الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عبد البر: إن بعضهم قال انعقد إجماع الصحابة على إيجاب الغسل من التقاء الختانين، وليس ذلك عندنا كذلك، ولكنا نقول إن الاختلاف في هذا ضعيف، وإن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجابِ الغسل من التقاء الختانين، أو مجاوزة الختان الختان، وأما القائلون بأن الإنزال فقط هو السبب لوجوب الغسل فهم أبو سعيد الخدري وزيد بن خالد وسعد ومعاذ ورافع ابن خديج وعمر بن عبد العزيز وداود الظاهري، ولا يبعد أن يكون هؤلاء الصحابة والتابعون لم يصلهم خبر النسخ. انتهى قوله.
أحكامُ الجُنُب
للجُنُب أحكام نفصلها كما يلي:
1-
لا يجوز للجُنُب أن يمكث في المسجد، ويُرخَّص له في اجتيازه والمرور منه فقط أخذاً من الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا لا تَقْرَبوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى حتى تَعْلَموا ما تقولون ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا وإنْ كُنتم مَرضى أو على سَفَرٍ أو جاء أحدٌ منكم مِن الغائِطِ أو لامستم النساءَ فلم تجدوا ماءً فتيمَّمُوا صَعيداً طيِّباً فامسحوا بوجوهِكم وأيديكُم إنَّ اللهَ كان عفُوَّاً غفوراً} الآية 43 من سورة النساء. فالآية الكريمة تقول {ولا جُنُباً إلا عابري سبيلٍ حتى تغتسلوا} أي إذا كنتم جُنُباً فاعبروا المساجد عبوراً فقط حتى تغتسلوا، وآنذاك يمكنكم المُكث فيها والصلاة، هذا هو التفسير الراجح، وليس هو تفسير عابري سبيل بالمسافرين.
وقد أعجبني تفسير ابن جرير الطبري لهذه الآية أنقله لكم من كتابه [جامع البيان](وأَولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوَّله ولا جُنُبَاً إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريقٍ فيه وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جُنُب في قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فكان معلوم بذلك أنَّ قوله ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لو كان معنيَّاً به المسافر لم يكن لإعادة ذلك في قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر معنى مفهوم، وقد مضى ذِكْرُ حكمه قبل ذلك، وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مُصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جُنُباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، والعابر السبيل المجتاز مَرَّاً وقطعاً) .
وقد أخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب «أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد فأنزال الله تبارك وتعالى {ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ} » . وهذا يوضح ويقوي رأينا السابق.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما رواه جابر قال «كان الجُنُب يمر في المسجد مُجْتَازاً» رواه ابن أبي شيبة. ورواه ابن المنذر ولفظه «كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنُب» . أما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعةٌ في المسجد فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أُحلُّ المسجد لحائض ولا جُنُب» رواه أبو داود وابن خُزَيمة. وما رُوي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صَرْحةَ هذا المسجد، فنادى بأعلى صوته: إنَّ المسجد لا يحلُّ لجُنُب ولا لحائض» رواه ابن ماجة والطبراني. فأقول: حديث ابن ماجة هذا ضعيف، جاء في الزوائد (إسناده ضعيف، محدوج لم يوثَّق، وأبو الخطَّاب مجهول) فلا يصلح للاحتجاج. فيبقى الحديث الأول الذي رواه أبو داود، فهذا الحديث يجب حمله على المُكث دون المرور، لأن هذا عام وأحاديث المرور مخصِّصة، والخاص يُعمل به. وممن ذهب إلى جواز مرور الجنب في المسجد ابن مسعود وابن عباس والشافعي والطبري.
أما من ذهب إلى عدم الجواز فمالك وأبو حنيفة. وقال أحمد وإسحق بالجواز للجُنب إنْ توضأ، واستدلا بحديث رواه عطاء بن يسار «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مُجْنِبون إذا توضأوا وضوءَ الصلاة» عزاه الشوكاني لسعيد بن منصور. فنرد عليهما بأن في الحديث هشام بن سعد قال عنه أبو حاتم إنه لا يُحتجُّ به، وضعَّفه يحيى بن مُعين والنَّسائي وأحمد، فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وهكذا يثبت أن الجُنُب يجوز له أن يجتاز المسجد ويمر منه مروراً دون مُكْث. وهكذا أيضاً يظهر خطأ الرأيين الآخرين.
2-
يجوز للجُنُب الاختلاط بالناس ومصافحتهم ومحادثتهم وما إلى ذلك، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنه لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جُنُب، فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله لقيتَني وأنا جُنُب، فكرهتُ أن أُجالسك حتى أغتسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إنَّ المؤمن لا ينجس» رواه مسلم. الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر على أبي هريرة انسلاله مِن أمامِهِ كراهةَ مجالسته لأنه جُنُب، وهذا الإنكار منه يفيد جواز مصافحة الجُنُب ومجالسته ومحادثته.
3-
يجوز للجُنُب أن يجاهد، وقصة غسيل الملائكة مشهورة، ففي سيرة ابن هشام «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ صاحبكم، يعني حنظلة، لتُغَسِّلُه الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه، فسُئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة» . ورواه أيضاً ابن حِبَّان من طريق عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. قوله الهاتفة: أي الصوت الشديد.
4-
يجوز لمن أصبح جُنُباً أن يُتِمَّ صومه، لما رُوي عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا «إنْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جُنُباً من جِماعٍ غير احتلام في رمضان ثم يصوم» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وهو رأي الجمهور، ويكاد يبلغ حد الإجماع بين الفقهاء.
أما ما رُوي بأن أبا هريرة كان يفتي بأن من أدرك الفجر جُنُباً فلا صوم له، فإنه قد رجع عنه، فهذه الفتوى وهذا الرجوع ذكرهما مسلم في صحيحه في حديث واحد رواه من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر، وكذلك روى ابن أبي شيبة أن أبا هريرة قد رجع عنه، فيُترك العمل به، وهذا في الجُنُب من جماع. أما جواز الصوم لمن أصبح جُنُباً من احتلام فلم يختلف عليه اثنان من العلماء، ولست أُطيل أكثر، لأن هذا البحث مكانه باب الصوم وليس باب الطهارة.
5-
يجوز للجُنُب أن يأكل ويشرب دون أن يتوضأ، قالت عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جُنُب توضأ وضوءَه للصلاة، فإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل كفيه ثم يأكل أو يشرب إن شاء» رواه أحمد والنَّسائي ومسلم. وروى ابن خُزَيمة من طريق عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يطعم وهو جُنُب غسل يديه ثم طعِم» . فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يغسل يديه وهو جُنُب ثم يأكل.
وكذلك يجوز للجُنُب أن يجامع أهله وينام دون أن يتوضأ، لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل» رواه أحمد وأصحاب السُّنن. وعن عائشة بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جُنُب ولا يمسُّ ماء» رواه البيهقي وصححه. والحديث هذا ضعَّفه عدد من أئمة الحديث بقولهم إن الحديث من رواية أبي إسحق عن الأسود عن عائشة، وإن أبا إسحق لم يسمعه من الأسود، ولكن البيهقي قال (إن أبا إسحق بيَّن سماعه من الأسود) وأضاف (قد صح عندنا حديث الثوري عن أبي إسحق عن الأسود) فيُعمَل به إذن. فهذه الأحاديث لم تذكر وضوءاً ولا غُسلاً لمعادوة الجماع أو للنوم أو للأكل أو للشرب، إلا أن الأفضل لهذه الأفعال أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما رُوي عن عائشة أنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جُنُباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» رواه مسلم والبخاري. ولما رُوي عن عبد الله بن أبي قيس أنه قال «سألت عائشة عن وِتْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. قلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة» رواه مسلم. ولما رُوي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتى أحدُكم أهلَه ثم أراد أن يعود فلْيتوضأ» رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن. ولما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: نعم إذا توضأ» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن. ولما روى ابن عمر عن عمر رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدُنا وهو جُنُب؟ قال:
ينام ويتوضأ إن شاء» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان.
فهذه الأحاديث تذكر تارة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل وهو جُنُب ولا يزيد على غسل يديه، وتذكر تارة أخرى أنه كان يأكل وهو جُنُب بعد أن يتوضأ وضوءه للصلاة، ما يدل على أن المسلم بالخيار بين الوضوء وتركه، يؤكد ذلك الحديث الذي رواه ابن عمر المار وفيه «ويتوضأ إن شاء» وكذلك كان عليه الصلاة والسلام يأمر الجُنُب إذا أراد المعاودة بالوضوء، وكان هو يفعل ذلك أحياناً، ولكنه كان أحياناً أخرى يعاود دون وضوء «يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله» .
وإنما قلنا بالاستحباب، لأن الوضوء نفسه مندوب في كل حال، وما دام مندوباً فهو في حالة الجنابة مندوب، وهذا طبعاً غير الوضوء الواجب، فالجُنُب يباح له الأكل والشرب ومعاودة الجماع والنوم دون وضوء، إلا أنه إن توضأ كان أفضل.
6-
لا يجوز للجُنُب أن يصلي، ومن الصلاة سجود الشكر وسجود التلاوة، والطواف حول الكعبة. أما الصلاة عموماً فلقوله جلَّ وعزَّ {ولا جُنُباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} . هذا عدا عن الأحاديث الكثيرة، وهذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة. أما الطواف حول الكعبة خاصة، فلأنه صلاة فيأخذ حكمها، وذلك لما روى طاووس عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنما الطواف صلاة، فإذا طُفتم فأقِلُّوا الكلام» رواه أحمد والنَّسائي. ولما روى عبد الله بن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه ابن خُزَيمة والدارمي، ورواه الحاكم وصحَّحه.
7-
لا يجوز للجُنُب مسُّ المصحف، وقد ورد فيه الحديث التالي: عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كتب إلى أهل اليمن بكتابٍ فيه الفرائضُ والسننُ والدياتُ، وبعث فيه مع عمرو بن حزم، فذكر الحديث، وفيه: ولا يمس القرآنَ إلا طاهراً» رواه البيهقي والدارقطني والحاكم والطبراني، وحسَّنه الحازمي.
هذا الحديث طعن فيه كثيرون وضعَّفوه، ولكن في المقابل صححه كثيرون وقبلوه، فابن حجر قال فيه (كتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول) وقال ابن عبد البر: إنَّه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتاباً أصحَّ من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويَدَعُون رأيهم. وقال الحاكم (قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة) فكفى بعمر بن عبد العزيز والزهري شاهدين على صحة هذا الحديث فالحديث صالح للاحتجاج.
بقي وجه الدلالة فيه. قال الشوكاني مُعقِّباً على كلمة طاهر (إن الراجح كون المشترك مُجمَلاً في معانيه فلا يعين حتى يبين، وقد دلَّ الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث «المؤمن لا ينجس» ولو سُلِّم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحلِّ النزاع ترجيحاً بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف، ولو سُلِّم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث «المؤمن لا ينجس» ) .
فالشوكاني يعتبر كلمة طاهر لفظةً مشتركةً، ولا بد من وجود دليل يعين المراد منها، لأنها تشمل المؤمن، وتشمل مَن تطهَّر من الجنابة، وتشمل مَن توضأ، وتشمل مَن غسل النجاسة عن بدنه، وكل هذه المعاني يفيدها لفظ طاهر، فلا بد من معرفة أي هذه المعاني هو المقصود من الحديث. هذا مجمل رأي الشوكاني في رد الاحتجاج بهذا الحديث على موضوعنا وهو مثال على رأي القائلين بقوله. ونرد عليه بما يلي:
صحيح أن كلمة طاهر تشمل المعاني المذكورة كلها، ولكن لا بد من وجود قرينة تُعيِّن المعنى المراد، أو تصرف اللفظة عن معنى معين أو معان معينة، ولا يُتصور أن يكون هذا الحديث خالياً من قرينةٍ فيه، أو في غيره من الأحاديث، وإنَّ حديثاً يكاد يبلغ التواتر لشُهرته وتلقِّي الناسِ صحابةً وغيرَ صحابةٍ له بالقبول لا يُتصور أن لا تكون فيه ولا في غيره قرينة تعين المعنى المقصود، لأن تلقي الناس له بالقبول يدل على أنهم أخذوه وعملوا به، ولا يدل على أنهم سمعوه فقط واحتاروا في فهمه، وما كان لهذا الحديث أن يكون مشهوراً ويُتلقَّى بالقبول لو كان معناه محتمَلاً ودلالته مجمَلَة غامضة، فهذا افتراض مرفوض. وقد اتفق المسلمون أو كادوا على أن معناه لا يمس القرآن إلا من رفع الحدثين الأكبر والأصغر، وحتى الأئمة الذين يُجيزون لفاقد الوضوء مسَّ المصحف لم ينكروا هذا التفسير، وإنما ردوا الحديث ووصفوه بالضعف، ولم يحتجوا به.
أما أن من معاني لفظ [الطاهر] المؤمن، أخذاً بالحديث «المؤمن لا ينجس» كما يقول الشوكاني فهو صحيح، ولكن القرينة تصرفه عن هذا المعنى، فالحديث قولٌ أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام لليمن وأهله مسلمون، أي وأهله طاهرون، وهو خطاب لهم، فعلى تفسير لفظ الطاهر بالمؤمن يكون الحديث كالآتي: أيها الطاهرون لا يمس المصحف أحد منكم إلا إذا كان طاهراً. وبصيغة المفرد: لا تمس أيها الطاهر المصحف إلا إذا كنت طاهراً. وهذا من التأويل الفاسد وهو مردود، إذ لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام أراد هذا المعنى، أي لو أراد أن لا يمسَّه إلا المؤمنون لقال: لا يمسّ القرآنَ مشركٌ، أو لا يمسّ المصحف كافرٌ، فلما عدل عن هذا التعبير دل على أن للحديث معنى آخر.
وأما أن من معاني لفظ (الطاهر) مَن تطهَّر من النجاسة كما يقول الشوكاني فهو أيضاً صحيح، ولكن من تطهر من النجاسة اثنان وليس واحداً، فالذي أزال النجاسة عن بدنه متطهِّر وطاهر، والذي أزالها عن ثوبه طاهر أيضاً ومتطهِّر، فهل الحديث أراد من المتطهِّر مِن النجاسة الأول أم الثاني؟ إنه ليس من صحابي ولا تابعي قال إن مسَّ المصحف يحتاج إلى طهارة البدن والثوب أو طهارة أحدهما مستدلاً بهذا الحديث، فقد اتفقت كلمة المسلمين سلفاً وخلفاً على اطِّراح هذا المعنى لهذا الحديث، فإيراد الشوكاني لهذا الاحتمال إيراد نظري.
وأيضاً فإن عندنا العديد من النصوص التي تطلب طهارة البدن وطهارة الثوب من النجاسة، وتُبرز هذه النصوص الحالةَ المقصودة من الحالتين في كل مرة، فالآية الكريمة تقول {وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} فنصَّت على الثياب، والحديث يقول «كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك» فذكر الثوب مرتين، والحديث يقول «فتغسل من ذلك فرجك وأُنثييك» فذكر الجزء المقصود من البدن، والحديث يقول «فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض» ولم يقل إحدانا يصيبها من دم الحيض، والحديث يقول «سألت عائشة عن الحيض يصيب ثوبها الدم» والحديث يقول «فاغسلي موضع الدم» وهكذا يذكر نجاسة الموضع ويعيِّنه بصريح اللفظ، فمن تأمَّل النصوص وكانت عنده دراية بها فَهِم أن الطهارة لا تأتي بمعنى غسل النجاسة، إلا مقرونة بقرينة تصرفها إلى إزالة النجاسة، وحديثنا يجب فهمه على ضوء هذه الملاحظات. فلم يبق وقد استُبعد تفسير الطاهر بالمؤمن وبالمتطهِّر من النجاسة إلا الحَدَث بشقيه الأكبر والأصغر فحسب، وجاء الحديث يطلب أحد الشقين أو يطلبهما معاً، ولا ثالث لهذين الاحتمالين.
وبالوصول إلى هذه النقطة نجد أن المسألة صارت سهلة متقاربة، لأن أياً من المعنيين ليس منفصلاً عن الآخر ولا بعيداً عنه، فإنَّ ما بينهما من فارق ليس كما بين الحَدَث والمؤمن، وليس كما بين المؤمن والمتطهِّر من النجاسة، وإنما هما شيء واحد أو جنس واحد من شقين، ولذا سُميا الحدث الأكبر والحدث الأصغر، فكلاهما حدث، ويدخل الأصغر في الأكبر حين القيام بالأكبر إلى غير ذلك، فحين يريد الشرع أن يطلبهما يقول: تطهَّروا أو ارفعوا الحدث مثلاً، أما إن أراد أحدهما نص عليه وعيَّنه فقال: توضأوا للأصغر، وارفعوا الجنابة للأكبر وهكذا، فحين يقول الحديث أيها المؤمن لا تمسَّ المصحف إلا إذا تطهَّرت، أو إلا إذا كنت طاهراً يجب صرفه إلى الإثنين وعدم صرفه إلى أحدهما إلا بقرينة، ولا قرينة هنا لهذا الصرف. ثم إنَّ الطهارة من الحَدَث الأكبر هي طهارة ناقصة لا تصلح وحدها للصلاة ولا للطواف، وهذا معلوم، وبرفع الحدث الأصغر تكتمل الطهارة وتتم، فحين يطلب الحديث شيئاً فإن المعنى الذي ينبغي أن يقفز إلى الذهن هو الشيء بتمامه، ولا يصح فهمُه على النقص إلا بقرينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منا أن لا نمس المصحف إلا ونحن طاهرون، وحيث أن طهارتنا تكتمل بالوضوء، فالأصل وسلامة الفهم تدفعنا إلى القول بكامل الطهارة، سيما وأنه لا قرينة هنا على صرفها إلى النقص. من كل ما سلف يترجح لدينا أن مسَّ المصحف لا يصح إلا من رافعٍ للحدث بشقيه الأكبر والأصغر، وهذا هو رأي جمهور الأئمة والفقهاء.
بقي أن أشير إلى أن عدداً من الفقهاء لم يكتفوا بالاستدلال بالحديث السابق، وإنما استدلوا على هذا الرأي بالقرآن الكريم قائلين إنَّ الآيات التي تقول {إنَّه لَقُرآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مكنونٍ. لا يمسُّه إلا المُطهَّرون. تَنْزيلٌ مِن ربِّ العَالمين} الآيات من 77-80 من سورة الواقعة. تدل على أن المسلم يجب أن يتطهر لمسِّ المصحف {لا يمسُّهُ إلا المُطهَّرون} وقالوا إن الآيات صُدِّرت بلفظ (القرآن الكريم) ثم أتت على أوصافه الثلاثة وهي أن القرآن {في كتابٍ مَكْنُونٍ} وأنه {لا يمسُّهُ إلا المُطهَّرون} وأنه {تَنْزيلٌ مِنْ ربِّ العَالمين} جاعلين الضمير في يمسُّه يعود إلى القرآن، واعتبروا هذه الآيات دليلاً لهم.
والذي أراه هو أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وكان الأَولى بهم الاقتصار في الاستدلال على الحديث السابق. وقد ذهب ابن تيمية في الاستدلال بهذه الآيات مذهباً غريباً بقوله (إنَّ الآية تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أن الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسَّها إلا طاهر) فهو يقرر أن الآيات لا تدل على رأيه إلا من باب الإشارة، وذلك لأنها في الحقيقة تدل على الملائكة المطهرين وليس البشر المتطهرين لمسِّ المصحف. وقد أخطأ حين لم يقف عند مدلولات هذه الآيات وقام بعملية قياس غير صحيحة، إذ قاس البشر على الملائكة من حيث الطهارة، والمعلوم أن الإشارة هذه لها باب في أصول الفقه يسمونه باب مفهوم الإشارة، وهذا المفهوم لا يُعمل به هنا، لأن الأصوليين لم يقولوا بقياس الإنسان على الملائكة فأتى بقوله هذا غريباً من القول، وهو بيِّن الضعف.
وبالنظر في هؤلاء الآيات الكريمات نجد أن الآية {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون} تتحدث عن الكتاب المكنون الموجود في السماء، والذي تمسه الملائكة المطهَّرون، وليس عن القرآن الكريم الذي يمسه المسلمون المتطهِّرون، والدليل على ذلك ما يلي:
أ- المعلوم أن الضمائر في اللغة تعود إلى أقرب اسم يصلح لعودتها إليه، ويمكن للضمائر أن تعود إلى اسم أبعد إن كان الاسم الأقرب لا يصلح لعودتها إليه، أو كانت هناك قرينة تعيِّن الاسم الأبعد ليعود الضمير إليه، وما عدا هاتين الحالتين فالأصل في الضمير ما ذكرنا، وفي هذه الآيات الكريمات نجد أن ضمير يمسُّه - وهو مذكَّر غائب - قد سبقه اسمان: القرآن وكتاب، والقرآن هو الاسم البعيد، والكتاب هو الاسم القريب، والضمير المذكر الغائب يصلح أن يعود إلى الكتاب، وحيث أنه هو الاسم الأقرب، فالأصل أن يعود الضمير إليه لهذين السبين، ولأنه لا توجد قرينة تصرف عودته إلى القرآن، بل القرينة تؤكِّد عودته إلى الكتاب، وبذلك يكون معنى الآيات كما يلي: إنَّه لقرآنٌ موجود في كتاب، هذا الكتاب لا يمسُّه إلا المطهَّرون. أما الآية الأخيرة {تَنْزيلٌ مِنْ ربِّ العالمين} فهي وصفٌ للقرآن وليس للكتاب لقرينة {تنزيل} فهذا المعنى لا يصلح لوصف الكتاب المكنون به، لأن الكتاب المكنون لم ينزل، ولم ينزل إلا القرآن، فاستحق وصفه به دون وصف الكتاب المكنون.
قلنا قبل قليل (بل القرينة تؤكِّد عودته إلى الكتاب) ونقول هنا إنَّ هذه القرينة هي لفظة {المُطهَّرون} فهذه اللفظة وصفٌ للملائكة وليست وصفاً للإنسان، وحتى نقف على الدليل على ذلك لننظر في الآيات القرآنية التالية:
1-
{ولهم فيها أزواجٌ مُطهَّرةٌ وهم فيها خالدون} الآية 25 من سورة البقرة.
2-
{خالدين فيها وأزواجٌ مُطهَّرةٌ ورِضْوانٌ مِن الله} الآية 15 من سورة آل عمران.
3-
{لهم فيها أزواجٌ مُطهَّرةٌ ونُدْخِلُهم ظِلاً ظليلاً} الآية 57 من سورة النساء.
4-
{فمن شاء ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكرَّمةٍ. مرفوعةٍ مُطهَّرةٍ} الآيات 12، 13، 14 من سورة عبس.
5-
{رسول من الله يتلو صحفاً مُطهَّرة} الآية 2 من سورة البيِّنة.
6-
{لا يَمَسُّهُ إلا المُطهَّرون} الآية 79 من سورة الواقعة.
لنجد أن الآية الأولى وصفت نساء الجنة بأنهنَّ مطهَّرات، وكذلك الآية الثانية والآية الثالثة. أما الآيات في البند الرابع فوصفت الصحف بأنها مطهَّرة، وكذلك الآية الخامسة. والآية السادسة وصفت من يمسُّون بأنهم مطَهَّرون.
وبالتدقيق نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين هذه الكلمات، وهو أن هذا التطهير حصل بفعل من الله دون مشاركة من غيره، فأزواج الجنة طهَّرهن الله فهن مطهَّرات أبداً، والصحف طهَّرهن الله، والملائكة طهَّرهم الله، ولم تشارك الأزواج ولا الصحف ولا الملائكة بفعل التطهير، فجاء الوصف كما رأيتم. ثم لننظر في الآيتين القرآنيتين التاليتين:
1-
{فإذا تطهَّرنَ فأْتوهنَّ مِنْ حيثُ أَمَرَكُمُ الله إنَّ الله يحبُّ التَّوابين ويحبُّ المُتَطَهِّرين} الآية 222 من سورة البقرة.
2-
{فيه رجالٌ يُحِبُّون أنْ يَتَطَهَّروا والله يُحِبُّ المُطَّهِّرين} الآية 108 من سورة التوبة. لنجد أن الآية الأولى ذكرت النساء في الدنيا بقولها {تطهَّرن} واسم الفاعل من تطهَّر هو مُتطهِّر، ووصفت المسلمين بقولها {المتطهرين} وأن الآية الثانية وصفت الرجال الذين يتطهرون بأنهم [المُطَّهِّرين} بتشديد الطاء المفتوحة والهاء المكسورة.
وبالتدقيق في هذه الألفاظ نجد أن بينها قاسماً مشتركاً هو التطهُّر الذي حصل بفعل الإنسان نفسه، ولذلك جاءت الألفاظ {المُطَّهِّرين} و {المُتَطَهِّرين} و {تطهَّرْنَ} ، واسم الفاعل هو متطهرات، أي أن من قام بتطهير نفسه وُصف بأنه متطهِّر أو مُطَّهِّر، ولم يوصف بأنه مُطَهَّر، في حين أنَّ من طهَّرهم الله لم يوصف أحد منهم بأن متطهِّر أو مُطَّهِّر، وإنما مُطَهَّر ومُطَهَّرون، وهكذا، والفرق واضح تماماً، وإذن فكل من طهَّره الله دون مشاركة من غيره فهو مُطَهَّر، وكل من طهَّر نفسه فهو مُتَطَهِّر ومُطَّهِّر. هذه هي استعمالات القرآن الكريم وبتطبيقها على آية سورة الواقعة نجد أن قوله تعالى {لا يمسُّه إلا المُطَهَّرون} يعني الذين طهَّرهم الله، وبذلك يتعين تفسير هذه اللفظة بالملائكة وليس بالناس.
من ذلك كله يتضح أن آية الواقعة عنت الملائكة ولم تَعنِ الناس، وإلى هذا المعنى مال الإمام مالك فيما رواه عنه القرطبي في تفسيره (وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله {لا يمسه إلا المُطهَّرون} أنها بمنزلة الآية التي في عبس وتولى {فمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكَرَّمةٍ. مَرْفُوعةٍ مُطهَّرةٍ. بأَيْدِي سَفَرةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} يريد أن المُطهَّرين هم الملائكة الذين وُصفوا بالطهارة في سورة عبس) . وممن فسَّروا الآية {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون} بأنهم الملائكة وأن الكتاب المكنون هو الذي في السماء فيما رواه عنهم الطبري في تفسيره هم: ابن عباس ومجاهد والضحاك وجابر بن زيد وابن نهيك وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية. وقد سبق أن ذكرنا أن ابن تيمية قال بذلك وإن خالف هؤلاء في الاستدلال. وبذلك يظهر بوضوح أن آيات القرآن الكريم فيها دلالة على أن مس المصحف يحتاج إلى وضوء، فلم يبق إذن سوى الحديث المشار إليه وفيه الغُنية.
والخلاصة هي أن مس المصحف يحتاج إلى وضوء وليس فقط إلى رفع الحدث الأكبر الذي هو موضوع بحثنا. وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمسَّ المصحف، ولم يخالف في ذلك سوى داود. أما الذين اشترطوا لمس المصحف أن يكون طاهراً من الحَدَثين معاً فهم: علي وابن مسعود وسعد وسعيد وابن عمر والحسن وعطاء وطاووس والقاسم بن محمد ومالك والزُّهري والحكم وحماد والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد. وقال ابن قُدامة (ولا نعلم مخالفاً لهم إلا داود فإنه أباح مسَّه، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه آية إلى قيصر. وأباح الحكم وحماد مسَّه بظاهر الكف لأن آلةَ المس باطنُ اليد فينصرف النهي إليه دون غيره) .
أما الحكم وحماد فهما مع القائلين بعدم جواز المسِّ إلا أنهما قصراه على باطن اليد دون ظاهرها. أما دليل داود فهو ضعيف جداً لأننا نتحدث عن مس المصحف وليس عن مسِّ ورقة فيها آية أو بضع آيات، والمصحف كلمة لها دلالة معلومة، فما كان مصحفاً حرم مسه دون وضوء، وما لا فلا، فتخرج كتب التفسير وكتب الفقه رغم ما فيها من آيات من القرآن لأنها ليست مصاحف فيجوز مسُّها، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهرقل ليس مصحفاً فجاز مسُّه، وكلامنا كله هو في مسِّ المصحف دون سواه، فما سوى المسِّ يجوز على إطلاقه فالنظر إليه وحمله بعلَاّقة ومسُّه بعود كل ذلك جائز، وهو رأي أبي حنيفة وابن قدامة، ورُوي عن الحسن وعطاء وطاووس والشعبي والقاسم والحكم وأبي وائل وحماد. ومنعه الأوزاعي ومالك والشافعي قياساً للحمل على المسِّ وتعظيماً للقرآن، ولا يصح قياسهم، لأن حمله بعلَاّقة ومسَّه بعود لا يشاركان المسَّ في العلة، ثم هما فعلان لا ينافيان التعظيم للقرآن. وفي مسِّ طلاب المدارس رأيان أرجحهما عندي المنع إلا إن كانوا دون البلوغ فلا بأس لأنهم غير مكلفين.
8-
ورد في قراءة الجُنُب للقرآن الكريم حديثان هما:
أ- عن علي رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيءٌ ليس الجنابة» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. ورواه النَّسائي بلفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حال ليس الجنابة» وحسنه ابن حجر.
ب- عن علي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال: هذا لمن ليس بجُنُب، فأما الجُنُب فلا ولا آية» رواه أحمد وأبو يعلى. وقال الهيثمي (رجاله موثَّقون) .
وقد ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى تحريم قراءة القرآن على الجُنُب، وروي ذلك عن ابن عمر وعطاء وطاووس، وقال الشافعي بتحريم قراءة الآية وما دونها وما فوقها، وقال أبو حنيفة بتحريم قراءة آية فما فوقها وأجاز قراءة دون آية إذ ليس بقرآن، وأجاز بعض أصحابه قراءة القرآن للجُنُب لغير التلاوة، وخالفهم آخرون قائلين بجواز قراءة الجُنُب للقرآن منهم ابن عباس والشعبي والضحاك والبخاري والطبري وابن المنذر وداود، والشوكاني وقال (إنه لم يصح خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح لتحريم قراءة القرآن) واستشهد بما روى البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجُنُب بأساً، وبما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» رواه مسلم. وأضاف (وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذه البراءة) . والذي أذهب إليه أن الجُنُب يحرم عليه أن يقرأ القرآن، وأن الشوكاني ومن يقول بقوله لم يصيبوا فيما ذهبوا إليه، وذلك:
1-
إن قول الشوكاني إنه لم يصح خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح لتحريم قراءة القرآن مردود بحديث علي الأول الذي رواه أحمد وغيره وصححه ابن حِبَّان وابن السكن والبغوي، وحسَّنه ابن حجر، ومثل هذا الحديث يصلح للاحتجاج.
2-
إن استشهاده بما روي عن عبد الله بن عباس أنه لم ير في القراءة للجُنُب بأساً هو استشهاد لا يصح، لأن قول الصحابي ليس دليلاً، خاصة إذا عارضه حديث مرفوع صحيح أو حسن كحديث علي الأول وحديث علي الثاني.
3-
أما استشهاده بما روته عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله على كل أحيانه، فهو استشهادٌ مخصَّص بحديثي علي السابقين، لأن حديث عائشة عام بينما حديثا علي مُخصِّصان، والمخصِّص مقدَّم على العام، ولا تعارض بين الأحاديث، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله على كل أحيانه ومنها حالة الجنابة بشتى أنواع الذكر إلا بالقرآن.
4-
أما قوله (وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم) فنرد عليه من وجهين:
أ- لقد صح ما يخصص هذا العموم كما أسلفنا.
ب- إن قوله بالبراءة الأصلية هنا غير صحيح، لأن البراءة الأصلية إنما تكون في الأشياء والموجودات من حيث الحكم دون الأفعال، فالشيء إن لم نجد له حكماً ورد بدليل ألحقناه بالبراءة الأصلية أي بالإباحة، أما الأفعال فلا بد من أن يكون لها أحكامٌ بنصوص أو بقياس، فالقاعدة الأصولية تقول (الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأفعال التقيُّد) ولم يخالف هذه القاعدة إلا القليل من العلماء، ولست هنا بصدد إثبات صحة هذه القاعدة، لأن الأصل في المسلم التقيد في الأفعال بحكم الشرع، فإن عرفنا حكم الفعل التزمنا به، وإن لم نعرف توقفنا عنه حتى نجد نصاً أو نجد قياساً، ولا يُتصور وجود فعل لا نصَّ فيه ولا قياس لأن الشريعة كاملة، وهنا قراءة الجُنُب فعل، فلا بد من أن يكون فيها نصٌّ أو قياس. وبذلك يظهر ضعف رأي الشوكاني ومن وافقه، ويكون رأي الجمهور هو الصحيح.
وننتقل إلى بحث ما اختلف فيه الشافعي وأبو حنيفة في القدر الذي يجوز للجُنُب قراءته من القرآن، فالشافعي يمنع الجُنُب من أن يقرأ آية وما دونها، أما أبو حنيفة فيبيح قراءة ما دون الآية. والحق الذي يجب الأخذ به هو أن نقول إن الجُنُب ممنوع من قراءة القرآن، أي من قراءة ما يطلق عليه اسم القرآن، ويباح له قراءة ما لا يطلق عليه اسم القرآن. هذا هو الرأي الذي يجب المصير إليه، لأن الحديث يقول «لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة» ولكن يبقى علينا معرفة القدر الذي يطلق عليه اسم القرآن لنستطيع من ثَمَّ معرفة الصواب والخطأ في رأيي أبي حنيفة والشافعي.
إن آيات القرآن الكريم تتفاوت في الطول والقصر، ففي حين أن آية الديْن أو آية الكرسي مثلاً في سورة البقرة تتضمن العديد من الأسطر، فإنَّ هناك آيات مثل آية {قل يا أيها الكافرون} وآية {فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفره إنَّه كان توَّاباً} تتضمن سطراً أو بعض سطر، فنحن إذا قرأنا نصف آية الديْن أو ربعها فإن السامع يتحقق من أننا قرأنا قرآناً، وكذلك قل في قراءة نصف آية الكرسي أو ربعها مثلاً، فلو قرأنا منها {الله لا إله إلا هُو الحيُّ القيُّومُ لا تأْخُذُه سِنةٌ ولا نومٌ له ما في السَّمَواتِ وما في الأرض} فإننا نكون قد قرأنا قرآناً، ويكون السامع قد تحقق أننا قرأنا قرآناً وإن كان المقروء جزءاً من آية، ولكن إن قرأنا (يا أيها الكافرون) أو قرأنا (سبح بحمد ربك) أو (إنه كان تواباً) فإن السامع لا يفهم أننا قرأنا قرآناً، وحيث أن المُحرَّم على الجُنُب قراءة القرآن، أي قراءة ما يُطلق عليه أنه قرآن فإن الجُنُب يَحرُم عليه أن يقرأ ما سبق من آية الكرسي وما هو من مثله من أجزاء الآيات الطويلة، ولا يحرم عليه قراءة ما لا يطلق عليه أنَّه قرآن من أجزاء الآيات القصيرة من مثل أجزاء آية سورة [الكافرون] وآية سورة [النصر] وغيرهما مما هو مثلهما في القِصَر، وهكذا فالعبرة هو في القدر المسمى قرآناً، وهذا كله في أجزاء الآيات.
أما الآيات الكاملة وما هو أكثر منها فإن الحديث الشريف قطع علينا البحث حين قال «فلا ولا آية» فأيَّة آية مهما صغرت وقصرت لا يحلُّ للجُنُب أن يقرأها كاملة مطلقاً، وعلى هذا فإن الشافعي مصيب إنْ هو عنى الآياتِ الطويلة التي إن اجتُزِيء منها قدر ظل القدر المتبقي قرآناً، وأبو حنيفة مصيب إنْ هو عنى الآيات القصيرة التي إن اجتُزِيء منها قدر كان القدر المتبقي غير قرآن، وما سوى ذلك فالقولان غير دقيقين. هذا ما ترجَّح لدىَّ، وهذا ما يدل عليه الحديثان الشريفان.
9-
إن الجنابة تكون من التقاء الختانين، أي من ولوج حَشَفة الذكر في فرج الأنثى بإنزال وبدون إنزال، وتكون من الإنزال مطلقاً في اليقظة وفي المنام. وخروج المني من ذَكَر الرجل ومن فرج المرأة يدل على البلوغ، ويعتبر علامة على أن الذكر والأنثى قد دخلا مرحلة التكليف الشرعي. فعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رُفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود والبخاري والترمذي وابن ماجة والدارمي.
وإذا بلغ الذكر أو الأنثى نبتت عانتاهما بالشعر الخشن، فكان هذا الشعر علامة ثانية على البلوغ، فعن عطية القُرَظي قال «كنت من سَبْي بني قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قُتِل، ومن لم يُنبت لم يقتل، فكنت فيمن لم يُنبت» رواه أبو داود وابن ماجة والدرامي وأحمد. ورواه الترمذي وقال (حديث حسن صحيح) وكان هذا عند الحكم على رجال بني قريظة بالقتل عقب هزيمتهم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون يكشفون عن عانات غلمان يهود بني قريظة، فمن وجدوه أنبت - أي بلغ - قتلوه، ومن لم ينبت اعتبروه صبياً وكفوا عن قتله وضموه إلى السَّبْي. فخروج المني من القبل، وظهور الشعر الخشن حول الذكر والفرج هما علامتان دالتان على البلوغ عند الذكر والأنثى على السواء. إلا أن الأنثى لها علامتان أُخريان خاصتان بها إضافة إلى ما سبق هما الحيض والحمل، فمن حاضت أو حملت حكمنا عليها بأنها بلغت، وصارت امرأةً مكلَّفة.
هذه هي العلامات الحسية الدالة على انتقال الصبيان إلى مرحلة البلوغ والتكليف، وهي علامات اتفق عليها الأئمة الأربعة باستثناء الإنبات الذي رفضه أبو حنيفة كدليلٍ على البلوغ، وحديث عطية السابق يرد عليه، كما يرد عليه ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمل به، فقد روى أبو عُبيد في كتابه [الأموال] عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد «أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جرت عليه الموسى» .
أمّا من حيث السن الدالة على البلوغ، فالذي عليه الجمهور أن من بلغ خمس عشرة سنة ذكراً كان أو أنثى فقد بلغ، وخالفهم أبو حنيفة فأوجب مرور ثماني عشرة سنة على الذكر وسبع عشرة سنة على الأنثى للحكم ببلوغهما، والصحيح هو رأي الجمهور، والدليل عليه ما رُوي عن ابن عمر أنه قال «عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» رواه مسلم والبخاري وأبو داود أحمد. وفي لفظ أصرح «عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْني ولم يرني بلغتُ، ثم عُرضت عليه وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنةً فأجازني» رواه ابن حِبَّان والبيهقي. ورواه الترمذي وأضاف (قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: هذا حدُّ ما بين الصغير والكبير ثم كتب أن يُفرض لمن بلغ الخمسَ عشرة) .