الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال العِزُّ: وقد فضَّل الشافعي تحمُّل الصائم مشقة رائحة الخُلوف على إزالته بالسواك، مستدلاً بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يُوافَق الشافعيُّ على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرُّجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوِتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله عليه الصلاة والسلام «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها وغيرُها أفضلُ منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التَّطهُّر المشروع لأجل الرَّبِّ سبحانه، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شُرع السواك، وليس في الخُلُوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخُلُوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه؟ . وخلص العزُّ إلى القول: والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيصٌ للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارَض بما ذكرنا. وقال ابن حجر العسقلاني (استدلال أصحابنا بحديث خُلُوف فم الصائم على كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائماً فيه نظر) .
والصحيح هو أن استدلال هؤلاء على كراهة الاستياك بعد الزوال للصائم بحديث الخُلُوف هو استدلال لا يصلح لتخصيص الأحاديث الحاثَّة على استحباب السواك على العموم لأن حديث الخُلُوف هو في موضوع مغاير لموضوع أحاديث الاستياك، فلا يصلح مخصِّصاً. وممن ذهب إلى عدم كراهة الاستياك بعد الزوال إبراهيم النخعي وابن سيرين وعروة ومالك بن أنس وأصحاب الرأي، ورُوي عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.
قصُّ الشَّارب
وردت في قص الشَّارب الأحاديث التالية:
1-
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خالفوا المشركين، وَفِّروا اللحى وأَحفُوا الشَّوارب» رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أَحفوا الشوارب وأَوفُوا اللحى» .
2-
عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والنَّسائي. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3-
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جُزُّوا الشَّوارب وأَرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد.
4-
عن أنس رضي الله عنه قال «وُقِّتَ لنا في قصِّ الشَّارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة» رواه مسلم وابن ماجة والترمذي وأحمد.
5-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أَعْفُوا اللحى، وخُذوا الشَّوارب، وغيِّروا شيبكم ولا تشبَّهوا باليهود والنصارى» رواه أحمد وسنده حسن.
وقد ذهب الفقهاء في تفسير ألفاظ الأحاديث هذه ودلالاتها مذاهب شتى، فقال النووي (المختار أنه يقُص حتى يبدو طرف الشَّفة ولا يُحفيه من أصله) وفسَّر رواية «أَحفُوا الشوارب» بأنها تعني أَحفُوا ما طال عن الشَّفتين. وتعقَّبه الشَّوكاني فقال (الإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه أَحفوا ما طال عن الشفتين، بل الإحفاء الاستئصال كما في الصِّحاح والقاموس والكشَّاف وسائر كتب اللغة) . وقال مالك (يُؤخذ من الشَّارب حتى تبدو أطراف الشَّفة) وذهب إلى منع الحلق والاستئصال، بل كان يرى تأديب من حلق الشارب، ورُوي عنه أنه قال: إحفاء الشارب مُثْلَة. وذهب أبو حنيفة وتلاميذه زُفَر وأبو يوسف ومحمد إلى أن الإحفاء أفضل من التقصير. وإلى قولهم ذهب المُزَني والربيع من الشافعيين، ورُوي عن أحمد أنه كان يُحفي شاربه إحفاءً شديداً، ويُفتي بجواز الإحفاء والقص، وبالتخيير بينهما. وممن ذهب إلى الإحفاء من الصحابة عبد الله بن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد ورافع بن خديج.
وبالرجوع إلى ألفاظ الأحاديث والتدقيق فيها يتبين أنها في مجملها تفيد التَّقصير الذي يتحقق فيه قطع ما يصل إلى الشَّفة والفم، وأن هذه الألفاظ لا تخرج عن هذا المعنى، فالقصُّ والأخذ من الشارب والإحفاء والجزُّ كلها تؤدِّي معاً هذا المعنى، ولا يخرج عنه إلا الحلق، وإلا التطويل بحيث يتهدَّل الشارب على الشَّفة والفم. والدليل على هذا الاستثناء الحديث الرابع «وُقِّت لنا في قصِّ الشارب
…
ألَاّ نترك أكثر من أربعين ليلة» فهذا التوقيت للقصِّ بأربعين ليلة يدل على عدم الحلق وعدم التطويل، أما كيف؟ فذلك أن من يترك شاربه أربعين ليلة دون قصٍّ لا شك سيطول بحيث يتنافى مع القول بحلق الشارب، إذ لو كان الحلق هو المطلوب لكان التوقيت لا يتعدَّى الأسبوع، ثم إن التوقيت بأربعين ليلة يتنافى أيضاً مع القول بالتطويل إلى درجة التَّهدُّل على الشَّفة والفم، فالحكم المستنبط من مجمل النصوص هو التقصير وليس الحلق ولا التطويل الكثير.
أما حكم التقصير وقصِّ للشارب فهو الندب، وهو سُنَّة مؤكدة، لا أعلم فقيهاً خالف هذا. أما ما جاء في الأحاديث من ألفاظ مثل «ولا تَشَبَّهوا باليهود والنصارى» و «خالفوا المشركين» و «خالفوا المجوس» و «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» فهي لا تدل على الوجوب، وهي لا تخرج عن كونها تفيد تشديداً في طلب هذا المندوب ليس غير، فهذه مثلها مثل ما جاء في الحديث المروي عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. فهذا الحديث طلب مخالفة اليهود والنصارى في صبغ الشعر الأشيب، ولم يقل فقيه إن صبغ الشيب فرض، ولا نُقل القول بالوجوب عن أحد من الصحابة. ومثل ما جاء في الحديث المروي عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خِفافهم» رواه أبو داود. ولم يقل فقيه إن الصلاة في النعال والخفاف واجبة. وقد روى أحمد حديثاً - قال عنه الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة - يجمع ما سبق ويزيد عليه أنقله بتمامه، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لِحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمِّروا وصفِّروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأْتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسرولوا واتَّزِروا، وخالفوا أهل الكتاب، قال، فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخفَّفون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتخفَّفوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصُّون عثانينهم ويُوفِّرون سِبالَهم، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قُصُّوا سِبالَكم ووفِّروا عثانينَكم، وخالفوا أهل الكتاب» . ولا يجهل أحد أن صبغ الشعر بالأحمر