الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: اختصاص الأنبياء بأنهم الذين قامت بهم حجة الله على خلقه
، وبأن آدم منهم سجد له الملائكة، والمسجود له أفضل من الساجد.
ومنها: أن للبشر طاعات لم يثبت مثلها للملائكة كالجهاد
والغزو، ومخالفة الهوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على البلايا والمحن.
ومنها: أن طاعات البشر أكمل
؛ لأن الله تعالى كلفهم بها مع وجود صوارف عنها قائمة بهم وخارجة عنهم، ولا شك أن فعل الشيء مع مشقته ووجود الصارف عنه.. أبلغ في الطاعة والإذعان من فعله مع عدم ذلك؛ إذ لا امتحان فيه بوجه.
لا يقال: جعلت صلواتهم كالتشريف له صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أفضليتهم عليه؛ لأنا نقول: يبطل ذلك أمر المؤمنين بالصلاة عليه أيضا؛ بل ربما يعكس ذلك، ويقال: جعلت صلواتهم قربة منهم إليه، وهذا صريح في أفضليته عليهم.
واحتج كثيرون لأفضليتهم بقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأن اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم دالّ على استغنائهم عن الاستغفار لأنفسهم، وإلا لبدؤوا بأنفسهم لخبر:«ابدأ بنفسك» «1» ، والأنبياء محتاجون للاستغفار، قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.
ولك ردّه بمنع دلالته على ذلك الاستغناء؛ لأن عدم الإخبار عنهم به لأنفسهم لا يدل على عدم وقوعه منهم، ولو سلمناه.. فالاشتغال به يحتمل أنه لإيثارهم المرتبة العليا، وهي النفع المتعدي الأفضل غالبا من النفع القاصر، فدعاؤهم لغيرهم متعدّ، ولأنفسهم نفع قاصر، وليس لعصمتهم؛ فإن الأنبياء معصومون مع أنهم مأمورون به؛ لأنه لا يستلزم ذنبا، بل قد يكون في حقهم للترقي في درجات القرب، والمراد بالذنب في وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ: مخالفة
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 33) عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا.
الأولى والأفضل الصادرة منه صلى الله عليه وسلم في نادر من الأحيان لاجتهاد ظهر له، فأمر بتدارك ذلك بالاستغفار منه؛ حتى يترقى إلى ما لا يصل إليه غيره من درجات الكمال، ونهايات الإجلال.
على أنه قيل: إن استغفارهم للبشر كالعذر لمّا طعنوا فيهم بقولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ أي:
فبان خلاف ما ظنوه، ولا سيّما «1» لما تميز عليهم آدم بمرتبة الخلافة الكبرى، والعلم المحيط بسائر الأسماء ومسمياتها، المقتضي لخضوعهم له، ودخولهم تحت تلمذته وتبعيّته، حتى علّمهم وأنبأهم من تلك العلوم بما بهرهم واستصغرهم، حتى أمروا بالسجود له، وهذه شواهد لأفضليته وتميّزه عنهم.
وقيّد الإمام الخلاف في الملائكة بالسماوية، وظاهر كلام غيره أنه لا فرق.
نعم؛ قال ابن عبد السلام: (محل الخلاف في أرواح الأنبياء والملائكة، أما أجساد الملائكة.. فهي لكونها خلقت من نور أفضل)«2» ، ويؤيده قول ابن المنيّر «3» :(مذهب أهل السنة: أن الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة، لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية، ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من الملائكة.. لكان كل بشر أفضل من الملائكة، معاذ الله تعالى) اهـ
(1) فائدة: قال ابن هشام في «مغني اللبيب» [1/ 186] : (ولا سيّما: تشديد يائه، ودخول «لا» عليه، ودخول الواو على «لا» .. واجب، قال ثعلب: من استعمله على خلاف ذلك.. فهو مخطىء) . قال الرضي في «شرح الكافية» (2/ 136) : (وتصرّف في هذه اللفظة تصرفات كثيرة لكثرة استعمالها، فقيل: «سيّما» و «لا سيما» بتخفيف الياء مع وجود «لا» وحذفها) وبقول الرضي رحمه الله تعالى يخرّج استعمال الفقهاء رحمهم الله تعالى ل (سيّما) غير مقترنة ب (الواو) ولا ب (لا) .
(2)
القواعد الكبرى (2/ 377) .
(3)
في (أ) : (ابن المنذر) .
نعم؛ ما اقتضاه كلامه من قصر المفاضلة على الرسول دون النبي.. غير مراد.
وقال الشيخ عز الدين: (لا يفضّل الملائكة إلا هجّام بنى التفضيل على حالات توهمها، ولا شك أن القليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف، قال: وليس لأحد أن يفضّل أحدا على أحد، ولا أن يسوّي أحدا بأحد حتى يقف على أوصاف التفضيل والتساوي) اهـ «1»
هذا، وبقي في المسألة أقوال أخر، أحدها مذهب المعتزلة: أن الملائكة أفضل مطلقا، ووافقهم أئمة من أهل السنة كالباقلّاني، والأستاذ أبي إسحاق، وأبي عبد الله الحاكم، والحليمي، والرازي في «المعالم» ، وأبي شامة، ولمّا روى البيهقي في «الشعب» أحاديث المفاضلة.. قال:(ولكلّ دليل ووجه، والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو عليه) اهـ «2»
واستفيد منه: أن ذلك لا يجب اعتقاده، لكن قضيّة كلام التاج السبكي وجوبه، ويؤيد الأول قول صاحب «التعريف» :(مذهبهم السكوت عن التفاضل، وقالوا: الفضل لمن فضّله الله تعالى، ليس بجوهر ولا عمل، ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل، وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرفة الحكم فيها، فلنفوّض إلى الله تعالى، ونعتقد أن الفضل لمن فضّله الله تعالى) اهـ
وقال الإمام أبو المظفر الإسفراييني: (اتفقوا على أن عصاة المؤمنين دون الأنبياء والملائكة، واختلفوا في المفاضلة بين المطيعين والملائكة على قولين)، قال ابن يونس في «مختصر الأصول» بعد ذكر القولين:(وقال الأكثرون منا: المؤمن الطائع أفضل من الملائكة) ، والمعتمد من هذا
(1) القواعد الكبرى (2/ 379) .
(2)
شعب الإيمان (1/ 182) .