الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه هي القاعدة في الخمر، وهذه هي الاستحالة، وحسب هذه القاعدة يُسار في جميع الحالات وجميع المواد. وإِنَّ من أعظم ما ابتُلي به المسلمون في هذه الأيام صناعة الأدوية وصناعة العطور، ففي الكثير منهما يدخل الكحول، لذا فالواجب على المسلم أن يتحرى حين شرائهما، فإن كان الدواء أو العطر يظل الكحول فيه على ماهيته وخاصِّيته فإن الدواءَ هذا والعطرَ لا يحل استعماله ويظل نجساً، أما إن استحال الكحول فيهما إلى مادة جديدة ذات خاصية جديدة فإنه يجوز حينئذ استعماله.
وما يقال عن الخمر يقال عن شحوم الخنزير وشحوم الميتة مثلاً، فهذه الشحوم قد تدخل في صناعة الصابون فتفقد في هذه الصناعة ماهيَّتها وخصائصَها، ففي هذه الحالة يكون الصابون حلالاً ويكون طاهراً، ولا شيء في الانتفاع به، لأن الشحوم في صناعة الصابون تتحول إلى مادة أخرى مغايرة في الوصف والخاصِّية للشحوم فتحل لأجل ذلك. وكما قلنا في الخمور نقول في الشحوم، وهو أنه في صناعة الصابون لا يحل لمسلم أن يستعمل هذه الشحوم النجسة، أما إن صنعها الكافر وحوِّلها مع مواد أخرى إلى صابون، فإنه يجوز للمسلم حينئذ أن يستعملها وتكون طاهرة.
فالقاعدة في الاستعمال والانتفاع هي أن النجاسات لا يحل لمسلمٍ الانتفاع بها استعمالاً أو بيعاً أو شراء أو هبة أو تحويلاً، ولكن إن تحولت ذاتياً إلى مواد جديدة، أو حوَّلها كفار إلى مواد جديدة حلَّت حينئذ، لأنها لم تعد نجاسات، وصار حكمها حكم أي شيء طاهر.
الفصل الرابع
أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة
هناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البر والخلاء، وهناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البيوت والعمران. وقديماً أطلق الفقهاء على هذا الفصل آداب التَّخلِّي، يعنون بذلك أحكام الأفعال التي يُقام بها حين التبوُّل والتَّغوُّط.
أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء
1-
يُسنُّ لمن أراد التبوُّل أو التغوُّط في الخلاء أن ينطلق بعيداً عن أعين الناس خاصة إذا أراد التغوط، بحيث لا يرى عورته أحد، ولا يُسمَع منه صوت، ولا تُشَمُّ منه رائحة، لحديث جابر قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي البرَاز حتى يتغيَّب فلا يُرى» رواه ابن ماجة. ورواه أبو داود ولفظه «انطلق حتى لا يراه أحد» وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن عبد الملك قال فيه البخاري (يُكتب حديثه) . وروى النَّسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد» قال الترمذي (حديث حسن صحيح) .
2-
ويُسن أن يستتر بشيء وأن يطلب مكاناً منخفضاً - وهو ما يسمى لغة بالغائط، إذ الغائط هو المكان المنخفض - بحيث يختفي عن الأنظار. وقد جرى التوسُّع في استعمال لفظة الغائط حتى صارت تطلق على البِراز نفسه، وعلى عملية التبرُّز، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرتاد لبوله مكاناً منخفضاً يتوارى فيه، وكان يتَّخذ لحاجته سِتراً، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال «
…
وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ أو حائشُ نخل» رواه مسلم وابن ماجة والبيهقي وابن حِبَّان. قوله الهدف: أي كل مرتفع من كُومة رمل أو صخر أو جبل. وقوله الحائش: أي مجموعة أشجار متقاربة تستر مَن يقف خلفها. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبرْه فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. قال ابن حجر (إسناده حسن) .
3-
وإذا لم يكن مع المسلم ماء أخذ معه ثلاثة أحجار أو أكثر، إلا أن تكون الأرض ذات حجارة فيأخذ الحجارة منها، ويُغْني عن الأحجار أيُّ صلب طاهر أملس يصلح للإنقاء. أَمَّا أنْ يكون صلباً فلأنَّ المَدَر من التراب مثلاً إذا ابتلَّ تفتت فلم يُزِل النجاسة، وأَمَّا أن يكون طاهراً فواضح، فالنجس لا يصلح للتطهير، وأَمَّا أَنْ يكون أملس صالحاً للإنقاء فلأن الحجارة الخشنة مثلاً لا تصلح لإزالة النجاسة، وربما جرحت الموضع.
قد يُقال بوجوب الاستطباب بالحجارة فحسب دون سواها من الأشياء لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر سواها، ولم يُنقل أنه استعمل غيرها فتكون هي المطلوبة وحدها، فنجيب على ذلك بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنما أنا لكم مثل الوالد أُعلِّمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها ولا يستنج بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة» أخرجه النَّسائي وابن ماجة وابن خُزَيمة والبيهقي. قوله الرِّمَّة: أي العظم البالي، والمراد مطلق العظم. فهذا الحديث استثنى الروث والرِّمَّة من المواد الصالحة للاستجمار، وتخصيصهما بالنهي هو دليل على صلاح ما سواهما، إذ لو كان الأمر بالاستجمار محصوراً بالأحجار فقط لنهى الرسول عليه الصلاة والسلام عما سواها مطلقاً ولم يخصِّص، ولَمَا كان لتخصيص الرَّوث والرِّمَّة بالنهي فائدة.
وبذلك يظهر أن كل ما يصلح لإزالة النجاسة يجوز الاستجمار به كالخشب والورق والخِرق والمعدن، وما ذِكْرُ الحجارة في الأحاديث إلا من باب الأعمِّ الأغلب لا غير. وقد سبق أن بيَّنَّا أن الغاية من الغسل، أيِّ غسلٍ، هي الإنقاء، ونقول هنا إن ثلاثة من الأحجار ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يُقصد بها الإنقاء، فإن تحقَّق الإنقاء بثلاثة أو أكثر أو أقل فقد حصل المطلوب، ولا يجب فيه عدد مخصوص.
4-
ويُسنّ لمن أراد التخلي أن يرتاد المكان الرَّخو حتى لا يصيبه رشاش البولِ للحديث الذي مرَّ سابقاً وفيه «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» ومدلول القول هذا أن من بال في موضع صلب لم يأمن رَشاش البول، فيقع تحت النهي الوارد في الحديث، ولذا وجب أن يبول في مكان رخو ذي تراب ناعم، إلا أن يبول على سطح صلب مائل يبعد عنه الرَّشاش فلا بأس. فالعبرة هي الاستتار والتَّنزُّه من رشاش البول، فهو العلة، فكل ما يحقق الاستتار والتَّنزُّه واجب.
5-
ولا يجوز لمسلم أن يتخلَّى في ظلٍّ يستظلُّ فيه الناس، أو في طريق يسلكها الناس، أو في مكان يجلسون فيه، لأن فيه إضراراً بالناس وهو لا يجوز، وللحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اتَّقوا اللعَّانَيْن، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، أو في ظلهم» رواه مسلم وأحمد. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ
«اتَّقوا اللاعِنَيْن، قالوا: وما اللاعِنان؟» . قال الخطَّابي: المراد باللاعِنَيْن الأمران الجالبان للَّعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه، وذلك أن مَنْ فعلهما لُعن وشُتم، يعني عادة الناس لعنه، فلمَّا صارا سبباً أُسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي. أما إن كان الظِّلُّ لا يصل إليه الناس أو لا يستظلون فيه فلا بأس بالبول فيه.
6-
ويُكره للمسلم أن يتخلى في الحُفَر والشقوق والجُحور، لأنها مساكن كائنات حيَّة أخرى يُؤذيها البول، فتؤذي المتبوِّل مِن ثَمَّ، لما روى قتادة عن عبد الله بن سرجس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يبولنَّ أَحدكم في جُحر، قالوا لقتادة: وما يُكره من البول في الجُحْر؟ قال: يقال إنها مساكن الجن» رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والبيهقي. وصححه ابن خُزَيمة.
7-
يُشرع للمسلم أن يستعمل يده اليسرى لا اليمنى في الاستنجاء والاستجمار لما رُوي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال «قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخِراءَة، فقال: أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القِبلة، ونهى عن الرَّوث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أبو داود والبيهقي. ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولما رُوي عن أبي قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمسَّ الرجل ذَكَره بيمينه» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) .
8-
ويُكره أن يتكلم مع غيره أو مع نفسه بصوت مسموع، لما رُوي عن ابن عمر «أن رجلاً مرَّ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم فلم يرد عليه» رواه مسلم وابن ماجة والنَّسائي وأبو داود والترمذي.
وقد يتساءل أحدهم: لماذا لا يكون حكم الكلام في أثناء التَّغوُّط التحريم وليس الكراهة للحديث الذي رواه أبو سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفَيْن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود وابن ماجة؟ فأجيب: إن هذا الحديث لا يدل على أن المقت واقع على الكلام في أثناء التغوط، وإلا لكان الحديث صالحاً للدلالة على التحريم، وإنما يدل الحديث على أن المقت واقع على كشف العورة للغير والحديث معه وهو على حاله فهذا لا شك حرام، فقد روى ابن حِبَّان الحديث بسياق يفيد هذا المعنى «لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه فإن الله يمقت على ذلك» فالمقت الذي يفيد التحريم واقع على رؤية كل واحد منهما عورة صاحبه، وليس على مجرَّد التحدُّث والكلام.
ويدل على كراهة الكلام أيضاً أن حديث ابن عمر المارَّ رواه أبو داود ثم قال: ورُوي عن ابن عمر وغيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمَّم، ثم ردَّ على الرجل السلام» ورواه أيضاً ابن ماجة. وكذلك الحديث المروي عن المُهاجِر بن قُنفذ «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يردَّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طُهر أو قال: على طهارة» رواه أبو داود وأحمد. فهذان الحديثان يبيِّنان العلَّة من عدم التكلم وهي كراهة ذكر الله بدون طهارة وهذه قرينة صالحة لصرف الحكم إلى الكراهة فحسب، وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء قديماً وحديثاً.
9-
ويُكره أن يستقبل القبلة وأن يستدبرها في أثناء قضاء الحاجة، إلا أن يستتر بشيء فلا بأس، هذا إن كان قضاء الحاجة في الخلاء. أما إن كان ذلك في المراحيض المتَّخَذة في البيوت فلا بأس من الاستقبال والاستدبار، لأن الجدران تستر مَن خلفها. وقد وردت عدة أحاديث تعالج هذا الموضوع، فلْنستعرضها لاستنباط الأحكام منها:
1-
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها» رواه مسلم وأحمد والدارمي.
2-
عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القِبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شَرِّقوا أو غرِّبوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله، قال: نعم» رواه مسلم وأحمد والبخاري وابن ماجة وأبو داود.
3-
عن ابن عمر قال «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته مستقبل الشام مستدبر القِبلة» رواه مسلم والبخاري.
4-
عن أبن عمر قال «
…
فحانت مني التفاتة، فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القِبلة» رواه البيهقي وابن ماجة بسند ليِّن.
5-
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «
…
فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لَبِنَتين مستقبل بيت المقدس لحاجته» رواه ابن حِبَّان والدارقطني والنَّسائي وابن ماجة.
6-
عن عائشة رضي الله عنها قالت «ذُكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القِبلة، فقال: أراهم قد فعلوها، استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه ابن ماجة وأحمد. ورواه الدارقطني وقال (هذا أضبط إسناد) ، وحسَّنه النووي.
7-
عن مروان الأصفر قال «رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبِل القِبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نُهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القِبلة شيء يسترك فلا بأس» رواه أبو داود والبيهقي وابن خُزَيمة. قال ابن جحر (أخرجه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به) .
8-
عن جابر بن عبد الله قال «نهى نبي الله- صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القِبلة ببول فرأيته قبل أن يُقبَض بعام يستقبلها» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وحسَّنه وصحَّحه البخاري وابن خُزَيمة.
9 -
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى الغائط فلْيستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. وقد مرَّ.
الحديث الأول يفيد عموم النهي عن استقبال القِبلة واستدبارها، وكذلك الحديث الثاني والشطر الأول من الحديث الثامن دون تخصصٍ بالفضاء - أي بالخلاء - أو بالعمران. والحديث الثالث والحديث الرابع والحديث الخامس والحديث السادس والشطر الثاني من الحديث الثامن، تفيد كلها استقبال القِبلة أو استدبارها من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، وجاء الحديث الثامن خاصةً بتوقيت الاستقبال بعامٍ قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.
والناظر في هذه النصوص يتوهم للوهلة الأولى أن هناك تعارضاً بينها يستوجب الذهاب بسببه إلى القول بالنَّسخ، فيقول إن أحاديث الاستقبال نسخت أحاديث النهي، لا سيما وأن الحديث الثامن هو المتأخر، والمتأخر ينسخ المتقدم. ولكن حيث أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وحيث أنه لا يُقال بالنسخ إلا عند تعذُّر الجمع، وبالتدقيق في هذه النصوص نجد أن الجمع والتوفيق بينها ممكن، وأن أحاديث النَّهى تُحمل على الفضاء والصحراء، وتبقى أحاديث الاستقبال والاستدبار معمولاً بها في البيوت والعمران. ذلك أن أحاديث الاستقبال والاستدبار تصلح لتخصيص عموم النهى الوارد في عدد من الأحاديث ولا تنسخها، والقول بالتخصيص أولى من القول بالنسخ، يشهد لهذا الفهم أمران اثنان:
أ - إنَّ الأحاديث التي ذكرت الاستقبال والاستدبار واضح فيها بالقرائن أنها في البيوت والعُمران بدلالة «فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم» و «على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس» و «استقبلوا بمقعدتي القِبلة» فهذه النصوص تعالج الاستقبال والاستدبار في البيوت، لأن الكُنُف واللَّبِنات تكون في البيوت والعُمران، وحديث ابن عمر الثالث يفيد المعنى نفسه، إذ يقول ابن عمر «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته» والمعلوم أن بيت حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في وسط بيوت المدينة إلى جوار المسجد، ولا يُتصوَّر أن يرى ابن عمر وهو على ظهر بيت أخته رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يبول أو يتبرَّز، إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً منه في أحد البيوت وليس في الصحراء، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ذهب لحاجته أبعد وتغيَّب حتى لا يُرى.
ب - الحديث السابع نصٌّ صريح في التفريق بين الصَّحراء وبين العمران، فقول ابن عمر «إنما نُهي عن ذلك في الفضاء» وإن كان قولاً لصحابي، إلا أنه يأخذ حكم الرفع بدلالة لفظة (نُهي) ، فهذه اللفظة تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي نهى عن ذلك في الفضاء، ومفهوم النص هذا أن النهي لا يشمل البيوت والعمران، أي بدلالة مفهوم المخالفة. فهذان الأمران يفيدان أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الفضاء، أي في الخلاء وليس في البيوت، وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث الثامن، أي أن جابراً لا بد وأن يكون قد رآه في البيوت وليس في الصحراء، أي يُحمل الحديث العام على الأحاديث المخصِّصة.
بقيت شُبهتان لا بد من التنويه بهما، هما:
أ - من أين جاء القول إن اللَّبِنَات والكُنُف تكون في العمران؟
ب - كيف نفسر قول أبي أيوب الأنصاري «فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله» ؟.