المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فرادة الدر الفريد - الدر الفريد وبيت القصيد - جـ ١

[محمد بن أيدمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌الدر الفريد وبيت القصيد

- ‌فَرادةُ الدر الفريد

- ‌محمَّد بن أيدمر

- ‌ثقافته وأدبه:

- ‌شاعريته وشعره:

- ‌الأشعار:

- ‌مؤلفاته:

- ‌مصادر ترجمته:

- ‌النسخة المعتمدة في التحقيق:

- ‌منهجي في التحقيق:

- ‌شكر وتقدير:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌ضرُوْبِ الشِّعْرِ

- ‌وَالشِّعْرُ لَهُ أسْبَابٌ:

- ‌وَإِبْدَاعُ المَعْنَى

- ‌وَيَتْلُوْهُمَا أصْنَافُ البَدِيْعِ:

- ‌أَمَّا صِدْقُ التَّشبِيْهِ

- ‌وَمُشَاكَلَةُ التَّجْنِيْسِ

- ‌وَمُبَايَنَة التَّطْبِيْقِ

- ‌وَوُقُوْعُ التَّضْمِيْنِ

- ‌وَنُصُوْعُ التَّرْصِيْعِ

- ‌وَاتِّزَانُ التَّسْمِيْطِ

- ‌وَصِحَّةُ التَّقسِيْمِ

- ‌وَمُوَافَقَةُ التَّوْجِيْهِ

- ‌وَحِدَّةُ الاسْتِطْرَادُ:

- ‌وَحَلَاوَةُ الاسْتِعَارَةِ

- ‌وَلُطْفُ المَخْلَصِ:

- ‌وَنَظَافَةُ الحَشْوِ:

- ‌وَالتَّرْدِيْدِ وَالتَّصْدِيْرِ:

- ‌وَتَأكِيْدُ الاسْتِثْنَاءِ

- ‌وَكَمَالُ التَّتْمِيْمِ:

- ‌وَالإِيْغَالُ فِي التَّبْلِيْغِ:

- ‌وَالإِغْرَاقُ فِي الغُلُوِّ:

- ‌وَمُوَازَاةُ المُقَابَلَة:

- ‌وَسُهُوْلَةُ التَّسْهِيْمِ:

- ‌وَوُقُوْعُ الحَافِرِ عَلَى الحَافِرِ:

- ‌وَدِلَالَةُ التَّتْبِيْعِ

- ‌وَالوَحْيُ وَالإِشَارَةُ وَتَكرِيْرُهَا:

- ‌وَبَرَاعَةُ الابْتِدَاءِ:

- ‌وَأَمَّا تَمْكِيْنُ القَوَافِي:

- ‌وَالمُلَائَمَةُ بَيْنَ صَدْرِ البَيْتِ وَعَجُزِهِ

- ‌وَإِرْدَافُ البَيْتِ بِأَخِيْهِ

- ‌وَإشْبَاعُ المَعْنَى بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَإبْرَازهُ فِي أحْسَنِ صِيْغَةٍ مِنَ البيانِ:

- ‌وَخَلُوْصُ السَّبْكِ:

- ‌وَلِلشَّاعِرِ أدَوَات لَا غِنَى لَهُ عَنْهَا

- ‌أَقْسَامُ الأَدَبِ

- ‌فَأَمَّا صِحَّةُ الانْتِقَادِ:

- ‌وَأَمَّا التَّمْيِيْزُ بَيْنَ المَدْحِ وَالشُّكْرِ

- ‌وَالفَصْلُ بَيْنَ الهَجْوِ وَالذَّمِّ

- ‌وَالبَوْنُ بَيْنَ الولَعِ وَالهَمْزِ

- ‌وَالتَّرْجِيْحُ بَيْنَ اللَّوْمِ وَالعَتَبِ

- ‌وَالفَرْقُ بَيْنَ الهَزِّ وَالاسْتِزَادَةِ

- ‌وَالتَّصَارفُ بَيْنَ التَّنَصُّلِ وَالاعْتِذَارِ

- ‌وَالحَدُّ بَيْنَ التَّقَاضِي وَالإِذْكَارِ

- ‌وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ أنْوَاع السَّرِقَاتٍ:

- ‌فَالسَّرِقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ:

- ‌فَنَظْم المَنْثُوْرِ

- ‌وَإحْسَانُ الآخِذِ عَلَى المَأْخُوْذِ مِنْهُ، وَزِيَادَتُهُ عَلَيْهِ:

- ‌وَالشِّعْرُ المَحْدُوْدُ وَالمَجْدُوْدُ:

- ‌وَتَكَافُؤُ إحْسَانِ المُتَّبِع وَالمُبْتَدِعِ:

- ‌وَنَقْلُ المَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ:

- ‌وَتَقَابُلُ النَّظَرِ فِي المَعْنَى إِلَى مِثْلِهِ:

- ‌وَالسَّلْبُ

- ‌وَالسَّلْخُ:

- ‌وَالالْتِقَاطُ وَالتَّلْفِيْقُ:

- ‌فَالخَلْعُ

- ‌وَالاصْطِرَافُ:

- ‌وَالإِغَارَةُ

- ‌وَالاجْتِلَابُ، وَالاسْتِلْحَاقُ:

- ‌وَالانْتِحَالُ

- ‌وَالإِنْحَالُ:

- ‌وَالمُرَافَدَةُ:

- ‌وَتَنَازُعُ الشَّاعِرَيْنِ فِي الشِّعْرِ

- ‌تَقْصِيْرُ المُتَّبعِ عِنْ إِحْسَانِ المُبْتَدِعِ، وَتَكَافُؤُ السَّارِقِ وَالسَّابِقِ فِي الإِسَاءةِ وَالتَّقْصِيْرِ

- ‌وَتَكَافُؤُ السَّارِقِ وَالسَّابِقِ فِي الإِسَاءةِ وَالتَقْصِيْرِ:

- ‌وَبَاقِي المَجَازَاتِ

- ‌الاسْتِعَارَاتُ المُسْتْكْرَهَةُ:

- ‌وَمَا اجْتَمَع فِيْهِ لِلشَّيْءِ الوَاحِدِ اسْمَانِ

- ‌وَمَا يُحْمَلُ الكَلَامُ فِيْهِ عَلَى المَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ

- ‌وَمَا لفظُهُ لَفْظُ الموجَبِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى النَّفْي

- ‌وَمَا يُخْبَرُ فِيْهِ عَنْ بَعْضِ الشَّيْءِ يُرَادُ بِهِ جَمِيْعُهُ

- ‌وَمَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُهُ

- ‌وَالحَذْفُ

- ‌وَمَا جَاءَ مِنَ التَّقْدِيْمِ وَالتَّأْخِيْرِ

- ‌وَمَا يُحْذَفُ مِنْهُ المُضَافُ، فَيَقُوْمُ المُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ

- ‌وَمَا فُرِّقَ فِيْهِ بينَ المُضَافِ وَالمُضَافِ إِلَيْهِ

- ‌وَمَا يُشَبَّهُ فِيْهِ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ، ثُمَّ يُجْعَلُ المُشَبَّهُ بِهِ هُوَ المُشَبَّهُ بِعَيْنِهِ

- ‌[خاتمة المقدمة]

الفصل: ‌فرادة الدر الفريد

‌فَرادةُ الدر الفريد

(1)

الأستاذ الدكتور محمد حسين الأعرجي

واسم الكتاب كاملًا هو: "الدرّ الفريد، وبيتُ القصيد" وهو من تأليف محمّد بن أيْدَمر.

وهو كتابٌ فريدٌ في التمثّل الشعريّ، ولكن لا أستطيع أن أقول: إنّه كتاب مختاراتٍ، على الرغم من أنَّه ضمَّ طائفةً من عيون الشعر العربيّ.

وقلتُ: إنّني لا أستطيع أن أصنّفه ضمن كتب المختارات؛ لأنَّ مؤلّفه سلك منهجًا في الاختيار لم يُسبَق إليه. ذلك أنَّه صنّف كتابه على حروف الهجاء، فألزم نفسَه أن يذكر البيت على وفق الحرف الذي يبدأ به، من الألف إلى الياء خاتمًا كتابه بالأبيات التي تبدأ بـ "أستغفر اللَّه. . . " وكأنّه يستغفر لما تقدَّم من ذنبه أن أضاع شيئًا من عمره في تأليف مثل هذا الكتاب، وليس في العبادة.

وإذا كانت فكرةُ أبيات الاستشهاد غير جديدة: إذ أنّنا نعرف من قبلِه كتاب "أبيات الاستشهاد" لأحمد بن فارس الذي حقّقه المرحوم الأستاذ الدكتور عبد السلام محمد هارون ضمن ما حقَّق من "نوادر المخطوطات" فإن منهج ابن أيدمر يختلف عن منهج ابن فارس صاحب "المجمل في اللغة" من وجوه مما يجعله منهجًا جديدًا هي:

أنَّه كان يهم ابن فارس أن يُدوّن ما رآه في عصره مما يستشهد به الناسُ من شعرٍ، فاكتفى بتدوين رسالةٍ صغيرةٍ ربّما يستعينُ بها محقُقو كتب الأمثال على ما يرد في تلك الكتب من شعرٍ يتمثّل به الناس.

(1) عن: في الأدب وما إليه، ط دار المدى - دمشق 2003 م، ص 273 - 289.

ص: 16

ورسالةُ ابن فارس بهذا المعنى لا تعدو أن تكون فصلًا صغيرًا جدًا من فصول كتب الأمثال من مثل: كتاب "الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة" لحمزة بن الحسن الأصفهاني، و"الأمثال المولّدة" لأبي بكر الخوارزمي، و"جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري، و"مجمع الأمثال" للميداني، وسواها من الكتب التي تأخّرت عنها.

أمَّا كتابُ ابن أيدمر فهو يكاد يكون موسوعةً شعريّة في بابه. مما سأفيض في الحديث عنه.

وإذا كان أقصى همُ ابن فارس أن يُثبت البيت كما روي دون أن يهمه تقصّي نسبته، فإنَّ ابن أيدمر على خلاف هذا تُهمّه نسبة البيت فإن ذُكر أنه يُنسب لأكثر من واحد ذكر ذلك، وفصله.

ووجهٌ آخر هو أنّ ابن فارس كان يذكر البيت مُفردًا، أمَّا ابن أيدمر فقد كان يهمّه أن يُثبت -حيثما تسنّى له ذلك- أكبر عددٍ من أبيات القصيدة التي ورد فيها البيت المستَشهد به.

وبجملة واحدة فإن كتاب "الدر الفريد" لا يشبِه لا "أبيات الاستشهاد" لابن فارس، ولا "أعجاز الأبيات" للمبرِّد.

وأجيء الآن إلى الكتاب فأقول:

إنّه يقع في خمسة أجزاء ما تزال مخطوطة كتبت بخطِّ المؤِّلف نفسه. وهو خطٌّ نسخيٌّ على درجة عالية من الجمال والضبط، وتستغرق هذه الأجزاء الخمسة أكثر من ألف ورقةٍ قليلًا، أي أكثر من ألفي صفحة. وقد أصدره -كما هو- الأستاذ العلّامة الدكتور فؤاد سزكين سنة: 1988 عن "معهد تاريخ العلوم العربية والإِسلامية في إطار جامعة فرانكفورت" بألمانيا.

وعقد المؤلِّف أغلب الجزء الأول من كتابه على مصطلحات البلاغة العربية من حيث هي مصطلحاتٌ جوفاء ميتة كما آلت إليه عند المتأخِّرين من أمثال السكّاكي، والتفتازاني، وعلي بن حمزة العلويّ، وسواهم، وليس كما كانت عند الجاحظ،

ص: 17

وابن المعتز، وعبد القاهر الجرجاني، وسواهم.

وإذًا فهذا الجانب البلاغي في الكتاب ليست له قيمةٌ إلَّا بمقدار ما يُمثِّل ما صارت إليه الثقافة النقدية من حال في القرن السابع الهجري.

وإذ انتهى من هذا الجانب البلاغيِّ العقيم شرعَ في سرد موسوعته الشعرية التي امتدّت من العصر الجاهليّ حتى القرن السابع الهجري، فكانت طريقتُه أن يسرد أبيات الشعر على الحروف الهجائية معتمدًا بدايات هذه الأبيات، وليس نهاياتها مراعيًا في سرد حرف الهجاء الذي يبدأ فيه ما يليه من حروف كأن يسرد حرف الألف فيبدأ بـ: أأ، أب، أت، أث، أج، . . . ولكنّه خرج عن طريقته هذه في حرف الألف فبدأ بالأبيات التي أولها:

"الحمد للَّه"، ثم الأبيات التي تبدأ بـ:"اللَّه"، وكأنَّه لا يريد أن يُقدِّم على اسم الجلالة وما يتّصل به من المعاني الدينية شيئًا آخر.

ولم يكن المؤلِّف غافلًا عن هذا، أو مبتدعًا له، وإنّما كان يتّبع ما درج عليه المؤلّفون في عصره، وقبله، وبعدَه من بدئهم -إذا ألّفوا في التراجم مثلًا على حروف الهجاء- بمن اسمُه محمَّد خروجًا على الترتيب الهجائي تيمَّنًا باسم الرسول الأعظم، وإكرامًا له أن يتقدَّم على اسمه اسمٌ آخر لا لشيء؛ إلَّا لأنّه يبدأ بالألف، وقد سار على هذا النهج الحُميدي في "جذوة المقتبس"، والصفدي في "الوافي بالوفيات" وعشراتٌ غيرهما إن لم يكن مئات.

وإذًا فقد كنّا ننتظر من المؤلّف أن يبدأ في حرف الألف -على سبيل المثال- بقول الشاعر الذي ذكره هو (1) بيتًا ثانيًا من الأبيات التي اختارها:

أآخر شيءٍ أنتِ في كلِّ هجعةٍ

وأوِّلُ شيءٍ أنتِ عندَ هبوبي؟

فلم يفعل إلَّا بعد أن انتهى من الأبيات التي زانها اسمُ الجلالة كما سبق أن ذكرت. ثم تدرج في ذكر الأبيات على حروف المعجم جميعها إلى أن انتهى منها،

(1) الدر الفريد - المخطوط 1/ 195.

ص: 18

فرجع إلى الألف يختم تأليفه بقول القائلين -كما أسلفت- "أستغفر اللَّه. . . ".

وعلى أن الكتاب قائمٌ على سرد الأبيات التي تبدأ بهذا الحرف أو ذاك، وهو يكتفي بأن يسرد في المتن عادةً بيتًا واحدًا للشاعر لا أكثر، إلا أن قيمته لا تتأتّى من هذا السرد وحده في المتن، وإنّما من حواشي هذه المتون؛ فقد اعتاد المؤلِّف أن يذكر البيت في المتن ثم يضع إلى جنب قافيته كلمة "حاشية" فيتفنَّنن في رسمها بحيث يُحيلك إلى موضع الحاشية من كتابه وتكون مكتوبة عادة بخطٍّ رقيق، دقيق ليضيف في الحاشية بقيَّة أبيات القصيدة، فإن لم يفعل أضاف إليه أبياتًا؛ فإن لم يعرف كتب في نهاية قافية البيت كلمة:"بعدَه" ليضيف الأبيات التي بعدَه، أو كلمة "قبلَه" ليضيف إليه الأبيات التي قبلَه، وقد يُضيف في أحيانٍ بيتًا واحدًا.

ولئلا يلتبس الأمر على القارئ الكريم أجدني مطالبًا أن أضرب له مثلًا على ذلك فأقول:

قال المؤلف ابنُ أيْدَمر (1): "خُليد مولى العباس بن محمد:

أطعتِ الآمريكِ بصرمِ حبلي

مُرِيهمْ في أحبَّتهمْ بذاك"

ثم قال: حاشية، أبيات خليد أولها:

أما والراقصات بذات عِرقٍ

ومن صلَّى بنعمان الأراكِ

لقد أضمرتُ حبَّكِ في فؤادي

وما أضمرتُ من حبٍّ سواكِ

أطعت الآمريك: البيت، وبعدَه:

فإنْ همْ طاوعوكِ فطاوعيهمْ

وإن عاصوكِ فاعصيْ من عصاكِ

عرضتُ بحاجتي فَنَبَوْتِ عنها

وما أَنْبُو لحاجتكم كذاكِ"

وبهذه الطريقة أورد المؤلِّف في المتن وحدَه ما يقرب من عشرين ألف بيتٍ كانت في طائفةٍ منها من نفائس الشعر العربيِّ.

فإذا قدَّرتَ أنَّ ما أورده في حواشيه مُعدَّلُه عشرون بيتًا -هو تقديرٌ اعتباطيٌّ-

(1) الدر الفريد - المخطوط 2/ 156.

ص: 19

استقام لك أن تقول: إنَّ الكتاب احتوى على أربعمائة ألف بيت، وتهيَّأ لك أن تدرك مقدار الثروةِ التي ضمَّها هذا الكتاب.

وبهذا كان من شأن قارئ الكتاب أن يستدرك على كثيرٍ من صُنّاع الدواوين ما فاتهم من أشعار أولئك الشعراء الذين صنعوا دواوينهم، من مثل: ديك الجنّ، وأبي عليَّ البصير، وأبي هفّان، وابن أبي طاهر، ويحيى بن عليّ المنجم، وعلي بن محمد الحمّاني، وسابق البربري، وأبي دُلف العجليّ، ومحمد بن بشير الخارجي، ومحمد بن حازم الباهلي، وابن لنكك البصري، وعشرات غيرهم (1):

على أن قيمة الكتاب لا تتأتّى من هذه الثروة وحدها ففي كتب الاختيارات ابتداءً بحماسة أبي تمام وانتهاءً بجمهرة الجواهريّ ما هو من نفائس الشعر العربى، ومن عيونِه، وإنّما تأتي قيمتُه من أنَّ كلَّ كتب الاختيارات لا تُغني عنه. بل إنّه إذ يعتمد "الحماسة" لأبي تمام يدلك في اعتماده أنّ الذي بين أيدينا منها ليس هو ما تركه أبو تمام تمامًا: فقد كان بين يدي المؤلّف من كتاب أبي تمام شيءٌ أوفى مما هو بين أيدينا اليوم.

وإذا شئت أن أضرب لك مثلًا على ذلك أحلتُك تمثيلًا لا حصرًا على ما أورده أبو تمام في "الحماسة": برواية الجواليقي، طبعة وزارة الإعلام العراقية (2)، وعلى قول كتابنا (3)، لتجد أن الذي نقله مؤلفنا عن "الحماسة" يزيد على ما في المطبوع.

قال أبو تمام في حماسته: "وقال آخر:

وأَعرضُ عن مطاعمَ قد أراها

فأترُكُها وفي بطني انطواءُ

فلا وأبيك ما في العيشِ خيرٌ

ولا الدُّنيا إذا ذهبَ الحياءُ

(1) ينظر لكاتب هذه السطور مقالته "مما أُخلَّت به الدواوين" في مجلة "العرب" ج 3، 4 س:34. كانون الثاني شباط: 1999، وما بعده.

(2)

حماسة أبي تمام 339.

(3)

الدر الفريد - المخطوط 5/ 231.

ص: 20

يعيشُ المرءُ -ما استحيا- بخيرٍ

ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ"

فزاد ابنُ أيدمر على ما قال بيتين هما:

"إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي

ولم تَستَحي فافعلْ ما تشاءُ

وكُلُّ شديدة نزلت بقَومٍ

سيأتي بعدَ شدّتِها رخاءُ"

ويمكنني أن أحيلك على الصفحة: 31 من "الحماسة" وعلى الصفحة: 342 من الجزء الخامس من كتابنا لتجد أن المطبوع من "الحماسة" قد نسب مقطعة الرثاء الرائية الرائعة التي مطلعها:

أقول لنفسي في الخلاء ألومها

لكِ الويلُ، ما هذا التجلّدُ والصبرُ؟ !

والحقُ أنَّ نسبة الأبيات الرائية إلى يحيى بن زياد ليست بغريبة؛ فقد روى أبو تمام نفسُه على الصفحة: 24 - 241 مُقطعة عينيَّة لا تقل عن أختها الرائية روعةً ليحيى في رثاء أخيه عمرو؛ ورواها أيضًا ابن الأعرابيِّ معاصر أبي تَمام على الصفحة: 53 من كتابه: "مقطعات مراث" له.

وليس من همِّي أن أُفاضل بين النِّسبتين، وإنَّما أردتُ أن أنبِّه.

وكما نقل عن "الحماسة" نقل عن كتب أخرى لا نعرف منها اليوم شيئًا، ولم تعرفها المصادر التي سبقته من مثل:"شُعلة القابس" لابن دُريد (1)، و"الرسالة الباهرة" لأبي عليّ الحاتمي (2)، ومن مثل:"زهرة الرياض وأُنس القلوب المراض" للوشّاء (3)، و"ديوان الإمام علي بن أبي طالب" برواية محمد بن عمران

(1) الدر 3/ 365، وتنظر مؤلفات ابن دريد في مقدّمة كتابه جمهرة اللغة 1/ 908، الطبعة الهندية، وفي مقدمة كتابه الاشتقاق: 15 - 21.

(2)

تنظر مؤلفات الحاتمي في حلية المحاضرة 1/ 77 - 78، بتحقيق الدكتور جعفر الكتاني، وينظر ذكر الكتاب في الدر 5/ 105.

(3)

تنظر مؤلفاته في معجم الأدباء 17/ 133 طبعة دار المأمون، وقد ذكر ابن أيدمر الكتاب في السابق 2/ 207. =

ص: 21

المرزباني؛ إذ لم يذكر أحدٌ هذا الديوان في مؤلِّفات المرزباني (1) ونقل أيضًا عن كتب قريبة من عهده لا أظنُّ أنّنا نعرف عنها شيئًا من مثل: "تحفة الكبراء في تراجم الشعراء"(2) لابن الشعّار الموصلي. وقد يكون نقل عن كتب أخرى لم أتنبَّه إليها أثناء القراءة.

وكما كان ينقل من هذه الكتب كان ينقل من خطوط علماء معروفين مشهورين من مثل العالم اللغوي صاحب كتاب "إصلاح المنطق" ابن السكّيت، والمترسِّل الكبير أبي إسحاق الصابي، والخطيب الأجلّ الإمام علي بن أبي طالب، وابن شمس الخلافة صاحب كتاب "الآداب" المطبوع، وكتاب "الشعر" الذي ما يزال مخطوطًا، والمرزباني صاحب "الموشح" و"معجم الشعراء" و"المقتبس"، ونقل عن خطوط غير أولئك العلماء.

وتأتي قيمة الكتاب أيضًا من أنَّه عرَّفنا بشعراء ما كنتُ أنا -ولا أزعم أن الآخرين مثلي- لأعرفهم من مثل: شمس الدين الواعظ الكوفي، وخيار بن نجاح، والظفري البغدادي -وهو حمّال أميٌّ- وأبي الجاه البطائحي، وابن الفُريْريجة، والصراف اليزدي، وابن لقمان النسفي، وابن البياضي، ومحمد بن شبل، وهو شاعرٌ بغداديٌّ تلفت شاعريته النظر، والبيذق الشيباني، والكادوشي، واليعقوبي وهو من أحفاد الوزير يعقوب بن داود، والصارم، وناصر بن منصور الغزالي، وسواهم.

(1) تنظر جريدة مؤلفاته في معجم الأدباء 18/ 272؛ وفي مقدمة الأستاذ فرّاج محقق كتابه معجم الشعراء: ب. د.

(2)

ينظر الدر 5/ 535، ومن مؤلفات ابن الشعار التي وصلت إلينا مخطوطة كتابه:"عقود الجمان في شعراء هذا الزمان". وقد وصل إلينا مفقودًا منه جزآن هما، الثاني والثامن. ينظر الشعر العربي في العراق من سقوط السلاجقة حتى سقوط بغداد: 9، عبد الكريم توفيق العبّود. وزارة الإعلام، بغداد 1976 [قام بتحقيقه مؤخرًا كامل سلمان الجبوري وصدر عن دار الكتب العلمية في 2005 م/ 1426 هـ].

ص: 22

ومن فوائد هذا الكتاب أن يروي لك من المعلومات ما هو مختلفٌ عمّا تتداوله المصادر، وسأكتفي بمثلين اثنين منها، أوّلهما ما قاله السيوطي في "بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة" (1) عمّن أسماه:"مكي بن ريان بن شبَّة. . . الماكسينيّ الضرير. . . أبو الحرم" إذ هو في كتابنا: "أبو الحزم مكي بن زبّان بن شَبَهٍ الماكسُ الضرير" وشتّان بين من مهنتُه المكسُ (أي: استيفاء الضرائب) وبين من هو من قرية بني تغلب: "ماكسين".

وبعيدٌ جدًا -لولا التصحيف- الذي بين "الحرم" و"الحزم". فالمظنون في أبٍ يُكنّي ابنَه، وفي رجلٍ يُكنّي نفسه أن يكون أبا الحزم، لا أبا الحرم؛ لأنَّه إن كُنِّي بأبي الحرم -بفتح الحاء والراء- استكبر المسلمون ذلك واستنكروه؛ لأنَّ الحرم هو الكعبة المشرَّفة، وإن كنّاها بأبي الحُرم -بضمِّ الحاء وفتح الراء- كان أوَّل من يتمنّى في العرب أن تكون ذريته من النساء، وذلك مما لم يقل به أحدٌ من العرب من يوم وأد البنات إلى يومنا هذا. هذا وليس في التكنّي بالحرم مهما قلبتَ من حركات الحاء والراء منها -لولا أشياء غريبة يسيرة- من يرضى أن يتكنّى بها من العرب.

وإذ جعل السيوطي وفاته سنة: 603 جعلها صاحبنا سنة: 563. ولا أعرف حتى هذا اليوم الذي أكتب فيه إن كان السيوطيّ قد قال ما قال أم أنَّ المحقِّق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم قد قوَّله.

أقول هذا لأنَّ السيوطي نقل عن ابن المستوفي الأربلي في تأريخ أربل (وتسمّى: أربيل اليوم)، وابنُ المستوفي ثقةٌ من الثقات، فهل صحّف؟ هذا وقد حقَّق تأريخه السيد سامي الصفّار، وطبع في بغداد.

أما المثل الثاني فهو أنه تكاد تُجمع المصادر على تلقيب أبي بكر الخوارزمي بالطَّبَرْخَزي نحتًا من طبرستان التي تزعم المصادر أنّ أصله منها، ومن خوارزم التي نشأ فيها (2)، ونجد في هذا الكتاب أنَّه الطَّبَرْخَزْمي، وليس الطبرخزي،

(1) بغية الوعاة 2/ 299.

(2)

ينظر ما قدمتَ به تحقيقي لكتابه: "الأمثال" ط 1، الجزائر: د.

ص: 23

والطبرخزمي أقرب إلى قواعد النحت في العربية من سواه.

على أنّ كلَّ هذه الفوائد لم تعصم المؤلِّف أن يقع في تصحيفات وتحريفات يعجب المرءُ معها أن كيف يقعُ مؤلِّفٌ بمثلِ مكانته فيها؟ حتى لكأنّه يريد أن يُقنع من لا يريد أن يقتنع بأنّ النقص من طبيعة البشر. وإذا كان لا بد من أمثلةٍ فهي من قبيل أن يُسمي أبا دلف العجلي: القاسم بن عدي (1)، ويعرف الناس جميعًا أنَّه القاسم بن عيسى، ومن مثل أن يُسمّي المثقب العبدي في 3/ 225، وكرر ذلك في: 4: 225 "المنقب"، ومن مثل أن يتحرف على قلمه العلويّ الحِمّاني في 3: 50 على الجُهني، والحكم بن قنبر في 4/ 285 على الحكيم، ويزيد بن خذاق في 5/ 371، و 386 من الجزء نفسه على: يزيد بن حذاق، وهكذا مما قد يكون فات عليَّ.

والكتاب بعد كلِّ هذا ليس كتاب شعر وحده ففيه من الفوائد التأريخية، واللغوية، والعروضية، شيءٌ كثيرٌ، وفيه من أمثال البغداديّين، ولغتهم المولّدة أشياء نافعةٌ طريفة.

وقلتُ: إنَّ في الكتاب فوائد تأريخية، وآن لي أن أخصَّ فائدةً من هذه الفوائد بحيث فأقول:

دأبَ كثيرٌ من الباحثين على اتّهام الوزير مؤيِّد الدين بن العلقمي بالتواطؤ مع المغول على سقوط بغداد بأيديهم سنة: 656 هـ حتّى أدى ذلك إلى مطارحات دارت على صفحات مجلة "العربي" الكويتية -في أواخر الخمسينيات إذا صدقت الذاكرة- بين العلّامتين الجليلين الراحلين: الدكتور مصطفى جواد، والشيخ محمد رضا الشبيبي، وحتّى ألّف الشيخ محمد الشيخ حسين الساعدي كتابه:"مؤيِّد الدين بن العلقمي".

وإذًا فمسألة ابنُ العلقمي مسألةٌ شائكةٌ، وقد تكون أسطورية إلى الدرجة التي يُراد فيها منّا أن نصدِّق بأنّه حلق رأس غلامٍ له وكتب عليه رسالةً، ثم انتظر أن يطول

(1) ينظر: الدر الفريد 3/ 263.

ص: 24