الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفائدة] الثالثة:
اختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى ومن ملائكته على نبيّه صلى الله عليه وسلم على أقوال:
- فقيل: هي منه تعالى ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، ورواه البخاري عن أبي العالية، وغيره عن الرّبيع بن أنس، وجرى عليه الحليميّ فقال في «شعب الإيمان» ما حاصله: (هي في اللسان التعظيم، وسمّيت بها ذات الأركان لما فيها من حني الصّلا، وهو وسط الظهر؛ لأن انحناء الصغير به للكبير تعظيم منه له عادة، ثم سمّوا قراءتها صلاة أيضا؛ لأن جميع ما اشتملت هي عليه من نحو قيام وقعود إنما أريد به تعظيم الربّ، ثم توسّعوا فسمّوا كل دعاء صلاة؛ لأن فيه تعظيم المدعوّ بالرغبة إليه، والمدعوّ له بابتغاء ما ينبغي له.
ومعنى «الصلوات لله» أي: الأذكار المراد بها تعظيمه، والاعتراف له بجلالة القدر وعلوّ المرتبة.. مستحقة له، لا تليق بأحد سواه.
فمعنى «اللهم صلّ على محمد» : اللهم عظّمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وإجزال أجره ومثوبته، وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافة المقربين الشهود) اهـ «1»
وتفسير (صلّ عليه) بالتعظيم لا ينافي عطف آله وأصحابه عليه في ذلك؛ لأن تعظيم كلّ أحد بحسب ما يليق به.
- وقيل: رحمته، ونقله التّرمذي عن الثّوري وغير واحد من أهل العلم، ونقل عن أبي العالية أيضا، وعن الضحاك، وجرى عليه المبرّد وابن الأعرابي، والإمام الماوردي وقال:(إن ذلك أظهر الوجوه) ، والفخر الرازي والآمدي، والزمخشري حيث قال: (لما كان من شأن المصلي أن
(1) شعب الإيمان (2/ 133- 134) .
ينعطف في ركوعه وسجوده.. استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤّفا، كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤّف، ومنه قولهم:«صلى الله عليك» أي: ترحّم وترأّف) اهـ «1» ، والراغب حيث قال:(هي التزكية)«2» .
وأخرج الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» حديثا يومىء إليه، وهو:
«قلت: يا جبريل؛ أيصلي ربّك جلّ ذكره؟ قال: نعم، قلت: ما صلاته؟
قال: سبّوح قدّوس، سبقت رحمتي غضبي» «3» ، وهذا السياق صريح في أن (سبّوح قدّوس) من كلامه تعالى؛ تنزيها لنفسه بنفسه، ولا بعد فيه، وكأنه أعجم على من زعم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم قدّمه تنزيها بين يدي إخباره بصلاته تعالى على عبيده؛ حذرا من أن يتوهّم منه ما لا يليق به تعالى.
واعترض هذا القول «4» بأنه تعالى غاير بينهما بقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ.
وبأن الصحابة رضي الله عنهم لولا فهموا المغايرة بينهما.. ما سألوا عن كيفية الصلاة، مع كونهم علّموا الدعاء بالرحمة في التشهد:(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ، وأقرهم صلى الله عليه وسلم، وإلا.. لقال لهم: قد علمتم ذلك؟!
وبأن (رحم) متعدّ، و (صلى) قاصر، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدي.
وبأنه يستلزم جواز: (رحم عليه) .
(1) الكشاف (3/ 555) .
(2)
مفردات ألفاظ القرآن، مادة (صلا) .
(3)
المعجم الأوسط (114) ، المعجم الصغير (43) .
(4)
أي: القول بأنها الرحمة.
ويجاب بأنه لا مانع من أن الصلاة رحمة خاصة، فلما فيها من ذلك الخصوص غوير بينهما بالعطف.
ثم رأيت الزمخشري صرح بما يؤول لذلك، حيث قال في تفسير الآية:
(الصلاة: الحنو والتعطّف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة أيّ رحمة)«1» .
وبأنه إنما احتيج إلى السؤال عن كيفيتها ليحيطوا بذلك الخصوص، وليس المراد بتفسير (صلّى) ب (رحم) إلا بيان أن المعنى الموضوع له (صلّى) هو الموضوع له (رحم) ، مع قطع النظر عن معنى التعدّي واللزوم؛ فإن الرّديفين قد يختلفان في ذلك، وهو غير ضار، فزعم أن ذلك لا يحسن، وأنه يلزم جواز (رحم عليه) .. ليس في محله، على أنه يحسّن تعدية (صلّى) ب (على) دون (رحم) ما في الأول من ظهور معنى التحنّن والتّعطّف؛ بدليل ما مرّ عن الزمخشري.
ولا يرد على هذا القول عطف الملائكة في: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ إما لما يأتي في معناها من الملائكة، أو لأن الملائكة لمّا كانوا مستجابي الدعوة.. جعلوا كأنهم فاعلون للرحمة والرأفة، قاله الزمخشري «2» ، وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز.
فالأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك، وهو الاعتناء بالمصلّى عليه، كما يأتي عن الغزالي وغيره «3» ، أو إرادة وصول الخير؛ فالله تعالى يريد وصوله إليهم برحمته إياهم، وملائكته يريدون ذلك بالاستغفار لهم.
ولا يرد عليه أيضا إجماعهم على جواز الترحم على غير الأنبياء،
(1) الكشاف (1/ 234) .
(2)
الكشاف (1/ 234) .
(3)
انظر (ص 44) .
واختلافهم في جواز الصلاة؛ لما قرّرته من أن الصلاة أخص، ففيها معنى زائد على مطلق الرحمة، فجازت مطلقا اتفاقا، وامتنعت الصلاة على غير الأنبياء- على قول- رعاية لذلك المعنى الأخص، ومن ثم وجبت بعد التشهد مع اشتماله على الدعاء بالرحمة.
وبهذا إن تأملته يظهر لك أنه لا خلاف في الحقيقة، وأن مال هذا القول والذي قبله إلى شيء واحد، والتخالف بينهما إنما هو في اللفظ فقط؛ إذ لا يسع أحدا أن يقول: إن صلاة الله تعالى على نبيه أو رحمته له صلى الله عليه وسلم بمعنى صلاته على بقية المؤمنين أو رحمته لهم؛ لأن القدر اللائق به صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، فالرحمة وإن شملت الأمرين، لكنها بالنسبة للأنبياء أجل وأرفع، وهذا الأجلّ الأرفع فيه من الخصوص ما ليس في مطلق الرحمة، فخصّ باسم الصلاة، وخصّ اسمها باستعماله في الأنبياء؛ تمييزا له ولهم، وتنويها بشرفه صلى الله عليه وسلم وشرفهم، فافهم ذلك وأعرض عن غيره.
ثم رأيت عياضا ذكر ما يصرح بما ذكرته، حيث قال نقلا عن أبي بكر القشيري:(الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وبهذا التقرير: يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين في أن الله وملائكته يصلّون على النبي، مع قوله قبله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ، ومن المعلوم أن القدر الذي يليق به صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها) اهـ ملخصا
- وقيل: هي الاستغفار، ونقله ابن أبي حاتم عن ابن جبير ومقاتل، وروي عن الضحاك، ورجحه القرافي، وجرى عليه البيضاوي وغيره.