الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما ما رواه الشافعي «فلْيغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه» وابن ماجة «فلا يُدخل يده في وَضوئه حتى يغسلها» فإنه لا يغير من الأمر شيئاً، ولا ينقل الحديث إلى موضوع الوضوء، فهذا اللفظ يدل على أن على المسلم أن يغسل كفيه حين الاستيقاظ، وأنَّ غُسلهما يكون قبل البدء بالوضوء. وبمعنى آخر فإن من أراد الوضوء وغمس يديه في الماء المعد له عليه أن يكون قد غسل كفيه قبل ذلك، فلفظة (وضوء) في هذا الحديث ليست صارفة له عن غسل الاستيقاظ إلى غسل الوضوء. فغسل الكفين أو اليدين في هذا الحديث غير غسل الكفين الوارد في أحاديث الوضوء السابقة، فهذا الغسل شيء، وذاك شيء آخر.
ولسنا نريد الخوض في خضمِّ اختلافات الفقهاء واستنباطاتهم من هذا الحديث من مثل أنه عبادة تفتقر إلى نية، أو أنه تنظيف من وهم النجاسة لا يحتاج إلى نية، وهل الحديث في نوم الليل فحسب فيقتصر عليه، أم هو عام في كل نوم؟ وهل من يغمس يده في الماء قبل الغسل ينجسه أم لا؟ إلى غير ذلك مما اختلف الفقهاء فيه، فهذا كله لا يلزمنا. وإذا كان لا بد من كلمة في الموضوع فإنَّا نقول إن الحديث يحث على غسل الكفين عند الاستيقاظ من النوم أيِّ نوم، لا فرق بين نوم الليل ونوم النهار وإن من يغمس يده في الإناء لا ينجِّس الماء ولا يأثم. فالعلة «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» عامة في كل نوم، وهي تعليل بوهم النجاسة وليست تعليلاً بتحقُّق النجاسة، والأصل في الشيء أنه طاهر ولا يحكم عليه بالنجاسة إلا بالتحقق واليقين، ولا يقين هنا.
4 ـ المضمضة:
المضمضة لغة: تحريك الماء في الفم، قاله صاحب القاموس. وهو معناها الشرعي. فالتحريك في اللغة شرط فيها، فيظهر من ذلك خطأ ما عليه الجمهور من عدم اشتراط إدارة الماء في الفم. ودليل المضمضة في الوضوء حديث حُمْران «
…
ثم مضمض
…
» وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري «
…
فمضمض
…
» وقد مرَّا.
وقد اختلف الأئمة والفقهاء في حكم المضمضة في الوضوء، فذهب أحمد وإسحق وأبو عبيد ومجاهد وأبو ثور وابن المنذر والشوكاني إلى وجوب المضمضة، وقالوا إن المضمضة من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله هو أمر بها، وإن حديث لقيط بن صَبَرة الذي رواه أبو داود والبيهقي بإسناد صححه ابن حجر والنووي فيه «إذا توضأت فمَضْمِض» يأمر بالمضمضة، والأمر يفيد الوجوب. وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن والزهري وعطاء إلى أن المضمضة في الوضوء سُنَّة. وهؤلاء استدلوا على رأيهم بما يلي:
1-
حديث «عشر من الفطرة» وجاء فيه «
…
إلا أن تكون المضمضة» وقد مرَّ في فصل سُنن الفطرة بتمامه.
2-
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المضمضة والاستنشاق سنة» رواه الدارقطني.
3-
ليس في آيات القرآن الكريم ذكرٌ للمضمضة، ولو كانت واجبة لذُكرت.
والذي يترجح لديَّ أن المضمضة سنة وليست فرضاً، وأن الحديث الذي استدل به من قالوا بالوجوب يُصرف إلى الندب، لأنه أمرٌ في غير الوضوء المجزيء. ونحن لا نُسلِّم لهم بأن الأمر يفيد الوجوب، والأصح أن يقال إن الأمر يفيد مجرد الطلب، والقرينة هي التي تعين المراد منه، وهنا القرينة تصرفه إلى الندب.
أما قولهم (إن المضمضة من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله هو أمرٌ بها) فلا نسلم لهم فيه هو الآخر، ذلك أن الوجه يطلق على ما يظهر دون ما يخفى، فوجه الشيء ظاهره الأمامي ومنه المواجهة والواجهة. فداخل الفم ليس من الوجه، أرأيت لو حصل جرح في داخل الفم أيصح لغة أن يقال إن الجرح في الوجه؟ أيصح لغةً أن يقال إن الأسنان تنبت في الوجه؟ إن الأمر بغسل الوجه ينسحب على غسل الوجنتين والشفتين والحاجبين والجبهة والذقن والأنف الخارجي وما يظهر فحسب، ولا ينسحب على غسل الأسنان واللسان وتجويفي الأنف، ولو كانت المضمضة جزءاً من غسل الوجه لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها في العديد من الأحاديث، ولاكتفى بالأمر بغسل الوجه. فمثلاً لم يُرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغسل الشفتين أو غسل الحاجبين، فدل كل ذلك على أن داخل الفم له حكم مستقل، وأنه أمر مستقل.
وأيضاً فإن الحديث الآتي يدل على أن داخل الفم وداخل الأنف ليسا من الوجه، عن عمر بن عبسة قال «
…
قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرَّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء
…
» رواه أحمد. فهذا الحديث فرَّق بين المضمضة والاستنشاق وبين غسل الوجه، ودلالته واضحة. وأيضاً حديث عبد الله الصُنَابِحي عند النَّسائي وأحمد ومالك وابن ماجة، وقد مر بتمامه في بحث فضل الوضوء، وفيه «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه
…
» ودلالته واضحة كذلك. وبذلك يظهر خطأ القول إن الأمر بغسل الوجه هو أمرٌ بالمضمضة. على أن أدلة القائلين بأن المضمضة سُنَّة هي أيضاً ليست بذاك وإن كان رأيهم صحيحاً، فحديث عشر من الفطرة، وذِكرُ المضمضةِ فيه لا يصلح للاستدلال هنا، لأن الحديث لم يأت في موضوع الوضوء، وكل ما جاء فيه يجب فصله عن الوضوء، فالمضمضة الواردة في الحديث هي من الفطرة كنتف الإبط وحلق الحانة، فهي صنف من أصناف التنظيف، وما جرت عليه عادة المرسَلين والناس سابقاً ولاحقاً لأنها من جِبِلَّة البشر، وهي ليست مضمضة وضوء ولا مضمضة عبادة. وأما حديث ابن عباس «المضمضة والاستنشاق سُنَّة» ففيه إسماعيل بن مسلم ضعيف قاله الدارقطني. وضعفه ابن حجر. فليس يبقى لهم سوى الآية كدليل صالح للاحتجاج والدلالة وهي كافية. فالمضمضة سُنَّة، والوضوء دونها مُجزئ، ولا إعادة على تاركها.
قال الطبري (الوجه الذي أمر الله جلَّ ذكره بغسله القائم إلى صلاته كل ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً مما هو ظاهر لعين الناظر دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطَّاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين ودون الأذنين، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان وجهاً يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته) .
أما أخذُ الماء للمضمضة فإن المسلم بالخيار بين المضمضة ثلاثاً من غرفة واحدة وبينها ثلاثاً من غرفات ثلاث، فحديث عبد الله بن زيد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثاً، وفي لفظ للشيخين «
…
ثم أدخل يده في التَّوْر فمضمض واستنشق واستنثر بثلاث غرفات
…
» .
ويسن الابتداء بالمضمضة ثم بالاستنشاق قبل غسل الوجه، لأن جميع الأحاديث الصحيحة وردت به. وأما ما ورد من أحاديث خلاف ذلك مثل ما رواه المقدام بن معد يكرب قال «أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً» رواه أحمد وأبوداود والطحاوي. وما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء قال «فأتيتها فأخرجت إليَّ إناءً فقالت: في هذا كنت أُخرج الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً، ثم يتوضأ فيغسل وجه ثلاثاً، ثم يمضمض ويستنشق ثلاثاً، ثم يغسل يديه، ثم يمسح برأسه مقبلاً ومدبراً، ثم يغسل رجليه» رواه الدراقطني. فهذان الحديثان يخالفان جميع الأحاديث الصحيحة الواردة في وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتركان ويُعمَل بالأحاديث الصحيحة، هذا فضلاً عن أن حديث الدارقطني الذي رواه أيضاً أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد جميع طرقه مدارها على عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال، فالحديث لا يصلح للاستدلال هنا. والأحاديث الصحيحة تقول:
1-
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه «أنه دعا بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثَ مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى
…
وقال - أي عثمان - رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وُضوئي هذا» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وقد مرَّ.
2-
عن عبد الله الأنصاري قال «قيل له توضأ لنا وُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كفٍّ واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً
…
ثم قال - أي عبد الله - هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم. وقد مرَّ.
3-
وفي هذا الحديث إشكال، إذ ورد فيه غسل الوجه مرتين، ولولا أنه أعاد غسل الوجه مرة ثانية بغَرفة مستقلة لأمكن القول إن المضمضة والاستنشاق هما من غسل الوجه، ولكان ذلك داعماً للرأي القائل بوجوب المضمضة والاستنشاق، فإعادة ذِكر الوجه قد نفت هذا الاحتمال. وعلى أيَّة حال فإن الأشبه أن يُروى الحديث بوضع لفظة (كفَّيْه) بدل (وجهه) في المرة الأولى فيزول الإشكال، ويتفق مع سائر الأحاديث. وفي هذا الحديث يذكر ابن عباس أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كما توضأ.
4-
عن أبي حيَّة قال «رأيت علياً توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قام، فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم ثم قال: أحببتُ أن أُريَكم كيف كان طُهور رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) .