الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثاً» رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم، وصححه ابن القطان.
ومع التفريق بين الاستنشاق والاستنثار نقول: إن السُّنَّة قد مضت في الاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال، لحديث عليٍّ الأول وفيه «فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى» وهذا اللفظ يدل على أنه تمضمض بيده اليمنى ونثر بيده اليسرى. والسُّنَّة في الاستنشاق الإبلاغ فيه إلا أن يكون المتوضيء صائماً، فيُسَنُّ له عدم الإبلاغ، لما روى لقيط ابن صبرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «
…
وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حجر.
7- غسل الوجه:
هو الفرض الثاني من فروض الوضوء بعد النية. دليله الآية {فاغْسِلُوا وجوهَكم} والوجه الواجب غسله هو ما انحدر من منابت شعر الرأس إلى ما انتهى في أسفل الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً مما يظهر دون ما يخفى، فيخرج ما غطاه شعرُ اللحية والشاربان الكثيفان وباطن الفم والأنف، ولا اعتبار للأصلع أو الأقرع أو الأفرع. فالأصلع - وهو من انحسر شعر رأسه عن مُقدَّم رأسه -، والأقرع - وهو من سقط شعر رأسه لآفةٍ ومرض - والأفرع - وهو من نزل شعر رأسه على جبينه -، كلُّ هؤلاء يغسلون الوجه على غالب الناس. فالأصلع والأقرع يغسلان من منبت شعر الرأس قبل سقوطه أو انحساره، والأفرع يغسل الشعر النابت على الجبهة. هذا من حيث الوجوبُ والإجزاءُ، إلا أنَّ المستحب غسل الشعر المجاور للجبهة لدلالة حديث أبي هريرة المار الذي رواه مسلم وجاء فيه
«
…
أنتم الغُرُّ المُحَجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطِل غُرَّته وتحجيله» والمعلوم أن الغُرَّة هي شعر الرأس المجاور للجبهة، وأن إطالة الغُرَّة في الوضوء إنما تكون بغسل شيء من مُقَدَّم الرأس أو ما يجاوز الوجه زائداً على الجزء الذي يجب غسله، فكون غسل شيء يزيد على الوجه من أعلاه يزيد في طول الغرَّة فهو داخل تحت طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «فلْيُطِل غُرَّته» وحيث أن الطلب هو فيما هو خارج عن محل الفرض فهو دال على أن زيادة الغسل وإطالة الغُرَّة مندوبة.
ومن السُنَّة تعاهدُ المأْقين، لما رُوي عن أبي أُمامة أنَّه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في الحديث «
…
وكان يمسح المأْقين من العين
…
» رواه أحمد وابن ماجة. وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا الحديث ولم يرمه بضعف ولا علَّة، ورواه أيضاً الطبراني في المعجم الكبير وإسناده حسن، ذكر ذلك الهيثمي. والمأقان - مثنى مُؤق العين - هو مجرى الدمع منها أو مُقدَّمها أو مُؤخَّرها. قاله صاحب القاموس، والجمع آماق. وقال الأزهري: أجمع أهل اللغة على أن المُؤق والمأق مؤخر العين الذي يلي الأنف. فيُندب للمسلم أن ينظف أطراف عينيه حين الوضوء. ولا يجب ولا حتى يندب مسح أو غسل الأذنين مع غسل الوجه خلافاً لمن قال ذلك، وحجة هؤلاء الحديث الذي رواه ابن عباس أن علياً رضي الله عنه قال «يا ابن عباس ألا أتوضأ لك وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى فداك أبي وأمي، قال: فوضع له إناء فغسل يديه ثم مضمض واستنشق واستنثر، ثم أخذ بيديه فصكَّ بهما وجهه، وأَلْقَمَ إبهاميه ما أقبل من أذنيه، قال: ثم عاد في مثل ذلك ثلاثاً، ثم أخذ كفاً من ماء بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته، ثم أرسلها تسيل على وجهه، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم يده الأخرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه وأذنيه من ظهورهما، ثم أخذ بكفيه من الماء فصكَّ بهما على قدميه وفيهما النعل ثم قلبها بها، ثم على الرِّجل الأخرى مثل ذلك، قال: فقلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين. قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين» رواه أحمد. ورواه أبو داود بمعناه، ورواه ابن حِبَّان مختصراً. فهذا الحديث قال عنه المنذري: في هذا الحديث مقال. وقال الترمذي (سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عنه فضعَّفه وقال: ما أدري ما هذا) فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. ثم إن متن هذا الحديث مخالف لما جاء في الأحاديث الصحيحة، فكون
الحديث يذكر أن علياً غسل وجهه ثلاثاً ثم زاد بأن أخذ كفاً بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته، ثم أرسلها تسيل على وجهه - وهذه غسلة رابعة - فهذا يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة من عدم الزيادة على ثلاث، ويخالف ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم» رواه النَّسائي وابن ماجة وأحمد. ورواه ابن خُزَيمة، وصححه هو وابن حجر. وما جاء في الحديث من مسح النعل فهذا شاذ، قال ابن حجر (إن رواية المسح على النعل شاذة لأنها من طريق هشام بن سعد ولا يحتج بما تفرد به، وأبو داود لم يروها من طريقه، ولكن رواها من طريق محمد بن إسحق عنعنةً وفيه مقال مشهور إذا عنعن) فالحديث لا يصلح للاحتجاج مطلقاً. وعليه فلا يصح القول بغسل الأذنين مع الوجه.
بقيت اللحيةُ وأحكامُها في الوضوء: اللحية إمَّا كثيفة تستر البشرة وإما خفيفة تَظْهَر البشرةُ من خلالها، وهي إما طويلة تزيد على الذقن وإما قصيرة تظل ضمن حدود الوجه، ولهذه الحالات الأحكام التالية:
1ـ إن كانت اللحية كثيفة تستر البشرة فإنها تغسل ولا يغسل ما تحتها، لأن كثافة الشَّعر تقوم مقام الجزء المستور من الوجه فتأخذ حكمه، والدليل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه من حديث أخرجه البخاري - وقد مرَّ في بحث المضمضة - وجاء فيه «
…
ثم أخذ غَرفةً من ماء فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه
…
» . ووجه الدلالة لهذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام وكانت لحيته كَثَّةً - قال القاضي عياض: ورد ذلك في أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة. ورُوي عن جابر بن سمرة وصفُه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «
…
وكان كثير شعر اللحية
…
» رواه مسلم. وعن علي قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير ضخم الرأس واللحية
…
» رواه أحمد. وكثيرٌ غير ذلك ـ قد غسل وجهه ومن ثم لحيته العظيمة الكثة بغَرفة يد واحدة، مما يجعلنا لا نتصور أن يكون قد استوعب بها غسل الوجه وظاهر اللحية وباطنها، ولا بد من أن يكون الغسل للوجه وظاهر اللحية فحسب. وممن قال بذلك أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري والليث. وخالفهم عطاء وسعيد بن جبير وأبو ثور وإسحق وأهل الظاهر. وحجة هؤلاء هو ما جاء من تخليل اللحية في الأحاديث مثل: عن عثمان رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) وحسنه البخاري. ومثل: عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل» رواه أبو داود. وعن هؤلاء أن هذين الحديثين يفيدان وجوب تخليل اللحية، وهذا غير صحيح، ذلك أن الله سبحانه لم يأمر به في كتابه حين أمر بواجبات الوضوء، ثم إن الأحاديث التي ذكرت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تذكره، ولو كان واجباً لذُكر هنا وهناك، وغاية ما في الحديثين
أنهما يفيدان استحباب التخليل فحسب.
قال الشوكاني (والإنصاف أن أحاديث الباب ـ أي أحاديث التخليل - بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لأنها أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم «هكذا أمرني ربي» لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول، هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها لا شك في ذلك، لأن كل واحد منهما من التَّقوُّل على الله بما لم يقل، ولا شك أن الغَرفة الواحدة لا تكفي كثَّ اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان مكابرة منه. نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته، لكن بدون مجاراةٍ على الحكم بالوجوب) .
وأُلفت النظر إلى أن قوله (والفرائض لا تثبت إلا بيقين) لا يعني يقين ثبوت الدليل، وإنما يقين دلالة النص. وممن رُوي عنهم أنهم لم يكونوا يخللون لحاهم إبراهيم النخعي والحسن البصري ومحمد بن الحنفية وأبو العالية والشعبي والقاسم وابن أبي ليلى. وأما ما رُوي من أن ابن عباس وابن عمر وأنساً وعلياً وسعيد بن جبير وأبا قُلابة والضحاك وابن سيرين كانوا يخللون لحاهم، فإن ذلك يُحمل على الأخذ بالاستحباب، وهذا مشهور عن هؤلاء وأمثالهم، فضلا عن أن أفعالهم ليست أدلة.
2-
أما إن كانت اللحية خفيفة بحيث تَظهر البشرةُ من خلالها فإنها في هذه الحالة تُغسل ويُغسل ما تحتها من البشرة، لأن اللحية في هذه الحالة لم تقم مقام البشرة في المواجهة.