الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إن تيقَّن الحَدَث، أي عدم الوضوء، وشك هل توضأ أم لا، لزمه الوضوء، وهو أيضاً رأي جميع المسلمين، وهذا وما قبله يدخل في القاعدة الشرعية المسمَّاة بقاعدة الاستصحاب، وهي أن الحكم باق على أصله الأول لا يزول بالشك. قال الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه في الأُصول (المراد بالاستصحاب استصحابُ الحال، وقد عرَّفه علماء الأصول بأنه عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول، أي هو ثبوتُ أمرٍ في الزمن الحاضر بناء على ثبوته فيما مضى، فكل أمر ثبت وجوده ثم طرأ الشك في عدمه فالأصل بقاؤه، والأمر الذي عُلم عدمه ثم طرأ الشك على وجوده فالأصل استمراره في حال العدم) وقال ابن المبارك: إذا شك في الحَدَث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقاناً يقدر أن يحلف عليه، أما إذا تيقَّن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. وأنا وإن كنت لا أقول بإجماع المسلمين كدليل، إلا أن ذكر إجماع المسلمين في المسائل يفيدها قوة ويزيدنا اطمئناناً.
المسألة الرابعة
ذهب قطاع واسع من العلماء إلى أن زوال العقل بجنون أو إغماء أو سُكْر أو دواء ينقض الوضوء قياساً على النوم، وقالوا إن الذهول عند هذه الأسباب أبلغ من النوم. وأنا لا أرى هذا الرأي لأن القياس في العبادات لا يجوز إلا إن وجدت علَّة في النص، ولا علَّة في نقض النوم للوضوء فلا قياس. وأما الذين قاسوا فكانوا قد جعلوا نقض النوم للوضوء لعلَّة خروج الريح، فقالوا إن الجنون والإغماء والسُّكْر مظنَّةٌ لخروج الريح تماماً كالنوم وأنا لا أطيل في هذه النقطة، وحسبي أنني لم أجد نصاً ولو ضعيفاً يفيد نقض الإغماء أو زوال العقل للوضوء، وهذه عبادة، والعبادة يقام بها كما وردت، لا نزيد فيها ولا ننقص منها.
المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء
اختلف الأئمة والفقهاء في لمس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا ينقض، على أقوال: فذهب عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر والزُّهري وربيعة والشافعي إلى أن لمس المرأة ينقض الوضوء. وذهب علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبيُّ بن كعب والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وطاووس وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن جرير الطبري إلى أنه غير ناقض. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر الذَّكَر وإن لم يُمْذٍ. وذهب مالك وأحمد وإسحق بن راهُويه إلى أن اللمس بشهوة ناقض. وحتى نتبين وجه الحق في هذه المسألة ونقف على الرأي الراجح نستعرض الأدلة كلها:
1-
قوله تعالى {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلم تجِدُوا ماءً فتيَمَّمُوا} وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وقُريء {أو لَمَسْتُم} وهي قراءة حمزة والكِسائي.
2-
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله ما تقول في رجلٍ لقي امرأةً لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية {أَقِم الصَّلاةَ طَرَفيِ النَّهارِ وزُلَفاً من الليلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذهبنَ السَّيِّئاتِ} الآية، قال: فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلٍّ، قال معاذ فقلت: يا رسول الله أَلَه خاصةً أم للمؤمنين عامةً؟ قال: بل للمؤمنين عامةً» رواه أحمد والترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم.
3-
عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عُروة: قلت لها: مَن هي إلا أنتِ؟ فضحكت» رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني.
4-
عن عائشة قالت «إنْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيُصلِّي، وإني لَمعترضةٌ بين يديه اعتراضَ الجنازة، حتى إذا أراد أن يُوتِر مسَّني برجله» رواه النَّسائي وأحمد.
5-
عن عائشة قالت «فقدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك» رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنَّسائي وأحمد.
6-
عن عائشة قالت «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة» رواه مسلم والبخاري. ورواه ابن أبي شيبة بلفظ «كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد نضع أيدينا معاً» ورواه النَّسائي بلفظ «
…
من إناء واحد نغترف منه جميعاً» وله أيضاً بلفظ «قالت لقد رأيتُني أُنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء أغتسل أنا وهو منه» ورواه ابن حِبّان بلفظ «إني كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه وتلتقي» .
7-
عن أم سلمة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّلها وهو صائم ثم لا يُفطر ولا يُحدث وضوءاً» رواه ابن جرير الطبري وصحَّحه.
8-
عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قِبْلته، فإذا سجد غمزني فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي.
الحديث الثاني منقطع لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، قال الترمذي (هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ابن جبل) فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، أعني به الحديث الذي فيه زيادةُ الأمر بالوضوء والصلاة. والحديث الثالث ضعَّفه ناسٌ وصحَّحه آخرون، والحق أن هذا الحديث قد ضُعِّف لأنهم اعتبروا عُروة المذكور هو عُروة المُزَني كما جاء في سنن أبي داود، والمُزَني مجهول، إلا أن أحمد وابن ماجة والدارقطني قد صرَّحوا بأن عُروة هذا هو عُروة بن الزبير، فانتفى بذلك تضعيفهم لهذا الحديث، وأما تضعيف بعضهم للحديث بأن حبيباً لم يرو عن عُروة فغير مسلَّم به، لأن أبا داود قد أورد حديثاً صحيحاً رواه حبيب عن عروة، وهكذا يتضح أن تضعيف هذا الحديث غير صحيح، فيُقبَل ويصح الاستدلال به. والحديث الرابع قال الحافظ ابن حجر فيه (إسناده صحيح) والحديث الخامس صحيح هو الآخر. والأحاديث الثلاثة الأخيرة صحيحة. وبذلك يُطرح الحديث الثاني فحسب، وتبقى الأحاديث الأخرى.
نبدأ بالنص الأول لأنه الأصل، قوله سبحانه وتعالى {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا} جاء في الآية 34 من سورة النساء، وفي الآية 6 من سورة المائدة. آية النساء هي {يا أيُّها الذين آمنوا لا تَقْرَبوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارى حتى تَعْلَمُوا ما تقولون ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا وإنْ كُنتم مَرضَى أَو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ منكُمْ مِن الغائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُم وأَيْدِيْكُمْ إنَّ الله كان عَفُوَّاً غَفُوراً} وآية المائدة هي {يا أيُّها الذين آمنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيدِيَكُم إلى المرافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرجُلَكُم إلى الكَعْبَينِ وإنْ كُنْتُم جُنُباً فاطَّهَّروا وإنْ كُنتم مَرضَى أَو على سَفَرٍ أَو جاء أَحَدٌ مِنْكُم مِن الغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُم منه ما يرِيدُ اللهُ ليجْعَلَ عليكُمْ مِن حَرَجٍ ولكنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم ولِيُتِمَّ نِعمتَهُ عليكُم لعلَّكُمْ تَشْكُرُون} .
آية النساء خطابٌ للمؤمنين أن لا يقربوا مواضع الصلاة ـ أي المساجد ـ وهم سُكارى وأن لا يقربوها إذا كانوا جُنُباً إلا مروراً فقط حتى يغتسلوا من الجنابة. هذا هو صدر الآية، وأما نصفها الثاني فإنه أراد أن يبين للمسلمين حكم التيمُّمِ عند فقْد الماء، فأتى بالحالات التي يكون فيها المسلم محتاجاً إلى التيمُّم عند فَقْد الماء، فقال النِّصفُ الثاني {وإن كنتم مرضى} أي حالة المرض {أو على سفرٍ} أي حالة السَّفر، {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي حالة الحَدَث الأصغر {أو لامستم النِّساء} أي حالة
…
، فلم تجدوا ماء فتيمَّموا. فالناظر في سياق الآية يجد أن الفراغ عقب {أو لامستم النساء} لا تناسبه إلا حالةُ الحَدَثِ الأكبر، ولا تناسبه حالة الحَدَثِ الأصغر، فبوضعِ حالة الحَدَثِ الأكبر في الفراغ تكتمل جميع حالات التيمم عند فَقْدِ الماء، ولكن إن وضعنا حالة الحَدَثِ الأصغر فإنَّ الحالات لا تكتمل، ويكون في الآية تكرارٌ لا يفيد معنى جديداً. ولذا فإن الأصل والأكرم للتعبير القرآني أن يُؤوَّل بما يفيد الكمال والتمام. فالصحيح إذن أن نقول إن الفراغ ينبغي ملؤُه بحالة الحَدَثِ الأكبر، أو حالة الجنابة هنا، وإذا كان ذلك كذلك فإنَّ لامستم تُفسَّر بالجماع، ولا تُفسَّر بمسِّ بدن المرأة.
أجل إن تركيب الآية وأسلوبها يقتضيان أن يكون المراد بالملامسة الجماع، فإنه سبحانه عدَّ من مقتضيات التيمُّمِ المجيءَ من الغائط تنبيهاً على الحَدَث الأصغر، وعدَّ الملامسة تنبيهاً على الحَدَثِ الأكبر، وهو مقابلٌ لقوله تعالى في الأمر بالغُسل بالماء {ولا جُنُباً إلا عابري سبيلٍ حتى تغتسلوا} ولو حُملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء في رفع الحدث الأكبر.
وآية المائدة تزيد الموضوع وضوحاً وتقوِّي هذا التفسير لآية النساء، فصدر الآية طلب الوضوء وبيَّنه، ثم طلب إزالة الجنابة، أي طلب رفع الحدثين الأصغر والأكبر، وذلك باستعمال الماء، ثم جاء الشطر الثاني للآية ليبيِّن حكم التيمُّم عند فقْدِ الماء، وليُستوفَى البحثُ كله، فقالت الآية {وإن كنتم مرضى} أي حالة المرض {أو على سفرٍ} أي حالة السفر {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي حالة الحَدَث الأصغر {أو لامستم النساء} أي حالة الجنابة أو الحَدَث الأكبر {فلم تجدوا ماء فتيمَّموا} أي تيمَّموا لحالتي الحَدَث الأكبر والحَدَث الأصغر، وهما الحالتان المذكورتان في صدر الآية واستُعْمِل فيهما الماء وأضاف إليهما العُذرين المبيحين للتيمُّمِ وهما حالة المرض وحالة السَّفر. وبذلك تكون الآية تامة أتت على جميع الحالات والأعذار للتيمُّم، ويُستبعد بهذا التفسير النقصُ في ذكر الحالات فيما لو فُسِّرت {أو لامستم} بالمسِّ باليد.
وكان يمكن تصوُّرُ آيةٍ من الآيتين تنقُص فيها حالاتُ التيمُّم، أما وأنَّ الآيتين جاءتا لبيان حكم الوضوء والجنابة والتيمُّم، وذكرتا الحالات التي يُستعمل فيها التراب بدل الماء، وكانتا على نسقٍ واحدٍ، فإن النقص في الآيتين للحالات مستبعَدٌ تماماً. وعليه فإن لامستم لا يناسبها إلا تفسيرُها بالجماع. وممن ذهب إلى هذا التفسير علي بن أبي طالب وأبيُّ بن كعب وعبد الله بن عباس وهم أعلم الصحابة بتأويل كتاب الله، وفسَّرها كذلك أبوحنيفة ومجاهد وطاووس والحسن وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والطبري والشوكاني وهم من أشهر المفسرين لكتاب الله من السلف والخلف ومن أشهر الفقهاء. وهذا التفسير فضلاً عن أنه تفسيرٌ فقهي فهو أيضاً تفسير تحتمله اللغة وورد مثله في عدد من آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى {ثم طلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهن، وقوله {وإنْ طلَّقْتُموهنَّ مِن قَبْلِ أِنْ تَمَسُّوهُن} أي تجامعوهن، وقوله {ولم يَمْسَسْني بَشرٌ} أي لم يجامعْني، ومثلها أو قريبٌ منها قوله تعالى {فالآن باشروهن} أي جامعوهُنَّ. وورد في الحديث عن المرأة التي تزني «لا تردُّ يدَ لامس» كناية عن الجماع بالسفاح. فالقرآن الكريم والسنة النبوية ذكرا اللمس والمسَّ والمباشرة بمعنى الجماع، فهي لغةٌ وهي شرعٌ وهي فقهٌ، وقد جاءت الآيتان الكريمتان بقراءتين {لامَسْتم} و {لمسْتم} وفرَّق محمد بن زيد بينهما في المعنى فقال: الأَولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبَّلتم أو نظيره لأن لكل واحد منهما فعلاً. وقال: ولمستم بمعنى غشِيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعلٌ. فصارت الآيتان تحتملان المعنيين لغة.
وما دام اللمس يحتمل الجماع لغة، كما يحتمل المس باليد لغة أيضاً، فإن القرينة هي التي تحدِّد أيَّاً من المعنيين لهذه اللفظة، وما ذكرناه من سياق الآية الفقهي هو قرينة على أن المعنى المراد من لامستم هو الجماع، وهذا ما تستريح له النفوس. أما تفسيرها بالمس باليد فهو تفسير لغوي دون نظرٍ في القرينة، ودون إنعامِ نظرٍ في سياق الآيتين الكريمتين. والملفت أن الذين فسَّروها بالمس باليد ساقوا أحاديث تثبت أن اللمس يعني المس باليد لغة، وكأن هذه قضية مختلَفٌ عليها يراد الإتيان بالبراهين عليها، فنحن نوافقهم على أن اللمس يعني المسَّ باليد لغة دون حاجة للإتيان بالبراهين عليه، وإنما الواجب عليهم أن يأتوا بالقرائن على أن الآية عنت هذا المعنى دون المعنى الآخر. إذن الآية تفيد الجماع، ولكن حتى لا نغلق بسرعة باب النقاش لننظر في الأحاديث التي تصلح لبيان وتفسير هذه اللفظة القرآنية، وتصلح من ثم كقرائن على المعنى المقصود.
استدلوا بالحديث الثاني على أن اللمس ينقض الوضوء، فقالوا إن الرجل في الحديث لمس المرأة وأوشك أن يجامعها إلا أنه لم يفعل، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، وهذا عندهم دليل على أن اللمس ينقض الوضوء. فنرد عليهم بأن هذا الحديث منقطع وضعيف كما أسلفنا فلا يصلح للاستدلال، وأن أصل القصة في الصحيحين، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُرو عنه أنه أمر الرجل بالوضوء ولا حتى بالصلاة، فالحادثة واحدة رُويت في الصحاح بدون طلب الوضوء، ورُويت في الحديث الضعيف بالأمر بالوضوء، فتُؤخذ الأحاديث الصحيحة ويُردُّ الحديث الضعيف، فهذا الحديث إذن لا يُسعفهم.
واستدلوا أيضاً بقول عمر رضي الله عنه «إن القبلة من اللمس فتوضأ منها» وبأن ابن عمر «كان يرى القُبلة من اللمس، ويأمر فيها بالوضوء» وبقول ابن مسعود «القُبلة من اللمس وفيها الوضوء» روى هذه الآثار الثلاثة الدارقطني والبيهقي.
فنقول إن هذه الآثار هي أقوال صحابة، وأقوال الصحابة ليست أدلة، وواقعها أنها أفهام لهم واجتهادات نحن غير ملزَمين به، سيما إذا علمنا أن عدداً من الصحابة والتابعين قالوا بخلاف ذلك، منهم حبر هذه الأمَّة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، فعن سعيد بن جبير قال «تذاكرنا اللمس فقال أُناس من الموالي: ليس من الجماع، وقال أُناس من العرب: هي من الجماع، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: مع أيِّهم كنتَ؟ قلت: مع الموالي، قال: غُلبت الموالي، إن اللمس والمباشرة من الجماع ولكن الله عز وجل يَكْني ما شاء بما شاء» رواه البيهقي. ورواه عبد الرزاق ولفظه «
…
أخطأ الموليان وأصاب العربي، وهو الجماع ولكن الله يعفُّ ويَكْنِي» . فهذه تعادل تلك، وهي كلها أفهامٌ واجتهادات وليست أدلة ونصوصاً صالحة للبيان والقرائن. والأدلة هي القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
…
وقد نظرنا في القرآن الكريم، وننظر الآن في الأحاديث الشريفة المتبقية. الحديث الثالث «قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» والحديث الرابع «إذا أراد أن يوتِر مسَّني برجله» والحديث الخامس «فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان» والحديث السادس «مِن إناءٍ واحد تختلف أيدينا فيه» ، «من أناء واحد نضع أيدينا معاً» ، «من إناء واحد نغترف منه جميعاً» ، «لقد رأيتُني أُنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء» ، «من إناء واحد تختلف أيدينا فيه وتلتقي» والحديث السابع «كان يُقبِّلها وهو صائم، ثم لا يُفطر ولا يُحدث وضوءاً» والحديث الثامن «فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» .