الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناخ والعمران:
يتدخل المناخ في التخطيط العمراني الحديث من بعض النواحي، مثل اختيار المناطق الصناعية والمناطق الترفيهية والمناطق السكنية، وأهم العناصر المناخية التي تراعى في هذا التخطيط هي الرياح لأنها هي التي تفرض وضع المناطق الصناعية وأماكن تجميع النفايات في اتجاه انصرافها بعد مرورها على الأحياء السكنية والأحياء الترفيهية، كما أن هبوب الرياح المعتدلة من ناحية البحر في المدن الساحلية وانخفاض المدى الحراري على طول السواحل يعتبر من العوامل المهمة التي تدفع إلى امتداد معظم هذه المدن امتدادًا طوليًّا محاذيًا لساحل البحر، وإلى وجود أهم مناطق الترفيه والتنزه على امتداد الشواطئ.
ولقد كان تأثير المناخ والأحوال الجوية واضحًا على تصميم المساكن منذ أن بدأ الإنسان يبنيها في عهوده الحضارية القديمة لسبب واضح وهو أن أحد الأهداف الرئيسية من بنائه لها هو الحماية من الأحوال الجوية، وأيًّا كان نوع المسكن أو حجمه فإن المناخ يتدخل في اختيار موقعه واختيار المواد التي يُبنى بها وتصميمه، والعناصر المهمة التي تراعى عادة في الاختيار هي درجة الحرارة والإشعاع الشمسي والمطر والرياح.
وليس المناخ السائد وحده هو الذي يتدخل في تصميم المساكن وتوجيهها، بل إن المناخ التفصيلي للمواضع التي تختار للبناء يمكن أن تجعل بعض المواضع، أصلح للسكنى من غيرها داخل النوع الواحد من المناخ، ويرجع التباين في المناخ التفصيلي من موضع إلى آخر إلى عوامل محلية مثل ارتفاع الأرض أو وجود مسطحات مائية أو غطاءات نباتية أو مناطق صناعية أو مبان قريبة.
المناخ وصحة الإنسان:
من الثابت أن هناك علاقة وثيقة بين صحة الإنسان وحالة الجو والمناخ، فقد تبين مثلًا أن بعض أنواع المناخ تساعد على انتشار أمراض.
معينة، ويعتبر المناخ الحار الرطب من أسوأ أنواع المناخ في هذه الناحية، وذلك لأنه يساعد على تحلل المواد العضوية، وعلى نمو الجراثيم والميكروبات والحشرات وانتشارها، فضلًا عن أنه يبعث غالبًا على الكسل والخمول ويقلل من مقدرة الجسم على مقاومة الميكروبات، وقد كان هذا المناخ من أهم العقبات التي اعترضت الأوروبيين عند استعمارهم الأقاليم الاستوائية، وكثيرًا ما كنا نسمع مثلًا عن "مقبرة الرجل الأبيض" وهو الاسم الذي اشتهر به ساحل غانة في غرب إفريقية حيث تجتمع الحرارة والرطوبة الشديدتان طول السنة، ومن الملاحظات المشهورة أيضًا أن كثرة أشعة الشمس وقوتها بالقرب من خط الاستواء تساعد على زيادة سرعة نمو بعض الأجهزة والغدد في جسم الإنسان، مما يؤدي إلى انخفاض سن البلوغ عنه في البلاد ذات المناخ المعتدل أو البارد، فهو بالنسبة للإناث مثلًا يقع بين سن الحادية عشرة والرابعة عشرة عند خط الاستواء وبين الثالثة عشرة والسادسة عشرة في الأقاليم المعتدلة، وبين الخامسة عشرة والثامنة عشرة في الأقاليم القطبية1.
ويلاحظ كذلك أن سكان الأقاليم محرومون تمامًا من أشعة الشمس خلال فترة من السنة يزداد طولها كلما اقتربنا من القطب، الذي تنقسم السنة عنده بصفه عامة إلى فصلين، هما فصل صيف طويل لا تغيب فيه الشمس مطلقًا لمدة قد تصل إلى ستة أشهر، وفصل شتاء مظلم قد تستمر ستة أشهر كذلك، ويتعرض الإسكيمو الذين يعيشون في تلك العروض، والرحالة الذين قد يصلون إليها خلال هذا الفصل المظلم لبعض الأمراض التي تنشأ نتيجة لحرمان الجسم من أشعة الشمس، ومن أهمها فقر الدم "الأنيميا" والأرق وعسر الهضم ولين العظام Rickets وغيرها.
ولكن إذا كان مناخ بعض الأقاليم يساعد على انتشار أنواع معينة من الأمراض فقد ثبت من ناحية أخرى أن هناك أنواعًا من المناخ تساعد على علاج بعض الأمراض المشهورة، حتى إن "تغيير الهواء" أصبح من أهم وسائل العلاج الحديثة، التي ينصح بها الأطباء، فقد تبين مثلًا أن هواء الجبال يساعد
1 Lebon، J.H.G. "an Introduction to Human Geography". 1952،p.4،3.
كثيرًا على علاج أمراض الرئة، وذلك بسبب تخلخله وبقائه وانخفاض نسبة الرطوبة به، كما تبين أن هواء الصحراء يساعد على علاج أمراض القلب، وهو يشبه هواء الجبال في نقائه كما أنه يمتاز بجفافه، ولكنه أقل تخلخلًا من هواء الجبال مما يجعله أقل إجهادًا للقلب1.
والمعروف أن الجسم البشري يتأثر تأثرًا مباشرًا بتقلبات الجو خصوصًا ما يتعلق منها بارتفاع الحرارة أو انخفاضها، ولكن مهما زادت التغيرات الحرارية فمن الثابت أن درجة حرارة الجسم تظل 37 ْمئوية، وأنها إذا ارتفعت عن ذلك بأكثر من أربع درجات فقد تتعطل أجهزة الجسم الحساسة وغالبًا ما تحدث الوفاة إذا وصل الارتفاع إلى خمس درجات، بينما يستطيع الجسم من ناحية أخرى أن يتحمل انخفاضًا قد يصل إلى عشر درجات مئوية، بمعنى أن الإنسان يمكنه أن يظل حيًّا حتى ولو انخفضت درجة حرارته إلى 27 ْمئوية. ولكي يظل الجسم البشري محافظًا على معدل درجة حرارته وهي 37 ْمئوية زوده الله جلت قدرته بوسائل متعددة لحفظ التوازن بين درجة حرارته ودرجة حرارة الجو المحيط به، ففي الجو الحار يستطيع الجسم أن يتخلص من الحرارة التي تزيد "بسبب عمليات الاحتراق التي تحدث به أو بسبب ارتفاع درجة حرارة الجو" بواسطة العرق الذي يؤدي تبخره إلى خفض درجة حرارة الجلد، أما في الجو البارد فإن الجسم يحاول الاحتفاظ بحرارته عن طريق تقلص الأوردة والشرايين الملاصقة للجلد مما يقلل من اندفاع الدم فيها ووصوله إلى السطح حيث تتعرض حرارته للضياع بملامسة الجلد والأطراف فقد تزداد برودتها بدرجة تؤدي إلى حدوث قشعريرة بها.
والمعروف أن الدورة الدموية هي التي توزع الحرارة على مختلف أجزاء الجسم
1 Miller A:Austin، "Climatology" 4th، 1944، p.4.