الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفائدة] الثانية:
أصل الصلاة لغة يرجع إلى الدعاء، ومنه قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام: فإن كان صائما..
فليصلّ» «1» ؛ أي: فليدع، كما قاله الأكثرون، وهو: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فالعابد داع كالسائل، وبهما فسّر ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي:
أطيعوني.. أثبكم، أو سلوني.. أعطكم، وبهذا- إن سلّم- اتضح أن اسم الصلاة الشرعية ليس حقيقة شرعية ولا مجازا شرعيّا، بل هو باق على موضوعه اللغويّ، وهو الدعاء بقسميه المذكورين؛ لأن المصلي من تحرّمه إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة لغوية حقيقة، فلا نقل ولا تجوّز، وإنما غاية ما فيه أن الشّارع خصّ لفظها ببعض موضوعه، وهو ذات الأركان، فهو كالدابة لذات الأربع، وهو لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصليّ.
وبيّن الإمام المجد صاحب «القاموس» أن مادة (ص ل و) و (ص ل ي) موضوعة لأصل واحد هو الضم والجمع، وجميع تفاريعها وتقاليبها كيفما تصرّفت وتقلّبت.. راجعة لذلك، وذكر أمثلة ذلك مبسوطة موضّحة، منها:
(الصّلا) أي: وسط الظّهر، أو ما انحدر من الوركين، والانضمام فيهما واضح.
و (صلاه بالنار) : شواه؛ لأنه ينضم وتجتمع أجزاؤه.
و (الصّلاية) لمدقّ الطّيب.
و (المصلّي من أفراس الحلبة) : يجمع مع السابق.
و (الصّلوات)«2» : كنائس اليهود لاجتماعهم فيها.
(1) أخرجه مسلم (1431) ، وابن حبان (5306) ، وأبو داود (2460) ، والنسائي في «الكبرى» (3257) وأحمد (2/ 279) .
(2)
في هامش (ج) : (أصلها في اللغة العبرانية: صلوتا) .
و (المصولة)«1» : المكنسة تجمع الكناسة.
و (الصّيلة) بالكسر: عقدة في العذبة.
و (التّصويل) : كنس نواحي البيدر؛ أي: جمع ما تفرق منها.
و (اللّوص) : اللّمح من خلل باب، أو الانحراف عن الطريق، كأنه طلب الاختفاء والانجماع.
و (الولص) : الانضمام لريبة.
و (الوصول للشيء) : الاجتماع به.
فظهر وجه تسمية ذات الأركان صلاة؛ لما فيها من اجتماع الظاهر والباطن، أو لاشتمالها على جميع المقاصد والخيرات «2» .
وبهذا الذي حقّقه اندفع قول جمع: إن الصلاة مأخوذة من المصلّي، وهو الفرس السابق؛ لأنه يتبع غيره، والمصلّي يتبع الإمام.
ووجه ردّه: أن تبع الإمام ليس أمرا لازما ولا مطّردا فيها، بخلاف الدعاء أو ما يقوم مقامه.
وقول الزمخشري «3» : إنها من الصلوين- بالسكون-: عرقان، وقيل:
عظامان ينحنيان في الركوع والسجود، متفرقان من الصّلا، وهو عرق مستبطن في الظهر، منه يتفرق الصلوان عند عجب الذّنب، وذلك أن المصلي يحرك صلويه، ومنه المصلّي في حلبة السّباق لمجيئه ثانيا عند صلوي السابق.
ووجه ردّه: ما مرّ من قصور هذا المعنى، بل بالغ الرازي في ردّ هذا:
(بأنه يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة؛ لأن لفظ الصلاة من أشد الأشياء شهرة وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، وهذا الاشتقاق من أبعد
(1) في النسخ: (مصول) وهو شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته، والصواب: ما أثبت، والله أعلم.
(2)
الصّلات والبشر في الصلاة على خير البشر (ص 7) .
(3)
أي: واندفع قول الزمخشري؛ عطفا على قوله: (اندفع قول جمع) .
الأشياء شهرة فيما بين أهل النقل، فلو جوّزنا أن مسمّى الصلاة في الأصل ما ذكر، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد.. لجاز مثله في سائر الألفاظ، وبتجويزه ينتفي القطع بأن مراد الله تعالى منها معانيها التي يتبادر الفهم إليها؛ لاحتمال أنها كانت في زمانه صلى الله عليه وسلم موضوعة لمعان أخر، وكان مراد الله تعالى تلك المعاني، إلا أنها خفيت في زماننا واندرست، كما وقع مثله في هذه اللفظة، ولمّا كان ذلك باطلا بإجماع المسلمين.. علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل) اهـ «1»
والحقّ أن هذا لا يلزم الزّمخشريّ؛ لأن المشتق قد يشتهر اشتهارا تامّا ويخفى المشتقّ منه، إذ لا تلازم بينهما في الاشتهار؛ لأن الاشتقاق أمر اعتباريّ لا يعرفه إلا أهل الصناعة، وأمّا تبادر الفهم إلى معنى اللفظ.. فهو أمر بديهيّ يعرفه الخاص والعام بالسّليقة من غير تكلف؛ وحينئذ لا يلزم على كلام الزّمخشري شيء مما ألزمه، وإنما غاية ما فيه: أن شأن المعنى الحامل على الاشتقاق أو المقتضي له الاطّراد، والدعاء هو الأمر الظاهر المطّرد؛ فكان اعتباره في الاشتقاق أولى وأظهر.
وللصلاة معان أخر استعملت فيها، لكنها ترجع إلى ما مرّ كالاستغفار، ومنه:«إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلّي عليهم» «2» أي: أستغفر لهم، كما في رواية أخرى. والبركة، ومنه:«اللهم؛ صلّ على آل أبي أوفى» «3» .
والقراءة، ومنه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ، والرحمة، والمغفرة.
والحاصل: أن معناها يختلف بحسب حال المصلي، والمصلّى له، والمصلّى عليه، كما يأتي قريبا.
(1) التفسير الكبير (2/ 29) .
(2)
أخرجه ابن حبان (3748) ، والحاكم (1/ 488) ، والنسائي في «الكبرى» (2176) .
(3)
أخرجه البخاري (1497) ، ومسلم (1078) .