الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمثال الرابع: ذهب جمهور النحويين إلى أنه لا يجوز استعمال أسماء الإشارة موصولات، وخالف في ذلك الفرَّاء وبعض البصريين، فأجازوا استعمالها موصولات مستدلِّين بقول القائل:
عدس ما لعباد عليك إمارة
…
نجوت وهذا تحملين طليقُ
فزعموا أن هذا اسم موصول، وأن التقدير: والذي تحملينه طليق. ولا دليل في هذا البيت على جواز استعمال أسماء الإشارة موصولات؛ لأن البيت يحتمل أوجهًا أخرى من التخريج، وهي:
أن يكون اسم الإشارة على أصله، وأن يكون قوله:"تحملين" جملة في موضع الحال، والتقدير: وهذا محمولًا -أي: حالة كونه محمولًا- طليق.
وأن يكون الاسم الموصول محذوفًا للضرورة والتقدير: وهذا الذي تحملين طليق.
وأن يكون قوله تحملين صفة لموصوف محذوف تقديره: وهذا رجل تحملين طليق. وقوله: عدس: اسم لزجر البغل ليسرع.
ومما سبق يتبيَّن أنه لا يجوز الاستدلال بدليل من الأدلة إلا إذا كان نصًّا على القاعدة لا يحتمل توجيهًا آخر.
رواية الأبيات بأوجه مختلفة
إن تعدُّد الروايات في البيت الواحد من الظواهر الشائعة في كتب النحو، وهو أثر من آثار الرواية الشفهية، فقد يكون للبيت الواحد روايتان فأكثر، وربما لا يكون لهذا الاختلاف أثرٌ في إثبات القاعدة النحوية أو نفيها، كما في قول الشاعر:
ألا عِمْ صَبَاحًا أيها الطلل البالي
…
وهل يعي من كان في العصر الخالي
فقد استشهد النحاة بهذا البيت على أن "مَنْ" اسم موصول استُعمل لغير العاقل، وهو الطلل، وفي البيت رواية أخرى وهي:"وهل ينعمن"، ولا أثر لهذا الاختلاف على الشاهد، فالشاهد ما زال كما هو. ونظير ذلك قول الشاعر:
عدس ما لي عباد عليك إمارة
…
نجوتُ وهذا تحملين طليق
فقد استشهد بعض النحاة بهذا البيت على أن اسم الإشارة هذا يُستعمل اسمًا موصولًا -كما سبق- ورُوي أول عجز هذا البيت بلفظه: نجوت، كما روي بلفظ: أمنت، ولا أثرَ لهذا الاختلاف بين الروايتين في موضع الشاهد الذي من أجله سِيقَ هذا البيت في كُتب النحاة.
وقد يكون الاختلاف بين روايتي البيت مؤثرًا في إثبات القاعدة، أو في تأييد مذهب نحوي وردِّ مذهب آخر -كما سيجيء بيانه-.
ويعنينا الآن أن نقف على أسباب التعدد في رواية الأبيات؛ إذ ذكر السيوطي أن لهذا التغيير سببين -عندما سُئل عن ذلك قديمًا- فأجاب: "باحتمال أن يكون الشاعر أنشد مرة هكذا، ومرة هكذا"، ثم رأى السيوطي ابن هشام ذكر في كتابه المسمى (تخليص الشواهد)، الذي شرح فيه شواهد شرح (الألفية) أن عَجُزَ قوله:
فلا مزنة وَدَقَتْ ودقها
…
ولا أرض أَبْقَلَ إبقالها
روي بالتذكير يعني: بتذكير الفعل أبقل، ورُوي أيضًا بالتأنيث مع نقل حركة همزة إبقالها إلى تاء التأنيث وإسقاط الهمزة أي: برواية: ولا أرض أبقلت إبقالها. وذكر ابن هشام أنه إن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير؛ صح الاستشهاد به على الجواز من غير الضرورة، وإلا فقد كانت العرب يُنشد بعضُهم شعرَ بعضٍ، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فُطر عليها، ومن هنا تكثَّرت الرواية في بعض الأبيات. انتهى.
وخلاصة كلام السيوطي:
أن هناك سببين لتعدُّد الروايات:
أحدهما: أن يكون الشاعر المنسوب إليه هذا البيت أو ذاك، هو الذي غيَّر في شعره وبدَّل بأن ذكر البيت أولًا برواية، وذكره مرةً أخرى برواية ثانية، ولا يضيره ذلك؛ لأن الشاعر بفصاحته يتلاعب بمقولاته، فينشدها كيف أراد، وهذا هو السبب الذي تَبادر إلى ذهن السيوطي حين سُئل عن ذلك، وهو أيضًا السبب الذي ذكره ابن هشام احتمالًا.
والآخر: أن يكون التغيير من صنع الرواة لا من صنع الشعراء؛ لأن العرب كان يُنشد بعضُهم بعضًا، فتعدَّدت الروايات بتعدُّد الرواة؛ لأن كل الرواة كانوا من الفصحاء، ولا تقدح رواية في رواية، أي: لا ترد الرواية الرواية الأخرى.
ونلحظ في كلام السيوطي:
أنه يميل إلى ما ذكره ابن هشام، وهو أن التغيير من صنع الرواة لا من صنع الشعراء، وهذا هو السبب الأقرب إلى القَبول لقول ابن ولَّاد في ردِّه على المبرد:"الرواة قد تغير البيتَ على لغتها، وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها، ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد". فحصل ابن ولَّاد السبب في أمر واحد، وهو تصرف الرواة.
وهناك سبب ثالث لم يذكره السيوطي أدَّى إلى تعدُّد الروايات في البيت الواحد، وهو أن يكون هذا التعدد لا من صنع الشعراء ولا من صنع الرواة، وإنما من صنع المشتغلين بدراسة البيت من النحويين وغيرهم، وقد عُرف المبرد بتغيير الروايات حتى قال عنه علي بن حمزة البصري:"واستشهاره بتغيير الروايات يغنينا عن التماس الحجج عليه". انتهى.
وقد أشار السيوطي إلى أن البيت إذا رُوي بروايات مختلفة فربما يكون الشاهد في بعض هذه الروايات دون بعضها، ولم يذكر السيوطي مثالًا لذلك، ونذكر هنا ثلاثة أمثلة تدلُّ على أن الشاهد قد يكون في بعض الروايات دون بعضها الآخر:
المثال الأول: ذكر النحويين أن الأصل في "كان" إذا كان معمولاها معرفة ونكرة؛ فالمعرفة هو الاسم، والنكرة هو الخبر، ولا يجوز العكس أي: لا يجوز أن يكون الاسم هو النكرة والخبر هو المعرفة، إلا في ضرورة الشعر، ومنه قول الشاعر:
قفي قبل التفرق يا ضباع
…
ولا يك موقف منك الوداع
فاسم يك نكرة وهو موقف، والخبر معرفة وهو الوداع؛ لضرورة الشعر. وفي البيت رواية أخرى وهي:
................................
…
ولا يك موقفي منك الوداع
ولا شاهدَ في البيت على هذه الرواية؛ لأن موقفي معرفة بإضافته إلى الضمير، كما أن الخبر معرفة أيضًا.
والمثال الثاني: اختلف النحويون في تقديم التمييز على عامله المتصرف، فمذهب الكوفيين -واختاره المازني والمبرد- أنه يجوز أن يتقدم التمييز على عامله المتصرف فيقال: نفسًا طابَ زيد، ويستدلون على ذلك بقول الشاعر:
أتهجر ليلى بالفراق حبيبها
…
وما كان نفسًا بالفراق تطيب
فنفسًا تمييز، وقد تقدم على عامله المتصرف تطيب، على هذه الرواية، ومذهب البصريين -عدا المبرد-: أنه لا يجوز أن يتقدم التمييز على عامله المتصرف، ويرْوُون هذا البيت برواية أخرى، إذ يقول الزجاج الرواية:
.................................
…
وما كان نفسي بالفراق تطيب
ولا شاهدَ في البيت على هذه الرواية.
والمثال الثالث: يذكر بعض النحاة أن لعل يكون حرف جر في لغة عقيل، ويستشهدون بقول الشاعر:
فقلت ادعو أخرى وارفع الصوت جهرة
…
لعل أبي المِغوار منك قريب
بجر أبي المغوار، وفي البيت رواية أخرى وهي:
..................................
…
لعل أبا المغوار منك قريب
أبا: اسم من الأسماء الستة منصوب بالألف على الرواية الأخيرة، فكأن لعل على بابها، فهي أخت من أخوات إن تنصب المبتدأ وترفع الخبرَ.
وقد وصف أبو زيد الأنصاري هذه الروايةَ بأنها الرواية المشهورة التي لا خلافَ فيها، ولا شاهد في البيت على هذه الرواية -أي: الأخيرة-.
ونختم بأن نُشير إلى أنه إذا تعارضت روايتان لبيت واحد بأن كانت إحداهما تثبت حُكمًا نحويًّا، والأخرى تنفي هذا الحكمَ؛ فإن ابن جني رحمه الله قد دعا إلى تحكيم القياس بين هاتين الروايتين، فقال:"فرواية برواية، والقياس بعدُ حاكم".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.