الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصح وضوء النساء اللواتي يضعن هذه الأصباغ الشمعية، ووضوؤهن مع وجود هذه الأصباغ باطل وصلاتهن باطلة. والدليل على ذلك ما رواه خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعَةٌ قدرَ الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» رواه أبو داود. ورواه أحمد بدون «والصلاة» قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناده جيد؟ قال: جيد. فترك قدر الدرهم في الرِّجل أبطل الوضوء، فما هو أكثر منه وهو ترك عشرة أظفار أو عشرين يبطل الوضوء بلا شك.
9- مسح الرأس:
وهو الفرض الرابع من فروض الوضوء. المسح لغةً: تحرُّك العضو الماسح ملتصقاً بالعضو الممسوح. ومنه القول: مسحت رأس اليتيم: إذا أمررتُ اليد على رأسه وهي ملتصقةٌ به. ومسحُ الرأس في الوضوء: تحرُّك اليد أو اليدين المبتلتين بالماء ملتصقتين بشعر الرأس. والفارق بين التعريفين هو إضافة الابتلال بالماء في التعريف الثاني. والدليل على ذلك قوله تعالى {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} فقد أضاف سبحانه (الباء) إلى (رؤوسِكم) ولم يقل وامسحوا رؤوسَكم.
وقد اختلف أهل اللغة وأهل الفقه في المعنى المستفاد من وجود الباء فقال بعض الفقهاء إن الباء تفيد التبعيض، فيكون معنى الآية وامسحوا بعضَ رؤوسكم، وتعقَّبهم ابن برهان بقوله: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وأنكره سيبويه. وقال القرطبي (الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها، كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه) وقال ابن قدامة (الباء للإلصاق فكأنه قال وامسحوا رؤوسكم أي امسحوا جميع الرأس) وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزيء.
والواجب القول إن الباء لم تدخل على الآية عبثاً، وإنما لمعنى مستفادٍ ما كان ليكون بدونها، فقوله {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} لا بد من أن يكون له معنى غير المعنى المستفاد من قول وامسحوا رؤوسَكم، لأن الزيادة في التعبير القرآني لا تكون عبثاً، وهذه الزيادة تمنع مسح الرأس باليد دون بلل، وهو معنى المسح اللغوي، وأنها تفيد مسح الرأس باليد المبتلة بالماء، فالباء أفادت البلل، أي الماء العالق باليد حين المسح، ولو كانت الآية بدون الباء لكفى في الوضوء إمرارُ اليد الجافة على الرأس، لأن هذا هو معنى المسح، فلما أراد سبحانه إمرار اليد المبتلَّة بالماء على الرأس أتى بالباء، والله تعالى أعلم.
وإلى هذا المعنى أشار ابن حجر في فتح الباري (وقيل دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به، فلو قال: وامسحوا رؤوسَكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال وامسحوا بروؤسِكم الماء، فهو على القلب، والتقدير امسحوا رؤوسكم بالماء) . هذا هو الحق، وهو من دقيق الفهم، يشهد له ما روى عبد الله بن زيد من حديثٍ رواه البخاري عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه «ثم أخذ بيده ماء فمسح رأسه فأدبر به وأقبل
…
» فهذا النص في غاية الوضوح، فقد جاء بلفظ «أخذ بيده ماء فمسح رأسه» أي مسح رأسه بالماء، فإذا حذفت لفظة الماء من الجملة انتقلت الباء منها إلى رأسه فصارت الجملة هكذا (مسح برأسه) للتدليل على وجود محذوف، وهذا بالضبط ما يُقدَّر في الآية {وامسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} فتقديرها هو (وامسحوا بالماء رؤوسكم) ثم بعد حذف الماء انتقلت الباء إلى رؤوسكم، فصارت الآية {وامْسَحُوا برُوُؤسِكُمْ} وتكون الباء أفادت وجود محذوف هو الماء الذي يُمسح به.
نعود للأقوال السابقة للأئمة. أما قول من قال إن الباء تفيد التبعيض فهو قول ساقطٌ، لأنه لا أصل له في لغة العرب، وأما قول القرطبي إن الباء للتعدية فهو قول لا يفيد معنى، وهو يدخل في بحث الإعراب فلا قيمة له هنا، وأما قول ابن قُدامة إن الباء للإلصاق فله وجه، ولكنه استنبط حكماً منه لا يفيده هو وجوب مسح جميع الرأس، لأن (امسحوا رؤوسَكم) لا يفيد لغةً مسحَ جميع الرأس، فلم يبق إلا قول الشافعي، وهذا القول هو ما سنناقشه، والمناقشة إنما هي لقوله (فدلَّت السُّنَّة على أن بعضه يُجْزِئ) .
إن الآية أفادت لوجود الباء فيها معنى مستفاداً هو أن المسح يكون بيد مبتلَّة، ولم تفد أكثر من ذلك، فيبقى إتيان الدليل على أن البلل يجب أن يكون من الماء، وإتيان الدليل على أن مسح بعض الرأس يُجْزِئ، أو إتيان الدليل على أن مسح كل الرأس هو المُجْزِئ، هذا هو صعيد البحث والمناقشة.
أما أنَّ البلل يجب أن يكون من الماء دون سواه من المائعات فقد قام الدليل عليه من القرآن والسنة، أما من القرآن فقوله تعالى {فلَمْ تجِدُوا مَاءً فتيَمَّمُوا} وقد سبق وجه الاستدلال به على المطلوب، وأما من السُّنَّة فكثير من الأحاديث نكتفي منها بحديث واحد. روى عمران بن حصين قال «كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم
…
فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك
…
» رواه البخاري وأحمد. فهذا الانتقال من الماء إلى التراب دليل على أنه لا يزيل الجنابة إلا الماء، وأنه إن عدم الماء تيمم بالتراب، وهذا دليل واضح على أن غير الماء لا يُجْزِئ في الطهارات التعبُّدية كالوضوء والغسل من الجنابة، والغسل من الحيض والنفاس. وهذه المسألة خالف فيها أبو حنيفة ومَن قال بقوله، وقد سبقت مناقشة رأيه وإظهار خطئه. فلم يبق إلا الإتيان بالدليل على أن مسح جميع الرأس هو المطلب، أو بالدليل على إجزاء مسح الجزء منه. إنَّ مَن قالوا بإجزاء مسح الجزء إنما استدلوا على دعواهم بتفسير الباء في الآية بأنها للتبعيض، وهذا الاستدلال بيَّنَّا فساده. ثم أتوا بأدلة أُخرى نذكرها ثم نناقشها:
1-
عن أنس قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيَّة، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مُقَدَّم رأسه ولم ينقض العمامة» رواه أبو داود وابن ماجة.
2-
عن المغيرة بن شعبة قال «تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلَّفتُ معه، فلما قضى حاجته قال: أمعك ماء؟ فأتيته بِمِطْهَرَة، فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسِر عن ذراعيه فضاق كُمُّ الجُبَّة، فأخرج يده من تحت الجُبَّة، وألقى الجُبَّة على منكبيه وغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خُفَّيه، ثم ركب وركبت، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة، يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر، فأومأ إليه فصلى بهم، فلما سلَّم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت، فركعنا الركعة التي سبقتنا» رواه مسلم. وفي لفظ آخر لمسلم «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» .
3-
عن عطاء «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدَّم رأسه - أو قال ناصيته- بالماء» رواه الشافعي مرسلاً.
4-
عن نافع عن ابن عمر «أنَّه كان يمسح مُقَدَّم رأسه مرة واحدة» رواه ابن أبي شيبة. أما حديث أنس الأول ففي إسناده أبو معقِل لا يُعرف حالُه، قاله الحافظ ابن حجر، فالحديث فيه مجهولٌ، فهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وأما حديث المغيرة وفيه «ومسح بناصيته وعلى العمامة» أو «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» فإنه لا يعضد دعواهم، إذ لو لم يكن فيه «وعلى العمامة» أو «وعلى عمامته» لكان دالاً على المطلوب، أما وأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح الناصية أو مُقَدَّم رأسه، ومسح العمامة معاً، فإن ذلك يدل على حكم جديد لواقع جديد هو جواز المسح على العمامة كجواز المسح على الخفِّ، فلما كان يجوز المسح على العمامة فقد مسحها عليه الصلاة والسلام، ولما كان يظهر من الشعر الناصية فقد مسحها هي الأخرى، وبذلك يكون قد مسح جميع الرأس ما ظهر منه وما خفي، وهذا ليس دليلاً لهم، بل هو في حقيقته حجةٌ عليهم.
وأما الحديث الثالث فهو مثل حديث أنس إلا أنه يخالفه في حسر العمامة، وهذا الحديث المرسل اضطر معه ابن حجر لأن يبحث عن حديث آخر يعضده، فوجد حديث أنس الضعيف المار، ثم قال (قد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة) . فهو بهذا يعترف أن هذا الحديث المرسل يحتاج إلى دعم، فلم يجد ما يدعمه سوى حديث آخر ضعيف، وهذه القاعدة التي يأخذ بها ابن حجر غير مُسلَّم بها، لأن الحديث غير الصحيح وغير الحسن يحتاج إلى حديث صحيح أو حسن وليس إلى حديث ضعيف لدعمه، وفي هذه الحالة فإن الاحتجاج يكون بهذا الصحيح أو بهذا الحسن، فكيف وأنَّ حديث أنس وحديث عطاء مختلفان؟ الأول يقول إن العمامة لم تُنقض، والثاني يقول بحسرها، فكيف يعضد حديث أنس حديث عطاء؟ وعلى فرض صلاح هذا الحديث للاحتجاج فإنه يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قد حسر العمامة عن مقدَّم رأسه، ومسح مقدَّم رأسه ثم مسح على العمامة، ليتوافق هذا الحديث مع حديث مسلم «ومسح بناصيته وعلى العمامة» أو «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» .
وأما الحديث الرابع فهو فعلُ صحابي، وفعل الصحابي يصلح للتقليد، ولا يصلح كدليل، فمن أراد تقليد ابن عمر فلْيكتفِ بمسح مُقَدَّم رأسه، أما من أراد الاجتهاد فإنه لا يستدل به. قال ابن القيم (إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة) .
والذي حصل هو أنَّ من قالوا بإجزاء مسح الجزء إنما أجازوا الاستدلال بالأحاديث الضعيفة ونحن لا نقرُّهم على ذلك، ولا نأخذ إلا بالصحيح والحسن فحسب، وممن رُوي عنهم جواز مسح الجزء: ابن عمر وسفيان وإبراهيم النخعي والشعبي والشافعي والطبري وأبو حنيفة وتلميذاه أبو يوسف ومحمد، والحسن والثوري والأوزاعي. وهؤلاء اختلفوا في قدر الممسوح، فأبو حنيفة قال: يجزيء مسح ربعه. والشافعي قال: يجزيء مسح ما يقع عليه الاسم وأقله ثلاث شعرات، وحُكي عنه أقلُّه شعرةٌ واحدة. وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بإصبع واحدة. وهذه الخلافات بينهم هي في تحقيق مناط الحكم وليس في الحكم نفسه.
وممن ذهب إلى وجوب مسح جميع الرأس مالك بن أنس والمُزَني وأحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر، وأدلتهم على ذلك أن الآية طلبت مسح الرأس، والأحاديث الصحيحة جاءت ببيان المسح وأنه يشمل جميع الرأس. وهذه الأحاديث هي:
1-
لبيان وضوء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رُوي عن عبد الله بن زيد «
…
ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمُقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» رواه البخاري ومسلم.
2-
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن زيد «أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل أو مضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر، وغسل رجليه إلى الكعبين ثم قال: هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه البخاري، ولم يذكر فيه غسل الوجه.
3-
حديث المغيرة السابق وفيه «ومسح بناصيته وعلى العمامة» .
الحديث الأول فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه الاثنتين فأقبل بهما وأدبر، بادئاً بمُقدَّم الرأس حتى وصل إلى قفاه، ولم يكتف بذلك بل ردهما إلى مُقدَّم رأسه، وهذا دليل على مسح جميع الرأس. وأصرح منه ما جاء في الحديث الثاني «مسح برأسه ما أقبل وما أدبر» أي أوله وآخره، أو أعلاه وأسفله، وهذا يشمل الكل، ولذلك جعل البخاري في صحيحه باباً سماه [باب مسح الرأس كله] وساق حديث عبد الله بن زيد، وقال البخاري (سُئل مالك أيُجْزِيء أن يمسح بعض الرأس؟ فاحتج بحديث عبد الله بن زيد) . قال ابن حجر في فتح الباري (قوله وسئل مالك: السائل له عن ذلك هو إسحق ابن عيسى بن الطباع، بيَّنه ابن خُزَيمة في صحيحه من طريقه، ولفظه: سألت مالكاً عن الرجل يمسح مُقدَّم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله) . وحديث المغيرة يفيد مسح الرأس كله ظاهره وما علاه من العمامة، ولو كان مسحُ مُقدَّم الرأس أي الناصية يُجزيء لما أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام المسح على العمامة.
فهذه الأحاديث تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بيَّن المسح الواجب في الآية، وبيانُه شرحٌ للآية، وأن المسح الواجب هو مسح الرأس كلِّه، ولم يُرْوَ عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح جزءاً من رأسه مطلقاً في حديث صحيح أو حسن، وحيث أن الآية مجملة والسنة قد بينتها بمسح الكل، وأن هذا الفعل لم يقع فيما زاد على الوضوء المُجْزِيء، فإن ذلك كله قرينة على أنَّ هذا المسح لجميع الرأس هو الواجب وهو المتعيِّن. فالآية ذكرت غسل الوجه {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والسُّنَّة جاءت تبين غسل الوجه كله، فصار غسل الوجه كلِّه واجباً لأنه بيانٌ لمُجْمَلٍ واجبٍ في الآية، ولم يقل أحد من الفقهاء قديماً وحديثاً إن غسل بعض الوجه مُجْزِيء، وكان ينبغي عليهم أن لا يقولوا ذلك بخصوص مسح الرأس، لأن الآية أجملت غسل الوجه كما أجملت مسح الرأس، فلماذا يُصار إلى إيجاب بيان السُّنَّة لغسل جميع الوجه، دون ايجابها لمسح جميع الرأس؟ الحال واحدة والحكم يجب أن يكون واحداً.
إلا أن قولي هذا لا يعني استيعاب كل شعرة من شعر الرأس في المسح كاستيعاب كل بقعة في بشرة الوجه في الغسل، وذلك لأن واقع الغسل أنه يستوعب، في حين أن المسح لا يستوعب، وهذا يعني أن مسح الرأس ليس على سبيل الاستيعاب الكامل لكل شعرة، وإنما على سبيل مسح الجميع من الشعر إلا ما لا يستوعبه المسح بطبيعته، تماماً كالمسح على الجبيرة وكالمسح على ظاهر الخُفِّ، وكتيمُّمِ الوجه بالتراب، فكله لا يستوعب الممسوح، لأن المسح لا يستوعب الأجزاء كلَّها بطبيعته، والواجب هو إمرارُ اليدين على جميع الرأس، وليصل البللُ إلى ما يصل من شعر، وهذا شيءٌ، ومسحُ جزء من الشعر وترك جزء شيء آخَر. هذا هو المسح الواجب، وهذه هي كيفيته.
أما كم مرةً يُمسح الرأس كله؟ فالجواب عليه نؤخره حتى نستعرض الأحاديث المتعلقة به. روى البخاري حديث عبد الله بن زيد كما يلي:
1-
الرواية الأولى جاء فيها «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمُقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه» .
2-
الرواية الثانية جاء فيها «ثم أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» .
3-
الرواية الثالثة جاء فيه «ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر» .
4-
الرواية الرابعة ساقها البخاري في باب [مسح الرأس مرة] أنقلها بكاملها: «حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا وهيب قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بتورٍ من ماء، فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً، بثلاث غرفات من ماء، ثم أدخل يده في الإناء فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر بهما، ثم أدخل يده في الإناء فغسل رجليه» وقال البخاري عند هذا الحديث: حدثنا موسى قال حدثنا وهيب قال «مسح رأسه مرة» .
6-
وقد روى مسلم هذا الحديث، وجاء فيه «فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر» .
7-
عن عثمان رضي الله عنه أنه «دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاثَ مِرارٍ فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مِرارٍ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مِرارٍ إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وأحمد.
8-
عن أبي حيَّة قال «رأيت علياً توضأ، فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أُريكم كيف كان طُهور رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) .
9-
عن ابن عباس رضي الله عنه «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فذكر الحديث كله ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه مسحةً واحدة» رواه أحمد وأبو داود. قال الحسن ابن القطان: إن هذا الحديث إما صحيح أو حسن.
ووردت أحاديث أخرى عديدة تذكر المسح مرة واحدة، إلا أننا نكتفي بما أوردناه لأنه يكفي لإثبات أن المسح المشروع في الوضوء هو مسحةٌ واحدةٌ فحسب، فحديث عبد الله بن زيد برواياته الأربع عند البخاري، ورواية مسلم وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر المسح مرة واحدة فهماً من الروايات: الأولى والثالثة والرابعة عند البخاري والسادسة عند مسلم، ونُطقاً في الرواية الثانية، وهذا ما أخذ به البخاري حتى إنه عقد باباً في صحيحه أطلق عليه باب مسح الرأس مرة، مستشهداً براوي الحديث وهيب في قوله «مسح رأسه مرة» ومثل هذا الحديث برواياته المختلفة حديث عثمان البند 7، فقد ذكر هذا الحديث عدداً لأفعال الوضوء باستثناء مسح الرأس. أما حديث أبي حية البند 8 فهو منطوقٌ في المسح مرة واحدة «ومسح برأسه مرة» وكذلك حديث ابن عباس البند9، فقد ذكر المسح مرة واحدة.
فهذا الحشد من الأحاديث الصالحة للاحتجاج يفيد الاقتصار في المسح على واحدة فحسب، وهذه المرة الواحدة وردت بكيفية محددة هي بَلُّ اليدين الاثنتين بالماء، ثم إمرارُهما على الرأس بَدءاً بالناصية وصولاً إلى القفا، ثم العودة من القفا إلى الناصية، وكل ذلك عُدَّ مرةً واحدة، وهو الشائع المعروف عند الفقهاء والمحَدِّثين، ولم تخالف هذه الكيفية سوى رواية البخاري الرابعة من طريق عبد الله بن زيد، فقد ذكرت الكيفية بشكل معكوس «فأدبر به وأقبل» وهذه رواية واحدة تعارض سائر الروايات عن عبد الله ابن زيد نفسه، فالواجب ترجيح الروايات العديدة وترك هذه الرواية، ولا نحتاج إلى التأويل والتحويم لنحاول التوفيق بين هذه الروايات، كما فعل ابن حجر بقوله (إن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطرفين متَّحد فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمُقدَّم، فيُحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه أي بدأ بمُقدَّم الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك) فحار ولم يقطع برأي.
قلنا إن كل ذلك عُدَّ مرة واحدة، إلا أن النَّسائي ذكر المسح مرتين من رواية عبد الله ابن زيد، فيُحمل قوله على أنه اعتبر مسح الرأس من الناصية إلى القفا مرة، والعودة من القفا إلى الناصية مرة ثانية، فهذا لا يهم لأن العبرة بصفة المسح المشروع وليس بالتعبير عنه، فلك أن تعتبر ما فعله الرسول الله صلى الله عليه وسلم مسحة واحدة أو مسحتين ما دامت الكيفية هي هي.
والقائلون بالمسح مرة واحدة هم أكثر العلماء والأئمة سلفاً وخلفاً، رُوي ذلك عن عبد الله بن عمر وابنه سالم والحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه. قال الترمذي (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم) وقال ابن عبد البر: كلهم يقول مسح الرأس مسحة واحدة.
وذهب عطاء والشافعي وأحمد في رواية إلى القول باستحباب مسح الرأس ثلاثاً. فلنستعرض أدلتهم وشبهاتهم كلها:
1-
عن شقيق بن سلمة قال «رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا» رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني.
2-
عن عبد خير عن علي رضى الله عنه «أنَّه توضأ فغسل يديه ثلاثاً، ومضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: من أحبَّ أن ينظر إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملاً فلْينظر إلى هذا» رواه الدارقطني والطبراني.
3-
قالوا إن كلاً من علي وعثمان وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وأبي مالك والربيع وأُبيِّ بن كعب قد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً. هذا ما استدلوا به على استحباب مسح الرأس ثلاثاً. فلْنناقش هذه البنود بنداً بنداً:
الحديث الأول إسناده ضعيف ففي رواية أبي داود والبيهقي والدارقطني عامر بن شقيق، يعني ابن جمرة، وهو مختلف فيه، ورواية للبيهقي وأحمد والدارقطني وابن السكن من طريق ابن دارة وهو مجهول الحال، وللبيهقي رواية من طريق عطاء عن عثمان وفيها انقطاع، وللدارقطني رواية أخرى من طريق ابن البيلماني وهو ضعيف جداً، عن أبيه وهو ضعيف، فهذا الحديث بجميع طرقه ضعيف لا يصلح للاحتجاج. قال البيهقي (وقد رُوي من أوجهٍ غريبة عن عثمان رضي الله عنه ذكر التكرار في مسح الرأس إلا أنها مع خلاف الحُفَّاظ الثِّقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتجُّ بها) قال أبو داود (أحاديث عثمان رضي الله عنه الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنَّه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً، وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عدداً كما ذكروا في غيره) والحديث الثاني عند الدارقطني من طريق عبد خير من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن علي، وقال (لا نعلم أحداً منهم قال في حديثه إنه مسح رأسه ثلاثاً غير أبي حنيفة، ومع خلاف أبي حنيفة فيما روى لسائر من روى هذا الحديث، فقد خالف في حكم المسح فيما رُوي عن علي رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن السُّنَّة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة) فهو إذن شاذ لا يصلح للاحتجاج. ورواية الطبراني فيها عبد العزيز بن عبيد الله، قال ابن حجر: هو ضعيف، لذا فالحديث شاذ وضعيف فلا يحتج به. وقد رُويت أحاديث أخرى تذكر مسح الرأس ثلاثاً، وهي ضعيفة كلها لا تصلح للاستدلال، ولا حاجة لاستعراضها كلها.
أما البند الثالث فإن قولهم إن عدداً من الصحابة ـ وذكروهم ـ رووا أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، هذا القول صحيح ولكنه مجمَل، وجاءت الأحاديث الصحيحة تفسر هذا المجمَل وتبينه، وتجعل العدد في المغسول دون الممسوح، وأن الممسوح يُمسح مرة واحدة. والمعلوم أن الأحاديث المُجْمَلة تُحمَل على الأحاديث المُفصِّلة، وهنا أحاديثهم مجمَلة وأحاديثنا مفصِّلة، فتحمل أحاديثهم على أحاديثنا التي جعلت العدد في المغسول واستثنت منه الممسوح. قال ابن قُدامة (الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً أرادوا بها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصَّلوها قالوا ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يُحكم به على الإجمال ويكون تفسيراً له، ولا يعارض به كالخاص مع العام) وقال الشوكاني (والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله ابن زيد وغيرهما هو المتعيِّن، لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة، وحديث «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» الذي صححه ابن خُزَيمة وغيره قاضٍ بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة، كيف وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة ثم قال: مَن زاد) وقال ابن المنذر (إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبنيٌّ على التخفيف، فلا يقاس على الغُسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتُبر في المسح لصار في صورة الغُسل، إذ حقيقةُ الغُسل جرَيانُ الماء، والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء) .
وبهذا يتبين وجه الحق فيما ذهبنا إليه من قبل من أن المسح المشروع هو مرة واحدة، وأن الزيادة على المرة مخالفة للسنة النبوية، وتدخل تحت النهي. والمشروع في الرأس المسح دون الغُسل خلافاً لسائر الأعضاء، فلو غسل أحدهم رأسه بدل المسْح لما أجزأه ولبطل وضوؤه خلافاً لمن أجاز ذلك، لأن العبادة هذه لا يصح تعليلها بالنظافة، وأنَّ الغُسلَ أنظف من المسح، فهذا وإنْ كان صحيحاً في التنظيف إلا أن الله سبحانه أراد المسح فوجب الوقوف عند النص وعدم الاجتهاد فيه، لأن الاجتهاد هذا يعطِّل النص ويلغيه، وهو حرام لا يجوز.
أما هل يُمسح الرأس بماء جديد أم بما يفضل مِن ماء في اليدين؟ فللجواب على ذلك نستعرض الأحاديث المتعلقة به:
1-
عن واسع الأنصاري أنه سمع عبد الله بن زيد يذكر أنه «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ لأُذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه» رواه البيهقي وصححه.
2-
عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ «ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يده
…
» رواه مسلم والترمذي والدارمي وأحمد وأبو داود.
3-
عن نمران بن جارية عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا للرأس ماءً جديداً» رواه الطبراني في المعجم الكبير.
4-
عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ «ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر» رواه مسلم.
5-
عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ «ثم أخذ بيده ماءً فمسح رأسه فأدبر به وأقبل» رواه البخاري.
6-
عن عبد الله بن محمد بن عقيل: حدثتني الرُبيِّع بنت مُعوِّذ بن عفراء أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم «
…
مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين، بدأ بمُؤَخَّرِه ثم رد يده إلى ناصيته
…
» رواه أحمد. ورواه أبو داود بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه من فضل ماءٍ كان في يده» قال الترمذيُّ (عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق، ولكن تكلم فيه بعضهم من قِبَل حفظه) وقال فيه البخاري (كان أحمد وإسحق والحميدي يحتجون بحديثه) وبذلك صلح هذا الحديث للاحتجاج.
الحديث الأول فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ ماء لمسح رأسه منطوقاً، لأن قوله «خلاف الماء الذي أخذ لرأسه» إثبات أن الرأس أُخذ له ماء، والثاني يفيد الشيء نفسه والحديثان الرابع والخامس أفادا أن الرأس يُؤخذ له ماءٌ جديد.
وهذه الأحاديث كلها أفادت أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فعل ذلك فعلاً، وهي أحاديث تصلح كلها للاحتجاج، وجاء الحديث السادس الذي فيه «مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه» حسبما جاء في رواية أحمد، و «مسح برأسه من فضل ماءٍ كان في يده» حسبما جاء في رواية أبي داود. وهذان اللفظان لهذا الحديث يفيدان أن مسح الرأس يصح من فضل الماء، وهما أيضاً فعلٌ من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تكون عندنا نصوص تفيد مسح الرأس بماء جديد، وأخرى تفيد مسح الرأس بفضل الماء، وذلك دالٌّ على أن المسلم بالخيار بين أن يمسح رأسه في الوضوء بماء جديد وبين أن يمسحه بماء يفضل في يديه عقب غسلهما، فكلا الفعلين جائز.