعيفة أدركنا ضعف الرأي القائل بمسح الأرجل، فإذا نحن أضفنا إجماعَ الصحابة كدليلٍ على فرض الغسل دون المسح ازداد اقتناعنا بصواب ما ذهبنا إليه.

وإذن فالأحاديث لا تسعف أصحاب الرأي هذا، ولذا نرى ناساً منهم يستدلون بالآية بقراءة النصب على دعواهم، فهؤلاء يقولون إن قراءة نصب أرجلكم تكون بعطف أرجلكم على محل {برُؤُوسِكُمْ} أي أن الآية تقول {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} وفعل امسحوا يتعدى إلى مفعول، والمفعول هو (برؤوسكم) أي الجار والمجرور، والجار والمجرور في محل نصب مفعول به لفعل امسحوا، وأرجلكم معطوفة على محل الجار والمجرور فجاءت منصوبة. وقال ناس من هؤلاء إن الباء في (برؤوسكم) زائدة، وإن الأصل امسحوا رؤوسكم، فجاءت أرجلكم بالنصب عطفاً عليها. ولا يخفى أن هؤلاء قد سلكوا طريقاً وعرةً وأن هذه الإعرابات فيها من البعد ما هو أكبر مما يتهمون به إعراب المجاورة. ولو أننا أردنا أن نقف في منتصف الطريق بيننا وبينهم، وقلنا بأن الآية محتملة، وأنها لا تكفي في الاستدلال على أيٍّ من الرأيين لوجب الاحتكام إلى الأحاديث، والأحاديث الصحيحة قاضية عليهم عدا عن إجماع الصحابة.

ص: 410

والواجب في الغسل استغراق القدم بالكامل، والاستغراق الكامل لا يتم إلا بغسل الكعبين أو جزء من الكعبين على الأقل تماماً كغُسل المرفقين أو جزء من المرفقين في غُسل اليدين، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأقل من ذلك لا يتحقق فيه تمام الغُسل. والكعبان هما عظمان ناتئان في جانبي كل قدم خلافاً لقول محمد بن الحسن إنهما في مشط القدم عند معقد الشِّراك من الرِّجل، فهذا القول خطأ ويُخرج جزءاً كبيراً من الرِّجل من الغسل. فقد رُوي عن النعمان بن بشير أنه قال «

فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه وركبته بركبته ومنكبه بمنكبه» رواه أحمد وأبو داود. وذكره البخاري تعليقاً أي بدون سند. وهذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه وخطأ ما قال به محمد بن الحسن، ذلك أن إلزاق الكعاب لا يتم إلا إذا كانت الكعاب هي العظام الناتئة في جوانب الأرجل وليس في أمشاطها.

ويسنُّ إسباغ غسل القدمين ومجاوزة الكعبين حتى جزء من الساق أخذاً من حديث الإسباغ وجاء فيه «

ثم غسل رجله اليمنى حتى أَشْرَع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق

إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم الغُرُّ المُحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطِلْ غُرَّته وتحجيله» رواه مسلم. وقد مر في بحث [فضل الوضوء] .

كما يسن تخليل الأصابع، وإذا كان التخليل بخنصر اليد اليسرى فهو أولى، لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا توضأت فخلِّل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. وحسنه البخاري، ولحديث المستورد ابن شدَّاد قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخِنْصَره» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة والترمذي، وصححه ابن القطان.

ص: 411