الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سبق في بحث أحكام الجُنُب البند التاسع علامات البلوغ عند الذَّكَر والأنثى، وأقل سنٍّ للحيض وأعلى سنٍّ لانقطاع الحيض، وما أرى أن تعتبره دولة الخلافة وعلماء المسلمين من السنٍّ الدالة على البلوغ، فيُرجع إليه.
الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب
هذه الأمور الثلاثة هي ما يلي بالتفصيل:
1-
لا يجب على الحائض الصوم، ولا يحلُّ لها ذلك، لما روته معاذة قالت:«سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحَرُوريةٌ أنت؟ قلت: لستُ بحَرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. قولها أحَرورية أنت؟: أي هل أنت من الخوارج؟ والخوارج يقولون بوجوب إِعادة الصلاة على الحائض. ودلالة الحديث أن الحائض لا تصوم خلال حيضها، وتقضي صومها عقب طُهرها، ولو كانت الحائض تصوم لما ورد القول بقضاء الصوم عليها. ولما روته حمنة بنت جحش قالت «كنت أُستحاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأُخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت يا رسول الله: إِني امرأة أُستحاضُ حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: أنعَتُ لك الكُرْسفُ فإِنه يُذهب الدم
…
» الحديث، وهو طويل، رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وصحَّحاه، والكُرْسفُ هو القطن. فقولها «قد منعتني الصلاة والصوم» وعدم إِنكار الرسول عليه الصلاة والسلام لقولها وإِرشادها فقط لما تفعل، هو إِقرار لها ودليل على أن الحائض لا تصوم.
وأصرح من الحديثين ما رواه أبو سعيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء «
…
أليس شهادة المرآة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟ قلن: بلى: قال: فذلك من نقصان دينها» رواه البخاري.
2-
يَحْرُم على الزوج وطءُ زوجته الحائض دون زوجته الجُنُب، وهذا الحكم معلوم من الدين بالضرورة، وهو أمرٌ تنفر منه الطباع السليمة، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى {يَسْأَلونَكَ عن المحيضِ قُل هو أذىً فاعتزلوا النِّساءَ في المَحيضِ ولا تَقْربوهنَّ حتى يَطْهُرن فإِذا تطهَّرنَ فأْتوهنَّ من حيثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ اللهَ يحبُّ التَّوَّابين ويحبُّ المُتطهِّرين} الآية 222 من سورة البقرة. هذه الآية الكريمة تطلب اعتزال النساء في الميحض، أي عدم وطئهن ريثما يَطْهُرن بانقطاع الدم ويتطهَّرن بالغسل، فِإذا تم ذلك حل حينئذ وطؤُهن. وسيأتي بإِذن الله مزيد تفصيل في دلالة هذه الآية بعد قليل. والدليل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا كل شيء إِلا النكاح» وقد مرَّ. ويعني الحديث: دعوا نكاح الحائض وافعلوا بها ما تشاءون من تقبيل وضم وعناق ومباشر، تشهد ذلك الأحاديث التالية:
1-
عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا أراد من الحائض شيئاً أمرها، فألقت على فرجها ثوباً، ثم صنع ما أراد» رواه البيهقي وأبو داود بسند رجاله ثقات.
2-
عن حكيم بن عقال أنَّه قال: سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين «
…
ما يحرم عليَّ من امرأتي إذا حاضت؟ قالت: فرجها» رواه البيهقي. ورواه البخاري في تاريخه من طريق مسروق.
3-
عن جُمَيع بن عُمَير قال: دخلت على عائشة مع أُمي وخالتي فسأَلتاها «كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إِذا حاضت إِحداكن؟ قالت: كان يأمرنا إِذا حاضت إِحدانا أن تتَّزر بإِزار واسع، ثم يلتزم صدرها وثدييها» رواه النَّسائي فهذه الأحاديث تدل على تحريم جماع الحائض في الفرج، وجواز مباشرتها فيما سواه على الإِطلاق، لا فرق بين ما هو فوق السرة وما هو تحتها، ولا ما هو فوق الركبة وما هو تحتها، فللزوج أن يتمتع بجميع جسد زوجته الحائض باستثناء الفرج فحسب.
وثَمَّةَ مسألةٌ أُخرى هي أن أبا حنيفة يقول: إِذا انقطع الدم لأكثر الحيض حل وطؤُها، وإِلا لم يحل حتى تغتسل أو تتيمَّم أو يمضي عليها وقت صلاة، لأن وجوب الغسل لا يمنع الوطء كالجنابة. وقد رد على هذا الرأي شمسُ الدين بنُ قُدامة بقوله (ولنا قوله تعالى {ولا تَقْرَبوهُنَّ حتى يَطْهُرنَ فإِذا تطَهَّرنَ فأْتُوهُنَّ} قال مجاهد: حتى يغتسلن، وقال ابن عباس فإِذا اغتسلن، ولأنه قال {فإِذا تطَهَّرنَ} والتَّطهُّر تفعُّل والتفعُّل إِذا أضيف إِلى من يصح منه الفعل اقتضى إِيجاد الفعل منه كما في النظائر وانقطاع الدم غير منسوب إِليها، ولأن الله سبحانه وتعالى شرط لحل الوطء شرطين – انقطاع الدم والغسل- فلا يباح بدونهما، ولأنها ممنوعة من الصلاة لحديث الحيض فمنع وطؤها كما لو انقطع لأقلِّ الحيض، وبهذا ينتقض قياسهم، وحَدَثُ الحيضِ آكدُ من حدث الجنابة، فلا يصح الإلحاق) .
وبتوضيح أكثر أقول إن الآية الكريمة طلبت عدم إتيان الحُيَّض {حتى يَطْهُرْنَ فإِذا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ} فقولها {حتى يَطْهُرْنَ} يعني: حتى ينقطع دمهن، ولم تكتف الآية الكريمة بذلك بل أضافت قيداً آخر هو القول {فإذا تطَهَّرْنَ} والتطهُّر هنا الاغتسال، فكان إتيان الحائض حراماً حتى ينقطع دمها، وحتى تغتسل، والاقتصار على أحد الاثنين إلغاءٌ للآخر، وهذا معارض ومعاند للآية الكريمة، وقد جاء الفعل الأول يَطْهُرن من طَهُر، وجاء الفعل الثاني تطَهَّرن من تطهَّر، أما طَهُر فمعناها صار طاهراً، وأما تطهَّر فمعناها جلب لنفسه الطهارة.
أما ما يقوله بعضهم من الاكتفاء بالوضوء أو حتى بغسل الفرج بدل الغسل، وحجتهم أن التطهُّرَ كلمةٌ عامة تشمل الوضوء وتشمل الغسل وتشمل غسل النجاسة، فبأيِّها أتت الحائض فإنها تكون قد تطهرت وحل حينئذ وطؤُها، فهو قول مَن لم يُحِط بالموضوع إحاطة كافية، ذلك أنَّ هذا القول هو أخذُ جزءٍ من النص وفصله عن أجزائه الأخرى فصلاً تاماً حيث لا يصح الفصل، لأن الآخر له تعلقٌ بالأول، ذلك أن الآية تتحدث عن الحائض من حيث الاعتزال، وانقطاع الدم والتطهُّر، والإتيان، ففصل أي معنى من هذه المعاني عن حالة الحيض خطأ، فهذه الآية جعلت كل هذه المعاني في موضوع الحيض، فوجب قصرها عليه وربطها به، فإذا قيل اعتزلوا وجب قصرُه على الحائض، وإذا قيل يَطْهُرن وجب قصر الطهارة عليه، وإذا قيل تطهَّرن وجب قصر التَّطهُّر عليها، وهذا القصر على الحائض إنما هو قصرٌ عليها بوصفها حائضاً وليس بوصفها أنثى فقط، فإذا قيل {فإذا تَطَهَّرْنَ} وجب تفسيره بأن الحائض بوصفها حائضاً تتطهر، أي أن التَّطهُّر مطلوب منها بوصفها حائضاً، أي هو مربوط بحيضها، وأنه يجب قصره على حالة الحيض، وبمعنى آخر جعله مُزيلاً لحالة الحيض، وليس لأية حالة أخرى كحالات نقض الوضوء أو التنجيس أو التنظيف.
أرأيت لو قيل: الجُنُب يتطهَّر، أيُفهم منه أن الجُنُب يغسل ثوبه؟ أكان يصح هذا الفهم؟ أرأيت لو قيل: صاحب الثوب النجس يتطهر، أيفهم منه غير إزالة نجاسة ثوبه؟ فكذلك القول: الحائض تتطهَّر لا يصح أن يفهم منه أن على الحائض إزالة دم الفرج، أو أن عليها أن تتوضأ، تماماً كما لا يصح أن يفهم من قوله تعالى {وإِنْ كُنتم جُنُباً فاطَّهَّروا} غير أمر الجُنُب بالاغتسال، وهذا ما جاء صريحاً في القرآن الكريم في الآية الكريمة {ولا جُنُباً إلا عابِرِي سَبيلٍ حتى تَغْتَسِلوا} فالقرينة هنا - وهي حالة حيض الحائض- هي التي تحدد أي المعاني المقصودة لكلمة تطهر.
أما ما يقوله أبو بكر الجصَّاص في تفسير هذه الآية من أن معناها إباحة وطء الحائض بمجرد انقطاع الدم فهو قولٌ لا تحتمله هذه الآية الكريمة، فقد قال ما يلي (قوله تعالى {حتى يَطْهُرن} إِذا قريء بالتخفيف فإنما هو انقطاع الدم لا الاغتسال، لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر فلا يحتمل قوله {حتى يَطْهُرن} إلا معنى واحداً، وهو انقطاع الدم الذي به يكون الخروج من الحيض، وإذا قُرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفاً، فصارت قراءة التخفيف محكمةً، وقراءة التشديد متشابهة، وحكم المتشابه أن يُحمل على المحكم ويرد إليه، فحصل معنى القراءتين على وجه واحد، وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم) فهذا القول مضطرب وناقص. أما أنه مضطرب فهو قوله إن قراءة يطَّهَّرن بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل، وعدَّ ذلك من المتشابه، وهذا خطأ، لأن قراءة يطَّهَّرن - بالتشديد - لا تحتمل إلا معنى واحداً فحسب وهو الغسل، ولا تحتمل انقطاع الدم مطلقاً، فهو فعل من أفعال الإنسان، وانقطاع الدم ليس فعلاً من الإنسان، فيسقط القول بالتشابه، فقوله إن هذا الفعل متشابه قول فاسدٌ، وقوله بحمل المتشابه على المُحكم فاسد هنا، لأن ما بُني على فاسد فهو فاسد. وثانياً: إن اجتهاده في إثبات معنى {يَطْهُرن} بأنه انقطاع الدم لا يكفيه ولا يثبت حجته إلا أن تكون الآية قد انتهت عند هذا الحد، ولكن حيث أن الآية أضافت {فإذا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ
…
} وحيث أن الله لا يقول شيئاً عبثاً، فما يقول فيه غير أن التَّطهُّر هنا يفيد الاغتسال؟ أليس تركه شطر الآية هذا نقصاً؟ وهل في الآية تناقض؟ ذلك أن أول الآية علَّق الوطء على انقطاع الدم، ونحن نسلم له به، ولكن آخر الآية طلب الغسل قبل الوطء، فما يقول فيه؟ إن إغفاله لهذا الشطر الأخير نقص واضح ما كان ينبغي عليه أن يقع فيه. إن معنى الآية هو: لا تقربوهن حتى ينقطع
دمهن، فإذا انقطع الدم واغتسلن منه فاقربوهن، هذا هو معنى الآية، ولا معنى لها غير هذا. أما ما الذي يُستفاد من كون الآية بهذه الصياغة، فهو أنه تحذيرٌ للمسلمين من الطلب من الحُيَّض الاغتسال في أثناء الحيض لنكاحهن، فبيَّنت الآية أن الاغتسال المُبيح للوطء له وقت هو عقب انقطاع الدم، فالآية الكريمة إذن طلبت الغسل المبيح للوطء وبينت وقته، فقوله تعالى {حتى يَطْهُرْنَ} يفيد التوقيت، وقوله {فإذا تطَهَّرْنَ} يفيد طلب الفعل، فالآية وحدة واحدة لا يجوز فصل جزئها الأول عن جزئها الثاني.
وبذلك يظهر صواب القول إن وطء الحائض لا يجوز إلا بعد اغتسالها عقب انقطاع دمها. ويشهد لهذا الفهم ما قاله ابن عباس رضي الله عنه «إذا أصابها في أول الدم فدينارٌ، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصفُ دينار» رواه أبو داود. فهو يقرِّر أن من أتى الحائض في انقطاع الدم كفَّر بنصف دينار.
بقيت آخر نقطة في البحث،وهي هل في وطء الحائض كفارة أم لا؟ فذهب عطاء والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وسفيان الثوري والليث ومالك وأبو حنيفة والشافعي في أصح الروايتين عنه إلى أن من وطئ زوجته وهي حائض فلا كفارة عليه والواجب الاستغفار والتوبة، وهؤلاء حجتهم أن الأحاديث الواردة في طلب الكفارة مضطربة لا تصلح للاحتجاج، وأن الأصل البراءة فلا يُنقل عنها إلا بحجة، والحجة ضعيفة. كما استشهدوا بما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى حائضاً أو امرأةً في دُبُرِها أو كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد» . فقالوا إن الحديث لم يذكر كفارة، وإنه نَهْيٌ نُهِيَ عنه لأجل الأذى أشبه الوطء في الدبر. وذهب عبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحق بن راهُوَيه وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في القديم إلى وجوب الكفارة، واستشهدوا بما ورد من الأحاديث الدالة على ذلك. وحتى نناقش هذين الرأيين لمعرفة الصحيح منهما لا بد من استعراض الأحاديث الواردة:
1-
حديث ابن ماجة السابق «من أتى حائضاً أو امرأة في دُبُرها
…
» .
2-
عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينارٍ أو بنصف دينارٍ» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة. ورواه أبو داود وقال (هكذا الرواية الصحيحة قال دينار أو نصف دينار) ورواه الترمذي بلفظ «إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار» .
3-
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا أتى أحدُكم امرأتَه في الدم فلْيتصدق بدينار، وإذا وطِيَها وقد رأت الطُّهرَ ولم تغتسل فلْيتصدَّق بنصف دينار» رواه البيهقي.
الحديث الأول ضعيف ضعفه البخاري فلا يصلح للاحتجاج فيرد، وبرده يرد الاستشهاد به. فالقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر كفارة بناء على هذا الحديث قول ساقط لسقوط الحديث عن مرتبة الاحتجاج. أما قياسهم بالقول: قد نُهي عنه لأجل الأذى، أشبه الوطء في الدبر، فهو قياس لا يصح لعدم صحة الحديث أولاً، ولعدم الاشتراك في العلة ثانياً، فالنهي عن الوطء في الحيض إنما هو لعلة الأذى كما جاء في الآية، أما تحريم الوطء في الدبر فليس لعلة الأذى، وإنما لأن الدبر ليس محلاً للزرع والولد، فاختلفت العلتان فلا قياس.
الحديث الثاني رواه أيضاً الدارقطني وابن الجارود، وكل رواته مخرَّجٌ لهم في الصحيح إلا مقسماً الراوي عن ابن عباس انفرد به البخاري. وقد اختلف العلماء اختلافاً كبيراً في هذا الحديث. فذهبت جماعة إلى وصمه بالاضطراب، قال ابن حجر (والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جداً) . وقال غيره إن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس، وقال النووي (إن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وإنَّ الحق أنه ضعيف باتفاقهم) وتابعه ابن الصلاح.
والصواب الذي ينبغي الذهاب إليه هو أن هذا الحديث صحيح وليس ضعيفاً، وأن النووي وابن الصلاح وابن حجر قد أخطأوا في تضعيفِه ووصمِه بالاضطراب. فهذا الحديث صححه الحاكم كما ذكر النووي، وصحَّحه أبو داود، وحسَّنه أحمد واحتج به، وصحَّحه أبو الحسن بن القطان، وأجاب على دعوى الاضطراب بأن الإعلال بالاضطراب خطأ، والصواب أن يُنظر إلى رواية كلِّ راو بحسبها، ويُعلم ما خرج عنه فيها، فإن صح من طريق قُبل، ولا يضره أن يُروى من طرق أُخَر ضعيفة وقد صحَّت لهذا لحديث رواية دون غيرها من الروايات.
أما عن دعوى الإرسال أو الوقف على ابن عباس، فقال الخطابي: والأصح أنه متصل مرفوع. ويُجاب أيضاً على دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة، وكذلك ذهب ابن جرير وسعيد بن عامر والنَّضْر بن شميل وعبد الوهاب الخفاف. وقال ابن سيد الناس: من رفعه عن شُعبة أجلُّ وأكثر وأحفظ ممن وقفه. وقال أبو بكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول، لأن إحدى الروايتين ليست مكذِّبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذٌ بالزيادة وهي واجبةُ القبول. فالحديث إذن صحيح ويصلح للاحتجاج.
أما رواية الترمذي «إذا كان دماً أحمر فدينار أو كان دماً أصفر فنصف دينار» فهي ضعيفة، لأن في رواتها عدداً فيهم مقال. قال البيهقي عن ابن أبي المخارق عبد الكريم (هو مُجمع على ضعفه) .
والحديث الثالث يصح الاحتجاج به. وإذن فإن عندنا حديثين صالحين للاحتجاج، بمعنى أن عندنا الحجة، وهم يقولون (والأصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجَّة) وقد صحت عندنا الحجة، فالواجب عليهم الانتقال إلى حيث تدل الأحاديث. وهكذا تسقط حججهم كلها، ويثبت الحكم المستنبط من نصَّين صالحين، وهو أنه لا بد من كفارة على من وطئ الحائض.
وهذا الوطء الذي تجب فيه الكفارة لم يأت من الشرع ما يقيده بحالة العمد، أو يستثني منه النسيان والسهو، فيجب القول بالكفارة على من وطئ الحائض عمداً أو سهواً. إلا أن العامد آثم ويخرج كفارة، والساهي غير آثم ولكنه يخرج هو الآخر كفارة، لأن النص عام في الاثنين ولا مخصِّص. ثم إن الكفارة واجبة على الرجل والأنثى إلا أن تكون الأنثى مكرهة فلا كفارة عليها.
قلنا إن الحديث الأول لابن عباس، والحديث الأخير للبيهقي يصلحان للاحتجاج، الحديث الأول يقول «يتصدق بدينار أو بنصف دينار» على التخيير والإطلاق، والحديث الأخير يقول «إذا أتى أحدكم امرأته في الدم فلْيتصدق بدينار، وإذا وطِيَها وقد رأت الطُّهر ولم تغتسل فلْيتصدق بنصف دينار» الحديث الأول أطلق الدينار ونصف الدينار، والحديث الثاني قيَّد الدينار بالوطء في فورة الدم، ونصف الدينار بالوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، فيُحمل المطلق على المقيد.
وعلى هذا فإن من وطيء الحائض ودمها يسيل كفَّر بدينار، وإن وطئها قبل الاغتسال وبعد انقطاع الدم كفَّر بنصف دينار. والدينار الشرعي من الذهب الخالص، ويعادل أربعة غرامات وربع الغرام، ويعادل نصفه غرامين وثمن الغرام. وبمعرفة سعر الغرام من الذهب في وقت الوطء والكفارة يعرف المسلم مقدار الكفارة بعملة بلده.
3-
يَحْرُم على الزوج أن يطلق زوجته في فترة حيضها، بدليل ما روي عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمرُ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: مُرْه فلْيراجعها، ثم لِيطلقها طاهراً أو حاملاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية أن عبد الله بن عمر قال «طلقت امرأتي وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ للنبي صلى الله عليه وسلم، فتغيَّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: مُرْهُ فلْيراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة، سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فلْيطلقها طاهراً من حيضتها قبل أن يمسَّها، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله. وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحُسِبت من طلاقها
…
» رواه مسلم. وروى قريباً منه البخاري وأحمد والنَّسائي وأبو داود.