الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: أنه اقتصر على الشعر لأن الشعر هو الأغلب في كلام العرب.
والآخر: أنه إذا كان يُحتجُّ بالشعر، مع كون الشعر محلّ الضرائر والضيق؛ فالاحتجاج بالنثر من باب أولى وأحرى، وإنما جاز الاحتجاج بكلام الكفار من العرب؛ لأن اللغة العربية عندهم سليقة طُبعوا عليها، وهذا هو مراد الشيخ العز بن عبد السلام في قوله:"لبعد التدليس فيها".
ثم ذكر السيوطي أن العدالة شرط في الراوي، وليست شرطًا فيمن يُحتجّ بكلامه من العرب، فقال:"فعلم أن العربي الذي يُحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة، نعم تشترط -أي: العدالة- في راوي ذلك" انتهى.
فهناك إذًا فرق بين قائل الكلام وراوي الكلام من حيث اشتراط العدالة، وعدم اشتراطها. أما قائل الكلام فلا تُشترط العدالة فيه لماذا؟ لأنه ينطق على سجيَّته، وقد احتجُّوا بكلام الصبيان والمجانين، وأثبتوا به القواعد والكلمات. وأما الراوي فإن العدالة شرط فيه؛ لأنه ناقل كلام غيره، والعدالة أصل في قبول الأخبار. ولما كانت العدالة أصلًا في قبول الأخبار؛ لم يُقبل من الأخبار من انقطع سنده، وهو المرسل، وما لا يُعرف قائله وهو المجهول؛ لأن انقطاع السند والجهل بالناقل يوجبان الجهل بالعدالة.
أحوال الكلام الفرد في الاحتجاج به
إن السيوطي قد لخَّص هذا الموضع من مواضع متفرّقة ذكرها ابن جني في (الخصائص)، وبتأمّل كلام ابن جني نلحظ أن كلمة "الفرد" يُراد بها وصف الكلام حينًا، ويُراد بها وصف المتكلم حينًا آخر، وله أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الفرد صفة للكلام بأن يكون المسموع فردًا ليس له نظير في الألفاظ المسموعة أي: سُمع وحده، ولم يُسمع عن العرب ما يُخالفه، بل
أجمعوا على النطق به، مثال ذلك: قولهم في النسب إلى شنوءة، ومن معانيه المتقزّز مما يُعاب به، يقال في النسب إليه: شنأيٌّ بحذف الواو؛ لأن شنوءة على وزن "فعولة"، فحذفت الواو عند النسب كما حُذفت الياء عند النسب إلى ما كان على وزن "فعيلة"؛ لتساويهما -أي: الواو والياء- في كونهما حرفي مدّ، وفي كونهما بعد عين الكلمة، وفي أن آخر كل وزن منهما تاء التأنيث، وفي أن الوزنين يتواردان فيقال: أثيم وأثوم، ورحيم ورحوم؛ فلما استمرَّت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار، حذفت الواو من شنوءة كما حُذفت الياء من حنيفة، فأطبق العرب على قولهم "شنأيّ" عند النسب، فلم يُسمع خلافه، كما أن هذا المسموع لم يسمع في غير هذه الكلمة، فكان المسموع فردًا.
وحكم هذا النوع أنه يقبل ويُحتج به ويقاس عليه غيره، وعلة ذلك -كما قال العلامة ابن جني-:"أنه لم يأت فيه شيء ينقضه" أي: لم يأتِ فيه شيء آخر، إذ لم يسمع إلا هو. إذًا تُحذف الواو من كل اسم على وزن "فعولة" فيقال -بناء على هذا- في النسب إلى ركوبة وحلوبة: ركبي وحلبي، وإتمامًا للنفع وإكمالًا للفائدة نشير إلى أنه يُشترط في حذف الواو مما على وزن "فعولة" عند النسب ألا تكون العين معلة أو مضعفة، فإن كانت العين معلة لم تُحذف الواو نحو: قوولة، فيقال عند النسب: قُوُولي، وإن كانت العين مضعفة لم تُحذف الواو نحو: حرورة، فيقال عند النسب: حروريّ ببقاء الواو؛ حملًا على بقاء الياء فيما كان على وزن فعيلة نحو: جليلة، إذ يقال في النسب: جليلي.
الحالة الثانية: أن يكون الفرد صفة للمتكلم، وأن يكون المتكلم به من العرب واحدًا مخالفًا لما عليه الجمهور، ولم يردْ استعمال هذا اللفظ إلا من جهة هذا الإنسان، ولا يمكن الحكم بقبوله أو ردِّه إلا إذا نظرنا في حال هذا المتكلم، ولا يخرج حاله عن أمرين، أي: عن أحد أمرين؛ لأنه إما أن يكون فصيحًا في غير
الموضع الذي خالف فيه الجمهور، أو أن يكون غير ذلك، ولكلٍّ حكم. فإن كان هذا المتكلم فصيحًا في جميع ما قال لم يُؤثر عنه لحن، ولم يُعهد عليه خطأ، وكان الكلام الذي انفرد به مما يقبله القياس اللغوي؛ فحكمه حينئذٍ الحكم بصحته، لقول ابن جني الذي نقله السيوطي:"فإن الأولى في ذلك أن يُحسن الظن به -أي: بالمتكلم- ولا يُحمل على فساده"، وقد يعترض هذا القول متعرض فيقول: إن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه جمهور العربي فيه ارتجال لغة لنفسه غير معهودة، ولا يجوز ذلك، فكيف يمكن قبوله. وقد افترض ابن جني هذا الاعتراض، وأجاب عنه بأن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه الجمهور ليس ارتجالًا للغة، وإنما يُمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها، وعفى رسمها، ولم يصل إلينا مما قالته العرب إلا أقلُّه؛ فقد يكون هذا الفصيح المتفرّد بالكلام قد وصل إليه من لغات العرب ما لم يصل إلى غيره من العرب، وإن كان المتكلم المخالف للجماعة قد عَرف الناس لحنه، وعهدوا منه فساد كلامه؛ فحكمه أن يُردَّ القول الذي تفرد به، وألا يُسمع منه.
يقول ابن جني: "هذا هو الوجه، وعليه ينبغي أن يكون العمل، فإن قيل: ولم لا يكون قوله الذي تفرَّد به منقولًا عن لغة أخرى لم تصل إلى غيره، كما قيل في حال من عُرفت فصاحته؟
أجيب بأن هناك فرقًا بين من عُرفت فصاحته ومن عُرف فساد قوله، فإن من عرفت فصاحته كان حسن الظن به أولى، فقُبل ما تفرَّد به؛ لاحتمال أنه قد وصل إليه من لغة أخرى. أما من عرف فساد قوله فإنه يُحكم بردِّ ما تفرد به؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب ما رددنا خطأً أبدًا لمجيء ذلك الاحتمال فيه، ولأن المدار في الخطأ والصواب على الظواهر.
والحالة الثالثة: أن يكون الفرد صفة للمتكلم، وأن يكون المتكلم به من العرب واحدًا، ولا يُسمع من غيره لا ما يُوافقه ولا ما يُخالفه.
فالفرق بين هذه الحالة والتي قبلها أن المتكلم في الحالة السابقة قد خالف ما عليه جمهور العرب، أما المتكلم في هذه الحالة فقد تفرَّد في شيء لم يرد عن العرب لا ما يوافقه ولا ما يخالفه. والحكم عن هذه الحالة متوقف على معرفة المتكلم، فإن كان المتكلم فصيحًا ثبتت فصاحته؛ وجب قبول كلامه ولا يجوز ردُّه.
وقد أفرد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا في الشيء يُسمع من العربي الفصيح لا يُسمع من غيره؛ فقيد السماع الفرد بأن يكون صادرًا عن عربي فصيح، وذكر من أمثلته: الجبر، ومعناه: الملك، في قوله:
اسلم براوُوق حبيت به
…
وانعم صباحًا أيُّها الجبر
ومن أمثلته أيضًا: البابوس، ومعناه: ولد الناقة، في قوله:
حنت قلوصي إلى بابوسها جزعًا
…
فما حنينك، أم ما أنت والذِّكَر
بكسر الذال وفتح الكاف جمع ذكرة بكسر فسكون، وهي الذكرى بمعنى التذكر، ومن أمثلته أيضًا: المأنوسة، ومعناه: النار، في وقوله:
كما تطاير عن مأنوسة الشَّرَرُ
فهذه أحرف من الغريب الذي قال عنه الأصمعي فيما نقله ابن جني: "لا أعلم أحدًا أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي" انتهى.
وحكم هذا النوع: أنه يجب قبوله لما ثبت من فصاحة ابن أحمر، فيكون الذي تفرَّد به إما أن يكون شيئًا أخذه عمَّن نطق به بلغة قديمة لم يُشارك في سماع ذلك منه، أو شيئًا ارتجله، أي: اخترعه وجاء به من عنده، وليس عجيبًا أن يرتجل الأعربي الفصيح ما لم يُسبق إليه؛ فقد حُكي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان
ما لم يسمعاه، أو ما لم يُسبقا إليه، فقبل ما ارتجلاه، ولا يُقبل إلا من فصيح، يقول ابن جني:"لكن لو جاء شيء من ذلك عن ظنين، أو متهم، أو من لم ترقَ به فصاحته، ولا سبقت إلى الأنفس ثقته؛ كان مردودًا غير متقبل" انتهى.
ومعنى ما قاله ابن جني، ونقله السيوطي: هو أن قبول الفرد مقيَّد بفصاحة المتكلم.
ونختم ببيان حكم الكلام الفرد الذي يُخالفه كلام العرب، ويأباه القياس على كلامها، فنقول: نقل السيوطي عن ابن جني قوله: "إن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها؛ فإنه لا يُقْنَع في قبوله أن يُسمع من الواحد ولا من العدة القليلة، إلا أن يكثر من ينطق به منهم" انتهى.
ومعنى هذا الكلام: أنه إذا ورد عن بعض المتفردين كلامٌ يُخالف معهود العرب في كلامها، وكان أيضًا مخالفًا لقياس العرب؛ وجب ردُّه، ولم يجز قبوله، فإن كان على قياس كلام العرب قُبل؛ لقول المازني:"ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"، هذا إذا كان المتكلم واحدًا أو عدة قليلة. أما إذا كثر الناطقون بما خالف قياس العرب في كلامها، فإن الكلام الفرد يكون مقبولًا غير مردود مع ضعفه من جهة القياس، وطريق جوازه أمران:
أحدهما: أن يكون المتكلم به لم يُحكم قياسه.
والآخر: أن يكون المستمع قد قَصُرَ عن استدراك وجه صحته.
وقد ذكر ابن جني: "أنه يُحتمل أن يكون المتفرد قد سمع كلام الفرد من غير فصحاء، ثم دخل غير الفصيح في الفصيح من الكلام، وامتزج به امتزاجًا"، ولكنه ضعَّف هذا الاحتمال بقوله:"إلا أن هذا كأنه متعذِّر، ولا يكاد يقع مثله، وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عُدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يَبْهَأ بها" انتهى.
ونقل السيوطي كلام ابن جني، وغيَّر "يَبْهَأ" إلى "يَعْبَأ"، ونبَّه الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم محقق (الاقتراح) -طيب الله ثراه- إلى هذا التغيير؛ موضحًا أن عبارة ابن جني معناه: لم يأنس بها، فهي أنسب من عبارة السيوطي.
ونخلص مما سبق إلى أن الفصيح إن تكلَّم بكلام قُبل منه كلامه، ولم يُردَّ عليه، ويُحمل أمره على ما عُرف من حاله وإن خالف القياس مشيًا على الظاهر الذي هو مناط الأحكام، ولذلك قاسه ابن جني على قبول القاضي شهادة من دارت عدالته، وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به؛ لأن القاضي إنما أُمر بحمل الأمور على ما تبدو، وإن كان في المغيب غيره. انتهى.
فإذا لم يجزْ للقاضي أن يشكّ فيمن ظهرت عدالته؛ وجب على متلقي اللغة أيضًا ألا يشكَّ فيمن ظهرت فصاحته؛ لأن الشك لو تسرَّب إليه لأدى ذلك إلى ترك الفصيح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.