الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونفى ابن جني أن يكون الشعراء المحتج بشعرهم كانت ضرورتهم أقوى من ضرورتنا، وكان عذرهم فيه أوسع من عذرنا، اعتمادًا على أنهم كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا من غير تمهل وترفق فيه ومراجعة له كما يفعل الشعراء المولدون.
وأوضح أن الشعراء المحتج بشعرهم ليس جميع شعرهم مرتجلًا؛ بل كان منهم من يترسَّل ويتمهَّل كالشعراء المولدين، ومن هؤلاء: زهير بن أبي سلمى، ومروان بن أبي حفصة؛ كما أن من المولدين من يرتجل -أي: فتساوى الآخرون بالأولين- وكما لا يقاس على الشاذ نطقًا لا يقاس عليه تركًا؛ فقد أوضح ابن جني أنه إذا كان الشيء شاذًّا في السماع مطردًا في القياس تحاميت -أي: تجنبت- ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله.
ومثَّل لذلك بترك استعمال ماضي الفعلين "يذر"، و"يدع"؛ فلا يقال:"وذر" أو "ودع" لترك العرب إياهما استغناء عنهما بـ"ترك"، ولا مانع من استعمال نظيرهما المطِّرد في الاستعمال والقياس كـ"وزن" و"وعد" وإن لم تسمع أنت هذا النظير؛ فالشذوذ في الترك والنطق مقصور على محله لا يتجاوز لغيره.
جوازُ القياس على القليل
ذكر السيوطي أنه ليس من شرط المقيس عليه: الكثرة؛ فقد يقاس على القليل لموافقته للقياس، ويمتنع على الكثير لمخالفته له، وما أورده السيوطي هنا منقول عن (الخصائص) ذكره ابن جني تحت عنوان: باب في جواز القياس على ما لا يقل ورفضه فيما هو أكثر.
ومن أمثلة القياس على القليل الموافق للقياس: قولهم في النسب إلى شنوءة: شنأيٌّ، ولم يرد في النسب إلى فعولة غير هذه الكلمة؛ فهي بذلك تعد كل
المسموع في النسب إلى هذا الوزن؛ فلك أن تقيس عليها ما لم يسمع فتقول في النسب إلى ركوبة -وهي ما يركب من الدواب-: ركبيٌّ، وإلى حلوبة -وهي الناقة المعدة للحلب-: حلبيٌّ، وإلى "قتوبة" وهي الناقة التي يوضع عليها القتب -وهو الرحل الصغير الذي يجلس عليه الراكب-: قتبِيٌّ قياسًا على "شنأيّ" إجراء لما كان على وزن فعولة مجرى ما كان على وزن فعيلة؛ لمشابهته إياه من أربعة أوجه:
- فكلاهما ثلاثي -أي: مكون من ثلاثة أحرف- وثالثه حرف لين وآخره تاء تأنيث، ويتواردان على معنى واحد -أي: يأتي أحدهما مكان الآخر- نحو أثيم وأثوم، ورحيم ورحوم، ومشِيٌّ ومشوٌّ، والأصل فيهما: مشييٌ ومشويٌ، ونهيٌّ عن الشيء ونهوٌّ، والأصل فيهما: نهييٌ ونهويٌ، فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار؛ جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة؛ فكما قالوا "حنفيٌّ" قياسًا قالوا "شنأيٌّ" أيضًا قياسًا، قال ابن جني: قال أبو الحسن -يعني: الأخفش-: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد -يعني: في كلمة واحدة وهي كلمة شنوءة- قال: فإنه جميع ما جاء.
وعلق ابن جني على رد الأخفش مبديًا إعجابه بهذا الرد قائلًا: وما ألطف هذا القول من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف، والقياس قابله ولم يأتِ فيه شيء ينقضه، فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء وكان أيضًا صحيحًا في القياس مقبولًا؛ فلا غرو ولا ملام. انتهى.
والمعنى: أنهم عدوا كلمة: شنأيٌّ، هو كل ما سمع عن العرب في النسب إلى الكلمة التي على وزن فعولة؛ فهي كل المسموع أو كل المنقول وكل الوارد عن
العرب، وهو في الوقت نفسه موافق للقياس؛ فلا مانع من القياس عليه، ويعد هذا القياس صحيحًا مقبولًا؛ فلا غرو ولا ملام على القائل به.
ومن أمثلة ما لا يجوز القياس عليه مع كونه واردًا عن العرب أكثر من "شنأيّ" لمخالفته للقياس: قولهم في النسب إلى ثقيف وقريش وسليم: ثَقَفيٌّ وقُرشِيٌّ وسلَميٌّ، قال ابن جني: فهذا، وإن كان أكثر من شنأيّ؛ فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس؛ فلا يجوز على هذا في سعيد: سعَديٌّ، ولا في كريم: كرَمِيٌّ. انتهى.
وابن جني أشار بما سبق إلى ما ذكره سيبويه في (الكتاب) نقلًا عن شيخه الخليل: أن كل شيء عدلته العرب -أي: حادت به ورجعت به عن طريق القياس- تركته على ما عدلته عليه العرب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.