المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

6- إذا تنجس ماء وأُريد تطهيرُه وإزالةُ نجاسته نُظر، فإن - الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة - جـ ١

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولأحكام المياه

- ‌الماء الطَّهور

- ‌الماءُ النَّجِس

- ‌ الماء المستعمَل

- ‌ فضل الماء في حديثين

- ‌تطبيقاتٌ على الماء

- ‌سُؤْر الحيوان

- ‌الفصل الثاني أعيانُ النجاسات

- ‌ البول

- ‌النجاساتُ من الإنسان

- ‌الغائط:

- ‌ المَذِي:

- ‌ الوَدِي:

- ‌النجاساتُ من الحيوان

- ‌2. الخنزير:

- ‌3. الميتة:

- ‌النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان

- ‌الدم المسفوح

- ‌النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان

- ‌الخمر:

- ‌شُبُهات

- ‌أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

- ‌ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة:

- ‌ثالثاً: نجاسة الدم:

- ‌رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس:

- ‌أ - النبيذ:

- ‌ب - لحوم الحُمُر الأهلية:

- ‌ج - الصَّديد:

- ‌هـ- القيء:

- ‌الفصل الثالث أحكامُ النجاسة

- ‌تمهيد

- ‌حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس

- ‌هل يجب العدد في إزالة النجاسة

- ‌ما يُستعمل في إزالة النَّجِس

- ‌تطهيرُ المتنجس

- ‌الاستحالة

- ‌الفصل الرابعأحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء

- ‌أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران

- ‌الفصل الخامسسُنَنُ الفِطرة

- ‌السواكُ

- ‌قصُّ الشَّارب

- ‌إعفاءُ اللحية

- ‌نتفُ الإبط

- ‌قصُّ الأظفار

- ‌غسل البراجم

- ‌حلقُ العانة

- ‌الخِتان

- ‌الفصل السادسالسُّننُ المُلحقة بالفِطرة

- ‌ أحكام الشَعَر

- ‌1. إكرام الشعر

- ‌2. نتف الشعر الأبيض:

- ‌3. صبغ الشعر الأبيض:

- ‌4. وصل الشعر:

- ‌5. نفش الشعر:

- ‌6. فرق الشَّعَر:

- ‌الفصل السابعالأغسالُ المستحبَّة بالنصوص

- ‌غسلُ يوم الجمعة

- ‌غُسل الإحرام ودخول مكة

- ‌غُسل مَن أُغمي عليه

- ‌غُسل من غسَّل ميتاً

- ‌الفصل الثامنالغُسل

- ‌صفة الغُسل

- ‌الغُسل المُجْزئ

- ‌الغُسل الأكمل

- ‌تفصيلات تتعلق بالغسل

- ‌الفصل التاسعمُوجباتُ الغُسل

- ‌أولاً: الجنابة

- ‌أحكامُ الجُنُب

- ‌ثانياً: إسلام الكافر

- ‌ثالثاً: الموت

- ‌رابعاً: الحيض

- ‌أحكام الحائض

- ‌الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب

- ‌دمُ الحيض ومدَّته

- ‌المستحاضة وأحكامها

- ‌خامساً: النفاس والولادة

- ‌الفصل العاشرالوضوء

- ‌تعريف الوضوء ومشروعيته

- ‌فضلُ الوضوء

- ‌صفةُ الوضوء

- ‌1ـ النِّيَّة:

- ‌2ـ التسمية:

- ‌3 ـ غسل الكفين:

- ‌4 ـ المضمضة:

- ‌5- التَّسوُّك:

- ‌6- الاستنشاق والاستنثار:

- ‌7- غسل الوجه:

- ‌8- غسل اليدين إلى المرفقين:

- ‌9- مسح الرأس:

- ‌10- مسح الأذنين:

- ‌11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين:

- ‌12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً:

- ‌13- الترتيب:

- ‌14- التيمُّن:

- ‌15- الموالاة:

- ‌الدعاءُ عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌الصلاة ركعتين عقب الفراغ من الوضوء:

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌ما يُستحبُّ له الوضوء

- ‌ما يُلبس على الرأس

- ‌ما يُعْصَب على الجُرح والجَبيرة

- ‌ما يُلبس في القدم

- ‌1) الخارج من السبيلين

- ‌2) خروج الدم

- ‌3) القَيء

- ‌4) مسُّ الفرْج

- ‌5) النوم

- ‌6) أكل لحم الجَزور

- ‌مسائل

- ‌المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء

الفصل: 6- إذا تنجس ماء وأُريد تطهيرُه وإزالةُ نجاسته نُظر، فإن

6-

إذا تنجس ماء وأُريد تطهيرُه وإزالةُ نجاسته نُظر، فإن كان دون قُلَّتين، أي دون برميل، نُظر، فإن كان غير متغيرٍ بالنجاسة فيكفي أن يضاف إليه ماء طاهر حتى يبلغ قُلَّتين، أي برميلاً، فيصبح الماء طاهراً كله، وإن كان الماء متغيراً بالنجاسة صب عليه الماء حتى يبلغ قُلَّتين، أي برميلاً، فإن زال التغير فقد زالت النجاسة، وإن لم يزُل التغير يُزَد الماء حتى يزول التغير دون اعتبارٍ للكمية المضافة. أما إن كان الماء قُلَّتين، أي برميلاً فأكثر، فإنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا أن تغيِّره، فإن لم يتغير بقي على أصله من الطَّهارة، وإن هو تغير بالنجاسة أُضيف إليه ماء حتى يزول التغيُّر دون اعتبارٍ للكمية المضافة. ولا فرق في كل ذلك بين أن يُصَبَّ الماء النجس على الماء الطاهر أو الطاهرُ على النجس، كما لا فرق بين الصَّبِّ دفعة واحدة وبين الصَّبِّ بالتدريج، فكل ذلك سواء.

‌سُؤْر الحيوان

السُّؤْر - بالهمز - هو ما يبقى في الإناء بعد شرب الحيوان، أو أكله منه. قال النووي (مُرادُ الفقهاء بقولهم - سُؤر الحيوان طاهر أو نجس - لعابُه، ورطوبةُ فمه) . وقال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن سُؤر ما أُكل لحمه يجوز شربُه والوضوءُ به) . وهذا يعني أن سُؤر الإبل والأغنام والأبقار والغزلان وأمثالها طاهر يجوز استعماله في سائر استعمالات الماء. وافترقوا فيما سوى ذلك على ثلاثة آراء:

أ- ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحق بن راهُويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة أسآر السباع من الحيوان والجوارح من الطير والحُمُر الأهلية والبغال، واستدلوا على رأيهم بالأدلة الآتية:

ص: 57

1-

عن عبد الله بن عمر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. فقالوا: لولا أن سُؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القول، لأن السُّؤر لو كان طاهراً لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» معنى ولكان عبثاً، فدل قوله هذا على نجاسة سُؤر السباع والدواب.

2-

عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «السِّنَّوْر سَبُع» رواه البيهقي وأحمد والدارقطني. واستدلوا به على نجاسة الهرة، لأن الهرة كما جاء في الحديث سبع، والسبع كما جاء في حديث القُلَّتين سُؤره نجس.

3-

عن أنس قال «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، أصبنا حُمُراً خارجاً من القرية فطبخنا منها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان، فأُكْفِئت القدور بما فيها، وإنها لتفور بما فيها» رواه مسلم والبخاري. فاستدلوا بقوله عن الحمير وهي هنا الأهلية «فإنها رجس» على أن الحمير نجسة.

4-

وقالوا إن السباع حيوانات حُرِّم أكلها، مثلها مثل الكلاب، ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها، ولا يتحقق وجود مطهِّرها.

ب- وذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة أسآر جميع الحيوانات والطيور دون استثناء حتى الكلب والخنزير. وذهب الزُّهري إلى كراهة سُؤر الكلب وقال: يتوضأ به إذا لم يجد غيره. وذهب ابن الماجَشُون إلى كراهة سُؤره وقال: يتوضأ به ويتيمَّم. واستدلوا على رأيهم بالأدلة التالية:

ص: 58

1-

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني. ورواه الطبراني من طريق سهل. والبيهقي من طريق أبي سعيد.

2-

عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سُئل: أنتوضأ بما أفضلت الحُمُرُ؟ قال: نعم وبما أفضلت السباعُ كلها» رواه الشافعي والبيهقي.

3-

عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب «أن عمر بن الخطاب خرج في رَكْب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنَّا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا» رواه مالك والبيهقي والدارقطني.

4-

عن ابن عمر قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسار ليلاً، فمرُّوا على رجل جالس عند مِقْراةٍ له - وهو الحوض الذي يجتمع فيه الماء - فقال عمر: يا صاحب المِقراة أَوَلَغت السباعُ الليلة في مِقْراتك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا صاحب المِقْراةِ لا تخبره، هذا متكلِّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني.

5-

عن كبشة بنت كعب «أن أبا قتادة دخل عليها ثم ذكرت كلمة معناها فسكبت له وَضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات» رواه النَّسائي ومالك وأبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه العُقَيلي والبخاري والدارقطني وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والحاكم.

ص: 59

6-

وعن حديث ولوغ الكلب قالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب تعبُّداً وليس لإزالة النجاسة، وإن الخنزير لم يرد في نجاسته نص، وحيث أنه لا نصَّ في نجاسة أي حيوان، فيبقى الحِل والطهارة على الأصل.

ج - وذهب الشافعي وأحمد وربيعة والحسن البصري وعطاء، ومن الصحابة عمر وعلي إلى طهارة أَسْآر جميع الحيوانات والطيور سوى الكلب والخنزير، إلا أن أحمد كره سُؤر البغل والحمار وقال: إذا لم يجد المسلم غيره يتوضأ به ويتيمَّم. وكره ابن عمر سُؤر الحمار، وكره ابن أبي ليلى سُؤر الهرة، واعتبر ابن المنذر وطاووس سُؤر الهرة نجساً. واستدلوا على رأيهم بالأحاديث الخمسة الأولى التي استشهد بها الفريق الثاني، وفارقوهم في البند السادس. وسيأتي تفصيل ذلك في أثناء مناقشة رأي الفريق الأول ورأي الفريق الثاني بإذن الله. وأبدأ بمناقشة رأي الفريق الأول فأقول:

ص: 60

1-

من استعراض أدلة هذا الفريق يتبين أن ما يصح اعتباره دليلاً هو الحديث الأول فحسب، والمستغرب أن هؤلاء قد رفضوا هذا الحديث حين بحث الماء النجس والماء الطَّهور، واعتبروه ضعيفاً للاضطراب في سنده وفي متنه، وها هم الآن يحتجون به على ما ذهبوا إليه من نجاسة سُؤر السبع والجارح من الطير، وسنغض الطرف عن هذا التناقض الواضح بين الموقفين. هذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما منطوقه فهو أن الماء الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس بحلول النجاسة فيه، وهذا المنطوق لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب، وأما مفهومه فهو أن الماء الذي يقل عن قُلَّتين يتنجس بحلول النجاسة فيه، وهذا المفهوم أيضاً لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب. أما قولهم: لولا أن سؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فنجيبهم بأننا لا نسلِّم لهم بهذا الاستنتاج، إذ هناك أمر آخر أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، هو إعطاء المسلمين قاعدة عامة في المياه تقول إن الماء الكثير الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس، دون أن يذكر إنْ كان سُؤر السباع والدواب نجساً أو لا، ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي يقولونه لبيَّنه.

ومن ناحية أخرى نقول: إن قولهم محتمل وليس قطعياً، والقاعدة الأصولية تقول: مع الاحتمال يسقط الاستدلال. وإذن فإن هذا الحديث ليس دليلاً على نجاسة سؤر السِّباع والدواب، وإنَّ أقصى ما يقال فيه إن فيه شبهة دليل فحسب. والآن لننتقل إلى الأدلة الأخرى.

ص: 61

أما الحديث الثاني فهو لا يفيدهم شيئاً، وغاية ما فيه أن الهرة حكمها حكم السباع، وهذا مسلَّم به، لأن واقع الهرة أنها سبُع، وأنها من الحيوانات المفترسة ذوات الناب، وحكمها حكم السباع سواء بسواء، ولكنهم أفردوه بالاستشهاد ليُقوُّوا رأيهم في نجاسة سُؤر السباع، إلا أن ذلك لا يُلحَظ، إذ لا يفيد هذا الحديث حكماً، لا بالطهارة ولا بالنجاسة، فليس فيه أن سُؤر الهرة نجس ليقيسوا عليه أسآر السباع ويخرجوا بحكم نجاستها، وكل ما فيه أنه ذكر فرداً من أفراد السباع فقط وسكت عن الحكم، فأيَّة دلالة فيه على ما يدَّعون؟! إنْ ثبت أنَّ حكم سُؤر السباع الطهارة انسحب هذا الحكم على سُؤر الهرة، وإن ثبت أن سُؤر السِّباع نجس، انسحب ذلك على سُؤر الهرة، وهذا مسلَّم به بدون هذا الحديث، فكان الأَوْلى بهم عدم الاستشهاد به.

أما الحديث الثالث فهو ليس حجة لهم على دعواهم، فهم يريدون إثبات أن سُؤر الحمير نجس، ولا يتحقق لهم ذلك إلا بطريقتين لا غير: فإما أن يأتوا بنصٍّ يتناول سُؤر الحمير يبين نجاسته، وإما أن يثبتوا أن الحمير نفسها نجسة فيستنبطوا من ذلك نجاسة سُؤرها. هذا هو ما يحتاجون إليه. وبالعودة إلى الحديث لا نجد فيه أياً من الطريقتين، فالحديث ذكر حادثة حصلت مع الصحابة في غزوة خيبر. ولنفسِّر هذا الحديث تفسيراً يزيل اللَّبس تماماً إن شاء الله.

ص: 62

كان المسلمون يستحلُّون أكل لحم الحمير، فكانوا يذبحونها ويطبخونها ويأكلونها لأنها حلال لهم طاهرة عليهم، فحينما نزل حكم التحريم نزل وهم في حالة ذبح الحمير ووضعِها في القدور وطبخِها، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس من عمل الشيطان» فالقول إنها رجس إنما نزل على لحم الحمير المذبوح المطبوخ وليس على الحمير وهي حية، إذ المعلوم أن الحمير حين كانت حلالاً كانت طاهرة وهي حية، وكانت طاهرة وهي مذبوحة مُذَكَّاة، ولكنها كانت نجسة وهي ميتة لأن الميتة نجسة بالاتفاق لا أعلم أحداً خالف في هذا. فالحمير وهي حلال الأكل ومذبوحة طاهرة بالاتفاق أيضاً، أما عندما تكون الحمير غير حلال الأكل وماتت أو ذُبحت أو كما يقولون ذُكِّيت فإن ذبحها وذَكاتها لا يجعلانها طاهرة، بل تكون نجسة لأنها تكون ميتة. أرأيتم لو ذكَّينا فأرة أو ذبحناها وسمَّينا عليها أتكون بذلك طاهرة حلال الأكل؟ قطعاً لا، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضاً، فالحمير في هذا الحديث جاء حكمٌ بتحريم أكلها، وإذن فإن ذبحها وذَكاتها - وهي حرامٌ أكلُها - لا يُحِلَاّنها ولا يجعلانها طاهرة، وإنما تأخذ حكم النجاسة لأنها تكون ميتة، وحكمهما في هذه الحالة البطلان. أي أن الذبح لِمُحرَّم الأكل لا يفيد شيئاً، بل يكون المذبوح نجساً لأنه ميتة، فذبح النمر يبقيه نجساً، وذبح النسر يبقيه نجساً، وهذا معلوم بالضرورة، فما جاء به الحديث إنما هو إبطال حكم الحِلِّ للحم الحمير والإعلان بالتحريم، وبذلك يسقط حكم الذبح والذكاة عما كان في قدروهم، ويصير المذبوح من الحمير ميتة والميتة نجسة، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس» فالقول إنها رجس هو بوصفها ميتة، لأن ما حُرِّم أكلُه لا يعطيه الذبح طهارة ولا يفيده حِلَاّ، بل يظل حراماً ويظل نجساً.

ص: 63

هذا هو ما يُفهم من الحديث، فالاستشهاد بالحديث على نجاسة الحمير هو استشهاد باطل، فالحديث جاء في نجاسة الميتة، وألحق لحم الحمير الميتة بها، وهذا ينسحب على الشاة الميتة، وعلى الجمل الميت، وعلى الغزال الميت، فكلها وهي ميتة نجسة، وكلها وهي حية طاهرة. ولذا يسقط استشهادهم بهذا الحديث على دعواهم.

بقي الاستشهاد الأخير وهو قياسُهم السباع على الكلب وإعطاؤُها حكمَه، وزادوا على ذلك أنها - أي السباع - تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها، فتكون لذلك نجسة. وردُّنا عليهم أن القياس في العبادات لا يجوز إلا أنْ تكون العلة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا. وإن كان لا بد لهم من القياس هنا فإنه يتوجب أن يتوفَّر في طرفيه التماثل وإلا فلا قياس، فالكلاب نجاسة أسآرها مغلَّظة تجب إزالتها بغسل ما أُصيب بها سبع مرات مع التراب، وهذا مسلَّم به عندهم فلماذا لا يقولون بوجوب إزالة نجاسة أسآر السباع كالأسود والصقور والنمور بالغسل سبعاً مع التراب؟ إن الاختلاف بين الكلب وسائر السباع اختلاف ظاهر يلغي التماثل الذي هو شرط لصحة القياس، فالواجب عليهم أن يقولوا إن السباع كالكلب تأخذ سائر أحكامه في النجاسة، وحينئذ يكون للقياس وجه، أما إنْ هم اعترفوا بوجود اختلاف بينها وبين الكلب، فعندئذ يمتنع القياس.

أما قولهم إنها تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها فتكون نجسة، فنردُّ عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات لأنها حيوانات مفترسة طعامها الجِيَف النجسة، وهي لا مُطهِّر لها أيضاً، فلماذا أحلَّ الله لنا أكلها، واعتُبرت من ثَمَّ طاهرة كالشياه والبقر والإبل؟ عن ابن أبي عمَّار قال «قلت لجابر: الضَّبُعُ أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: آكُلُها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم» رواه الترمذي وأحمد والنَّسائي. قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) . وبذلك تسقط حججهم، ولا يبقى لهم إلا شُبهتهم فحسب في الحديث الأول.

ص: 64

2 -

أما أصحاب الرأي الثاني فقالوا بطهارة أسآر كل الحيوانات بما فيها الكلب والخنزير. ومن استعراض أدلتهم يتبين أن الدليل الثالث هو قولٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أن الحديث موقوف، وأقوال الصحابة ليست أدلة وإنما هي أحكام شرعية يجوز تقليدها، هذا فضلاً عن أن إسناده منقطع، فيحيى لم يدرك عمر كما قال النووي. وقال يحيى ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل. لهذا فإنه لا يصلح للاستدلال فنطرحه ونطرح كذلك الحديث الثاني الذي رواه الشافعي والبيهقي لأنه ضعيف جداً. قال النووي (هذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمَين ضعيفان جداً عند أهل الحديث لا يُحتج بهما) .

أما الحديث الأول والحديث الرابع فيكادان يكونان حديثاً واحداً، إذ لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام فيهما لفظ واحد، فنعاملهما معاملة حديث واحد. هذا الحديث وإن ضعَّفه بعضهم فقد حسَّنه البيهقي فيصح الاحتجاج به، وهو دليل على طهارة أسآر السباع، ودلالته واضحة، ومثله في وضوح الدلالة الحديث الخامس، فالهرة حيوان مفترس، وسبع من السباع آكلةِ الجيف، وكون الحديث يقرِّر طهارة سُؤرها، فذلك دليلٌ على طهارة أسآر السِّباع.

ثم ما لنا نبتعد كثيراً فنبحث عن دليلٍ على طهارة أسآر السباع، وكأن طهارة الأشياء بحاجة إلى دليل، فالشرع قد أعطى حكم الطهارة لكل شيء إلا ما استثناه، وأسآر الدواب والسباع هي أشياء داخلة في عموم الأشياء الطاهرة، فعلى من يقول إنها نجسة أن يأتينا بدليل، لا أن نُجهد أنفسنا في إثبات طهارتها والبحث عن الأدلة لذلك.

نخلص من كل ذلك إلى أن أسآر البهائم والسباع والدواب طاهرة، وباستثناء الكلب والخنزير يلتقي أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي الثالث في طهارة أسآر جميع الحيوانات. وإذن فإن المناقشة الآتية في حكم سُؤر كلٍّ من الكلب والخنزير ستتناول كلا الرأيين في وقت واحد:

ص: 65

3-

قولهم في حديث ولوغ الكلب إن الأمر بغسل الإناء سبعاً معها التراب هو أمرٌ تعبُّدي وليس بسبب النجاسة، هذا القول أراه خطأ. نعم ربما قبلنا رأيهم هذا لو كان الحديث الشريف يطلب الغسل فقط، أما وأن الحديث وردت في رواية له عبارة (فَلْيُرِقْه) مضافةً إلى الأمر بالغسل، فإننا لذلك لا نستطيع قبول رأيهم هذا، وهذه العبارة وردت في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرِقْه، ثم ليغسله سبع مِرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي. فهذا الأمر بالإراقة ينفي الناحية التعبُّديَّة وأنا لا أعلم أحداً يقول إن الأمر بالإراقة هو أيضاً تعبُّديٌّ. وحيث أن الحديث يأمر بإراقة الشراب أو الطعام الذي يلغ فيه الكلب، ثم بغسل الإناء سبعاً مع التراب، وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر بإتلاف مال حلال طاهر، ولا يأمر بإراقة ما يلغ فيه الكلب إلا لأنه لم يعد حلالاً ولم يعد طاهراً يحل أكله أو شربه، فإن ذلك يدل على نجاسة سُؤر الكلب.

أما استشهادهم على طهارة سُؤر الكلب بالآية {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية 4 من سورة المائدة. وبما رُوي عن أبي ثعلبة الخُشني قال «قلت: يا رسول الله إني أصيد بكلبي المُعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، قال: ما صدت بكلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله وكل، وما أَصَّدْتَ بكلبك الذي ليس بمُعلَّم فأدركت ذكاتَه فكل» رواه أبو داود. ورواه البخاري وابن ماجة وأحمد باختلاف في الألفاظ، قائلين: لم يُذكر غُسل لا في الآية ولا في الحديث، ولم يفرَّق بين كلب الصيد المُعلَّم وغير المُعلَّم، فهذا دليل على طهارة الكلاب.

ص: 66

فالجواب عليه أن هذين النصين - الآية والحديث - سكتا عن الطلب من المسلمين غسل ما أمسك الكلب من الصيد، وحديث الولوغ لم يسكت عن هذا الطلب بل نطق بطلب الغسل، والمعلوم أن السكوت لا يقوى على معارضة النطق وإبطاله، ثم إن الآية والحديث قد جاءا في موضوع الصيد من حيث جواز استعمال الكلاب في الصيد، وجواز أكل ما تصيده هذه الكلاب، ولم يأتيا في موضوع الطهارة والنجاسة، فهذا موضوع وذاك موضوع آخر. ولا يمتنع عقلاً ولا شرعاً أن يعالج نصٌ جانباً من موضوع ويعالج نصٌّ آخر جانباً آخَر، إذ لا يجب أن يعالج النص جميع ما يتعلق بالموضوع الذي جاء لمعالجته ما دامت هناك نصوص أخرى تكمل المعالجة، وهذا أمرٌ معروف. بل إن عندنا دليلاً على نجاسة الكلب كله وليس سُؤره فقط، هو ما رُوي عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرتُ هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أَمَ واللهِ ما أخلفني، قال فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جروُ كلبٍ تحت فسطاط لنا، فأمر به فأُخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له: قد كنتَ وعدتَني أن تلقاني البارحة قال: أجل ولكنَّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير» رواه مسلم وأبو داود والبيهقي والنَّسائي. قوله الحائط: أي البستان. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأخذ بيده ماء فينضح مكان الكلب إنما هو من أجل تطهير الموضع، فهذا دليل على نجاسة الكلب. وبذلك يثبت أن الكلب نجس، وأن سُؤره مِن ثَمَّ نجس، وأن نجاسته مغلَّظة، ويثبت أيضاً أن استثناء سُؤر الكلب من أسآر السباع

ص: 67

الطاهرة واجب شرعاً، ويُثبِت الحديثُ بمنطوقه الصريح أن الهرة طاهرة، وإذن فإن سُؤْرها طاهر.

بقي سُؤر الخنزير. إنه ليس لدينا نص في نجاسة سُؤر الخنزير، وإنما لدينا نصَّان اثنان في نجاسة الخنزير كله، وإنَّ ثبوت نجاسة الخنزير كله يستلزم ثبوت نجاسة سُؤره بالضرورة، فلنستعرض هذين النصين:

أ- عن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنَّا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضوها بالماء، وكلوا واشربوا» رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي روايةٍ للترمذي «قال أَنْقُوها غُسلاً واطبخوا فيها» . وفي روايةٍ للدارقطني «قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نخالط المشركين وليس لنا قدور ولا آنية غير آنيتهم قال: فقال: استغنوا عنها ما استطعتم، فإن لم تجدوا فارحضوها بالماء فإن الماء طهورها، ثم اطبخوا فيها» . وحديث أبي ثعلبة الخُشني رواه البخاري وأحمد والدارمي وابن ماجة وابن حِبَّان بروايات متعددة.

ب - قال تعالى: {قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أن يَكُوْن مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوْحَاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بِهِ} الآية 145 من سورة الأنعام.

ص: 68

الحديث يطلب من المسلمين أن يَرْحَضوا القُدور التي طُبخ فيها لحم الخنزير بالماء، والرَّحض معناه الغسل، ويطلب الحديث منهم أن يُنقوها غسلاً، أي يبالغوا في غسلها كما جاء في روايةٍ للترمذي، ولا يكون طلب الغسل والمبالغة فيه إلا لأنها نجسة، وليس أدلَّ على ذلك من أن الرواية الثالثة للدارقطني جاء فيها «فارحضوها بالماء فإن الماء طُهورها» ولا يقال طهَّرتُ الإناء أو طهَّرتُ الثوب أو طهَّرتُ النعل إلا إذا عنيت إزالة النجاسة منها. وأما الآية الكريمة فإنها وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولفظة رِجس في العربية تعني القذر والنتن، هذا هو أصل معناها، إلا أن العرب توسَّعوا في استعمالها حتى صارت لفظةً محتمِلةً لمعانٍ عدة، فصارت تطلق على الإثم وتطلق على النجاسة وتطلق على السُّخط والغضب وتطلق على معانٍ أخرى، حتى صار ذكرها لا يؤدي معنى محدداً إلا بقرينة تعيِّنه وتنفي غيره، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ} رجس هنا بمعنى سخط، وقوله سبحانه وتعالى {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيَراً} لفظةُ (رجس) هنا تعني الإثم والمعصية.

أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فتُفَسَّر لفظةُ (رجس) الواردة فيها بأنها نجس، أما لماذا؟ فلأن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن ويبيِّنه، وهنا جاء الحديث مفسِّراً للفظة رجس الواردة في الآية بأنها تعني النجس بمنطوقه وبمفهومه، فقول الحديث «فإن الماء طهورها» هو منطوق، وكون الحديث يأمر بالمبالغة في غسل القدور التي تحتوي على لحم الخنزير هو مفهوم، ذلك أن المبالغة في الغسل هي قرينة على أن لحم الخنزير نجس، وإذن فقد تضافر المنطوق والمفهوم على اعتبار لحم الخنزير نجساً، وعلى تفسير الآية بأنها تعني نجاسة لحم الخنزير.

ص: 69

ورب قائل يقول: إن الآية وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولم تصف عظمه ولا شعره مثلاً بأنه رجس، وكذلك الحديث، فلماذا لا نعتبر النجاسة في النَّصَّين تنسحب على الخنزير الميت والمطبوخ، وليس على الخنزير الحي؟ فنجيبه بما يلي:

أولاً: ما دام قد ثبت أن لحم الخنزير نجس حتى ولو طبخه أهل الكتاب، فإن ذلك يدل على أن نجاسة لحم الخنزير هي نجاسة أصلية فيه، إذ أن الشرع الحنيف قد أقرَّ ذبحَ أهل الكتاب واعتبر ذبائحهم مُذكَّاة، أي طاهرة، يحل للمسلمين أكلها، فلما ذكَّى أهل الكتاب لحم الخنزير وجاء الشرع يصف هذا المُذكَّى بأنه نجس، فإن ذلك يدل على أن نجاسة هذا الخنزير هي نجاسة أصلية لم تنفع فيها الذكاة أي التطهير، ولهذا نقول إن لحم الخنزير نجس لأنه نجس، وليس لأنه مذبوح أو ميت.

ثانياً: إننا لو قلنا إن لحم الخنزير النجس، يعني الخنزير الميت وليس الخنزير الحي، لكان تفسيرنا في غاية التهافت، إذ أنَّ الآية الكريمة مُصدَّرة بلفظة (ميتة) فلا حاجةَ لذكر الخنزير الميت حينئذ، لأنه يكون داخلاً في لفظة (ميتة) في صدر الآية، فإضافة الخنزير الميت إضافة غير مفيدة، فهذا التفسير لا يليق بنا القول به.

ص: 70

ثالثاً: أمَّا وقد ثبت أن لحم الخنزير نجس، سواء منه ما كان بعد الموت أو قبله، فإن ذلك يدل على نجاسة الخنزير كله، لأن شعر الخنزير وعظمه وسائر أجزائه مختلطة كلها باللحم فلا تُتصور طهارتُها مع نجاسة اللحم، فنجاسة اللحم تنسحب حتماً على كل أجزاء الخنزير فيكون الخنزير كله نجساً. أما لماذا ذُكِر لحمُ الخنزير في الآية ولم يُذكر الخنزير؟ فلأن الآية تحدثت عن المطعومات المحرَّمة، والمعلوم أن المطعوم في الخنزير هو لحمه فذُكِرَ اللحمُ ليتناسب مع سياق الآية، وذُكِرت نجاسة الخنزير كله زيادة في المعنى. وإذن وقد بان أن الخنزير نجس فإنا نقول إن لحمه وشعره وعظمه وكل جزء فيه نجس، وهذا يستلزم اعتبار سُؤره نجساً أيضاً، وبذلك يسقط رأيهم بطهارة سُؤر الخنزير.

وفي ختام البحث أُلفت النظر إلى أنني لم استدلَّ على نجاسة الخنزير بما استدل به العديد من الفقهاء من قياس الخنزير على الكلب، ذلك أن هذا القياس خطأ، لأن لفظة (الكلب) لا تشمل الخنزير، ولأنه لا عِلَّةَ ظاهرةً لنجاسة الكلب فيقاس عليها، فقياس الخنزير على الكلب قياس دون علَّة ظاهرة مشتركة، ودون أن تتوفر فيه شرائط القياس الصحيحة.

أما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثاني من قِبَل الزُّهري وابن الماجَشُون في سُؤر الكلب فتسقط هي الأخرى بعدما تبين بوضوح نجاسة سُؤر الكلب.

وأما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثالث من قِبَل أحمد في سُؤر البغل والحمار، وابن عمر - فيما رُوي عنه - في سُؤر الحمار فقط، وابن أبي ليلى في كراهة سُؤر الهرة، وابن المنذر والحسن وطاووس في تحريم ونجاسة سُؤر الهرة فتسقط كلها، لأن طهارة سُؤر البغال والحمير تدخل في طهارة أسآر عموم الدواب. وكما أسلفنا من قبل فإن الطهارة لا تحتاج إلى دليل خاص، وطهارة سُؤر الهرة ورد فيه نص خاص بطهارته، هو حديث كبشة الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وقد مرَّ، إضافة إلى دخوله في طهارة أسآر عموم السباع.

ص: 71

وثمَّةَ نقطةٌ أخرى هي أننا سجلنا للفريق الأول شُبهة في نجاسة أسآر السباع مأخوذة من حديث القُلَّتين، فردُّنا عليها الآن هو أننا أثبتنا في المناقشة طهارة أسآر السباع مستدلِّين بحديث أبي هريرة الذي أخرجه الدارقطني «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» وهذا منطوق في طهارة الأسآر، وما دام أن حديث القُلَّتين ظني الدلالة على نجاسة الأسآر، فيُعمل بحديث طهارة الأسآر، ويُرجَّح على حديث النجاسة الظني الدلالة، لا سيما إذا علمنا أن الأصل في الأشياء الطهارة ومنها الأسآر، إلا ما استثناه الشرع بدليل خاص، ولا دليل هنا صالحاً على نجاسة أسآر السباع والدواب.

نخلص من المناقشة إلى صحة رأي الفريق الثالث القائل بطهارة أسآر البهائم والسباع والحيوانات والطيور كلها سوى سُؤر الكلب والخنزير فحسب، بعد إسقاط ما ورد فيه من استثناءات لبعض الأئمة، وهو رأي الفريق الثاني نفسُه باستثناء سُؤر الكلب والخنزير الذين أخطأوا في اعتباره طاهراً.

وعليه فإن الماء قَلَّ أو كَثُر، إذا شرب منه أيُّ حيوان يُؤكل لحمه أو لا يُؤكل، أو أيُّ طيرٍ جارح أو غير جارح - باستثناء الكلب والخنزير - يظل طاهراً طهوراً يصلح للوضوء والأغسال وإزالة النجاسات، ويُصنَّف في باب أقسام المياه تحت قسم الماء الطَّهور. وما أقوله عن سُؤر هذه الحيوانات أقوله عن سائر أجسامها، فلو غمس أي حيوان نفسه في الماء وخرج منه حياً ظل الماء طَهوراً، وهذا القول الأخير ربما أتينا على بحثه مستقبلاً.

بقيت نقطة كان الأصل فيها عدم بحثها لوضوحها، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيها، فرأيت من الواجب إبداء الرأي فيها وهي: هل سُؤر الآدمي طاهر أم نجس؟.

ص: 72

ذهب عدد من الفقهاء إلى القول بنجاسة سُؤر الكافر، وزاد بعضهم بنجاسة سُؤر الجُنُب والحائض، مستدلين بقوله تعالى {إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوْا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية 28 من سورة التوبة. على نجاسة الكافر ومن ثَمَّ سُؤره، وبالحديث الذي رواه أبو ثعلبةَ الخُشني وقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن آنية الكفار - في روايةٍ من أهل الكتاب، وفي روايةٍ ثانيةٍ من المشركين – «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء

» الحديث وقد سبق. مستدلين به على نجاسة آنيتهم وقدورهم ومن ثَمَّ على نجاسة أبدانهم، وأخذوا من أحاديث تطهُّرِ الجُنُب والحائض نجاستهما ما داما جُنُباً وحائضاً، ومن الآيات مثل قوله سبحانه وتعالى {وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطَّهَّروا} وقوله سبحانه {ويَسْأَلُونَكَ عَن المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ فاْتُوهُنَّ مِن حَيْثُُ أَمَرَكُمُ اللهُ} الآية 222 من سورة البقرة نجاسةَ الجُنُب والحائض أيضاً، وقالوا إن القرآن الكريم وصف الكافر بأنه نجس، وإنَّ الآيات والأحاديث طلبت من الجُنُب والحائض التَّطهُّر، ولا يكون التَّطهُّر إلا من نجاسة، فدلَّ ذلك على نجاستهما ومن ثم نجاسة سُؤرهما. هذا هو مجمل ما قالوه.

ص: 73

وقبل الإجابة نُذَكِّر بأن قسماً من قولهم هذا قد سبق ذِكْره في بحث [الماء المستعمَل] ، وكشفنا هناك عن خطأ ما ذهبوا إليه، فلا نعيده بتفصيله، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الحديث يقول «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه - أي حذيفة راوي الحديث - وهو جُنُب فحاد عنه فاغتسل، ثم جاء فقال: كنت جُنُباً، قال: إن المسلم لا ينجُس» وأن الحديث يقول: عن عائشة قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ» رواهما مسلم وغيره. وقد مرَّا. وهذان دليلان صالحان على طهارة الجُنُب والحائض.

بقيت نجاسة الكافر، هل الآية الكريمة تفيد النجاسة الحسية أم النجاسة المعنوية؟ إنه لم يَرِدْ في كتاب الله العزيز لفظة (نجس) إلا مرة واحدة فحسب، هي الواردة في قوله سبحانه وتعالى {إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا} الآية 28 من سورة التوبة وهذه اللفظة الوحيدة في الكتاب العزيز لم تجيء على ظاهر معناها، وإنما جاءت بمعنى النجاسة المعنوية، ومعناها هو نجاسة الاعتقاد وسوء الباطن والسريرة. والأدلة على أن نجاسة الكافر نجاسة معنوية ما يلي:

أ - روى البخاري وأحمد والنَّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سَواري المسجد

» .

ب - زواج المسلم من النصرانية واليهودية وما يستتبعه ذلك من المضاجعة وانتقال عرقها إليه، وغمس يديها في طعامه وشرابه، وقيامها بسائر الأعمال البيتية ببدنها، وإنجابها منه أولادَه المسلمين الطاهرين.

ج - قوله تعالى {وَطَعَامُ الذِيْنَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية 5 من سورة المائدة.

ص: 74

د - عن أنس رضي الله عنه «أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالةٍ سَنِخةٍ فأجابه» رواه أحمد. قوله إهالة: أي شحمٌ وزيت. وقوله سَنِخة: أي متغيرة الرائحة.

هـ - عن جابر رضي الله عنه قال «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنُصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها، فلا يعيب ذلك علينا» رواه أبو داود وأحمد.

الحديث الأول يدل على أن المشرك - وهو هنا ثُمامة - طاهرٌ، وإلا لَما أدخله المسلمون إلى المسجد ولَما ربطوه فيه. والبند (ب) دلالته ظاهرة ظهور الشمس على أن أبدان الكفار طاهرة، والآية الكريمة في البند (ج) تماثل في وضوح دلالتها البند (ب) إذ لو كانت أبدان الكفار من اليهود والنصارى وأيديهم نجسة لما جاز تناول طعامهم، لأنه يكون عندئذ نجساً، يؤكِّده ما جاء في البند (د) أما البند (هـ) فواضح الدلالة على أن آنية المشركين وأسقيتهم طاهرة.

فالكفار طاهرةٌ أبدانهم، طاهرةٌ أسآرهم، طاهرةٌ آنيتهم، إلا أن هذه الآنية إن عُلِم أنهم يطبخون فيها طعاماً نجساً أو شراباً نجساً اعتُبرت متنجسةً ووجب عندئذ غسلها وتطهيرها فعن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنَّا نُجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال صلى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضُوها بالماء، وكلوا واشربوا» رواه أبو داود. وقد سبق.

ص: 75