الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية: أنه أخبره بأنه من أهل الجنة، وأمره بإكرامه ففعل، فرآه قائلا له:«أكرمك الله كما أكرمت رجلا من أهل الجنة» ، فسأله بم استحق ذلك؟
فقال له: «يفعل- ما مرّ- عقب صلاته منذ ثمانين سنة، أفلا أكرم من يفعل هذا؟!» .
وجاء بسند ضعيف: «من صلّى عليّ مئة صلاة حين يصلّي الصبح قبل أن يتكلم.. قضى الله له مئة حاجة، يعجّل له منها ثلاثين، ويدّخر له سبعين، وفي المغرب مثل ذلك» ، قالوا: كيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال:
الرابع: عقب إقامتها
، وعقب الأذان، فتسن عقبهما: (اللهمّ؛ ربّ هذه الدعوة التامة
…
) إلخ.
روى مسلم وغيره: «إذا سمعتم المؤذن
…
فقولوا: مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ؛ فإنه من صلّى عليّ صلاة.. صلّى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة.. حلّت له الشفاعة» «2» ، وفي رواية:«حلت له شفاعتي يوم القيامة» «3» ، وفي رواية لمسلم:«حلّت عليه» .
وحلّت: وجبت كما صرح به في روايات صحيحة، ومعنى وجبت: أنها ثابتة لا بدّ منها بالوعد الصادق، أو نزلت به؛ فعلى الأول: مضارعه يحل بكسر الحاء، وعلى الثاني: يحل بضمها، وليس من الحل ضد الحرمة؛ لأنها
(1) عزاه الإمام السخاوي في «القول البديع» (ص 348) للحافظ أحمد بن موسى.
(2)
أخرجه مسلم (384) ، وابن خزيمة (418) ، وابن حبان (1690) ، وأبو داود (523) وغيرهم.
(3)
أخرجه ابن حبان (1691) ، والطبراني في «مسند الشاميين» (246) .
لم تكن محرّمة قبل، وفيه بشرى عظيمة لقائل ذلك: أنه يموت على الإسلام؛ إذ لا تجب الشفاعة إلا لمن هو كذلك، وشفاعته صلى الله عليه وسلم لا تختص بالمذنبين، بل تكون برفع الدرجات وغير ذلك كما يأتي.
فالشفاعة الواجبة لسائل الوسيلة: إما برفع درجات، أو تضعيف حسنات، أو بإكرامه بإيوائه إلى ظلّ العرش، أو كونه في مروج، أو على منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعض دون بعض.
وقوله: (له) أي: يخص بشفاعة ليست لغيره، أو يفرد بشفاعة مما يحصل لغيره تشريفا له، أو أن دخوله في الشفاعة لا بدّ منه.
وقوله: (شفاعتي) أي: أنه يشفع فيه بنفسه، والشفاعة تعظم بعظم الشافع، وقيّد القاضي عياض ذلك عن بعض شيوخه بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلاله صلى الله عليه وسلم، دون من قصد به مجرد الثواب «1» ، وردّ بأنه تحكم غير مرض، ولو أخرج الغافل اللّاهي.. لكان أشبه، ويأتي جميع ما تقرر في خبر الدارقطني والبيهقي وغيرهما:«من زار قبري.. وجبت له شفاعتي» «2» وفي رواية: «حلّت له» .
وفائدة طلبه الوسيلة مع رجائه لها، ورجاؤه لا يخيب.. إعلامنا بأن الله تعالى لا يجب عليه لأحد من خلقه شيء، وأنّ له أن يفعل بمن شاء- وإن جلت مرتبته- ما شاء، ففي ذلك عظيم إظهار تواضعه وخوفه المقتضي لمزيد رقيّه وعلوّه، ففيه فائدة عائدة عليه صلى الله عليه وسلم وعلينا، ولقد غفل من لم يمعن النظر في هذا المقام عما ذكرته، فأجاب بانحصار فائدة ذلك لنا بامتثال ما أمرنا به في جهته الكريمة.
وروى أحمد: «من قال حين ينادي المنادي: اللهمّ؛ ربّ هذه الدعوة
(1) إكمال المعلم (2/ 253) .
(2)
الدارقطني (2/ 278) ، الشعب (4159) .
التامة والصلاة القائمة؛ صلّ على محمد، وارض عنه رضا لا سخط بعده..
استجاب الله دعوته» «1» .
وروى البخاري: «من قال حين يسمع النداء: اللهمّ؛ ربّ هذه الدعوة التامة
…
» «2» إلخ ما ذكره، المراد منهما بعد فراغه، لرواية مسلم السابقة:
«ثم صلّوا عليّ، ثم سلوا الله
…
» إلخ.
وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي الدّرداء: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم: «اللهمّ؛ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة؛ صلّ على محمد، وآته سؤله يوم القيامة» «3» وكان يسمعها من حوله صلى الله عليه وسلم، ويحبّ أن يقولوا مثل ذلك إذا سمعوا المؤذن، ومن قال مثل ذلك إذا سمع المؤذن.. وجبت له شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأخرجه الطبراني لكن بلفظ: «كان إذا سمع النداء.. قال: اللهمّ؛ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة؛ صلّ على محمد عبدك ورسولك، واجعلنا في شفاعته يوم القيامة» ، قال صلى الله عليه وسلم:«من قال هذا عند النداء.. جعله الله في شفاعتي يوم القيامة» «4» .
وسؤله: حاجته من نحو: الشفاعة العظمى، والحوض، ولواء الحمد، والوسيلة، وغير ذلك مما أعدّه الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني بسند فيه راو ليّن الحديث: «من قال حين يسمع النداء:
أشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
(1) أخرجه أحمد (3/ 337) ، والطبراني في «الأوسط» (196) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (46) .
(2)
أخرجه البخاري (614) ، وابن حبان (1689) ، وأبو داود (529) ، والترمذي (211) وغيرهم.
(3)
أخرجه ابن أبي عاصم في «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» (75) .
(4)
المعجم الأوسط (3675) .
اللهم؛ صلّ على محمد، وبلّغه درجة الوسيلة عندك، واجعلنا في شفاعته يوم القيامة.. وجبت له الشفاعة» «1» .
واعلم أنه مر تفسيره صلى الله عليه وسلم للوسيلة بأنها أعلى منزلة أو درجة في الجنة، وأصلها لغة: ما يتقرب به للكبير، قال سبحانه وتعالى:
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، قال جمع: هي القربة، وقال آخرون: كلّ ما يتوسّل- أي: يتقرب به- كالتوسل إلى الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم.
و (المقام المحمود) : هو الشفاعة العظمى في فصل القضاء، يحمده فيه الأولون والآخرون، ومن ثمّ فسّر في أحاديث بالشفاعة، وعليه إجماع المفسرين على ما قاله الواحدي، وقيل: شهادته لأمته وعليهم، وقيل:
إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، وقيل: هو أن يجلسه الله عز وجل على العرش، وفي «صحيح ابن حبان» :«يبعث الله الناس، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود» «2» .
ولا ينافي الأول، لاحتمال أن هذه الكسوة علامة على الإذن له في الشفاعة العظمى.
ثم رأيت بعض المحققين ذكر ما يقرب منه، فقال: يظهر أن المراد بالقول المذكور: هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة، وأن المقام المحمود: هو جميع ما يحصل له في تلك الحالة.
وله صلى الله عليه وسلم شفاعات غير العظمى، كالشفاعة لمن يدخل من أمته صلى الله عليه وسلم الجنة بغير حساب، وهذه كالعظمى من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
- ولعصاة أدخلتهم ذنوبهم النار فيخرجون، وإنكار المعتزلة لهذه من
(1) المعجم الكبير (12/ 66) .
(2)
أخرجه ابن حبان (6479) ، والحاكم (2/ 363) ، وأحمد (3/ 456) ، والديلمي في «الفردوس» (8769) .
ضلالاتهم، كيف وقد صحت الأحاديث الكثيرة بها من غير معارض لها؟!
- ولقوم استحقوا دخولها فلم يدخلوها، قال النووي: ويجوز أن يشركه في هذه الأنبياء والعلماء والأولياء.
- وفي قوم حبستهم الأوزار ليدخلوا الجنة.
- ولبعض أهل الجنة في رفع درجاتهم، فيعطى كل منهم ما يناسبه، قال:
وهذه يجوز أن يشركه فيها من ذكر أيضا.
- ولمن مات بالمدينة الشريفة.
- ولمن زار قبره صلى الله عليه وسلم.
- ولفتح باب الجنة كما رواه مسلم «1» .
- ولمن أجاب المؤذّن.
- ولقوم كفار لهم سابق خدمة له صلى الله عليه وسلم في تخفيف عذابهم.
- والشفاعة لأهل المدينة الشريفة بالمعنى السابق في الشفاعة لسائل الوسيلة.
واعلم أن للغزالي رحمه الله تعالى في معنى الشفاعة وسببها كلاما نفيسا، حاصله: (أنها نور يشرق من الحضرة الإلهية على جوهر النبوة، وينتشر منه إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة، لشدة المحبة، وكثرة المواظبة على السنن، وكثرة الذكر له بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ومثاله: نور الشمس إذا وقع على الماء؛ فإنه ينعكس منه إلى محل مخصوص من الحائط دون جميعه، وسبب الاختصاص المناسبة بينه وبين الماء في الموضع الذي إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء.. حصلت
(1) الحديث بتمامه كما في «مسلم» (197) : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك» .
منه زاوية على الأرض مساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس، بحيث لا يكون أوسع منها ولا أضيق، وهذا لا يمكن إلا في موضع مخصوص من الجدار، فكما أن المناسبات الوضعية تقتضي الاختصاص بانعكاس النور، فالمناسبات المعنوية العقلية تقتضي ذلك أيضا في الجواهر المعنوية، ومن استولى عليه التوحيد.. فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة الإلهية، وأشرق عليه النور من غير واسطة، ومن استولى عليه السنن، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ومحبته ومحبة أتباعه، ولم تترسخ قدمه في ملاحظة الوحدانية.. لم تستحكم مناسبته إلا مع الواسطة، فافتقر إلى واسطة، في اقتباس النور، كما يفتقر الحائط الذي ليس مكشوفا للشمس إلى واسطة الماء المكشوف للشمس.
وإلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في الدنيا، فالوزير الأقرب لملك..
يحمله على العفو عن جرائم أصحابه، لا لمناسبة بينهم وبين الملك، بل بينهم وبين الوزير المناسب للملك، ففاضت عليهم العناية بواسطة الوزير لا بأنفسهم، ولو ارتفعت الواسطة.. لم تشملهم العناية أصلا؛ لأن الملك لا يعرفهم، ولا يعرف اختصاصهم بالوزير إلا بتعريفه وإظهاره الرغبة في العفو عنهم، فسمّي لفظه من التعريف إظهارا للرغبة: شفاعة مجازا، وإنما الشفيع مكانته عند الملك، واللفظ لإظهار الغرض، والله سبحانه وتعالى مستغن عن التعريف، ولو عرف الملك حقيقة اختصاص غلام الوزير به.. لاستغنى عن التعريف، وحصل العفو بشفاعة لا نطق فيها ولا كلام، والله سبحانه وتعالى عالم به، ولو أذن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما هو معلوم له.. لكانت ألفاظهم أيضا ألفاظ الشفعاء.
وإذا أراد الله تعالى أن يمثل حقيقة الشفاعة بمثال يدخل في الحسّ والخيال.. لم يكن ذلك التمثيل إلا بألفاظ مألوفة في الشفاعة، ويدلّك على انعكاس النور بطريق المناسبة: أن جميع ما ورد من الأخبار عن استحقاق الشفاعة معلّق بما يتعلّق به صلى الله عليه وسلم من صلاة عليه، أو زيارة