الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(القياس (5))
جوازُ التعليل بعلتين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فاعتمد السيوطي في مسألة جواز تعليل الحكم بعلتين على النقل من كتابي (الخصائص) و (لُمع الأدلة) فذكر نقلًا عما أورده ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في حكم المعلول بعلتين، ذكر من أمثلة هذا الباب: قولهم: "هؤلاء مسلميَّ"؛ فإن الأصل: "مسلموي"؛ فقلبت الواو ياءً لأمرين، كل واحد منهما على حدته موجب للقلب من غير احتياج إلى الآخر:
أحدهما: اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بسكون.
والآخر: أن ياء المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها لمناسبتها؛ فوجب قلب الواو ياءً وإدغامها في الياء ليمكن كسر ما قبل ياء المتكلم؛ فهذه علة غير العلة الأولى في وجوب قلب الواو ياء.
ومن المعلول بعلتين أيضًا قولهم: "سِيٌّ" في "لا سيما"، والسيُّ: هو المثل والنظير، تقول: أتقن علوم العربية؛ ولا سيما النحوِ، أو ولا سيما النحوُ، والمعنى: ولا مثل النحو، أو وبخاصة النحو، وسِيٌّ أصله: سِوْيٌ؛ قلبت الواو ياء إن شئت؛ لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة، وإن شئت لأنها ساكنة قبل الياء؛ فهاتان علتان اثنتان:
إحداهما: كعلة قلب ميزان، وأصله: مِوْزان، والأخرى كعلة: طَيّ ولَيّ، مصدري: طوَيْتُ ولوَيْتُ، وأصل المصدرين: طوْيٌ ولوْيٌ، وكل من هاتين العلتين مؤثرة على حدة في القلب.
كما ذكر السيوطي نقلًا عن (الخصائص): في باب عنوانه: باب في تقاوض السماع وتقارع الانتزاع: أنه قد يكثر الشيء؛ فيسأل عن علته كرفع الفاعل
ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء وآخرون إلى غيره؛ فيجب إذًا تأمل القولين واعتماد أقواهما ورفض الآخر؛ فإن تساويا في القوة لم ينكر اعتقادهما جميعًا؛ فقد يكون الحكم الواحد معلولًا بعلتين.
ونقل السيوطي عن أبي البركات الأنباري أنه ذكر في (لمع الأدلة): أن العلماء اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين فصاعدًا؛ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز؛ لأن هذه العلة -أي: النحوية- مشبهة بالعلة العقلية، والعلة العقلية لا يثبت الحكم معها إلا بعلة واحدة، أي: لأنها مؤثرة، ولا يوجد أثر واحد لمؤثرين؛ فذلك ما كان مشبهًا بها.
وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يعلل بعلتين فصاعدًا، وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل ينزل منزلة الجزء من الفعل بعلل متعددة:
الأولى: أنه تسكن له لام الفعل إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، نحو: ضربت وضربنا وضربن.
والثانية: أنه يمتنع العطف عليه إذا كان ضميرًا متصلًا بينه وبين ما عطف عليه بشيء؛ كالفصل بالضمير المنفصل مثل: لقد اجتهدتَ أنتَ وإخوانُك؛ فما بعد الواو معطوف على الضمير المرفوع المتصل الواقع فاعلًا في محل رفع، وصح ذلك للفصل بالضمير المنفصل -وهو: أنت- والضمير المرفوع المستتر في ذلك كالضمير المتصل، ومن ذلك قول الله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) فـ"زوجك" معطوف على الضمير المستتر في {اسْكُنْ} ، وصح ذلك للفصل بالضمير المنفصل أنت أيضًا؛ وإنما اشترط الفصل لأن الضمير المرفوع المتصل أو المستتر كالجزء من عامله لفظًا ومعنًى ولا يعطف على جزء الكلمة؛ فإذا فصل بينه وبين ما عطف عليه بفاصلٍ ما حصل له نوع من الاستقلال.
والثالثة: وقوع الإعراب بعده في الأمثلة الخمسة؛ فنقول: الطلاب يجتهدون، ولم يقصروا ولن يقصروا؛ فواو الجماعة في الأفعال الثلاثة المذكورة ضمير رفع؛ لأنها فاعل، والفعل الأول مرفوع بثبوت النون، والثاني مجزوم بحذفها، والثالث منصوب بحذفها كذلك؛ فإعراب الثلاثة وقع بعد الضمير، ومن المعلوم أن الإعراب إنما يكون في أواخر الكلم؛ مما يدل على أن الضمير المرفوع عد كالجزء من الفعل وكأن آخر الفعل ما بعده.
والرابعة: اتصال تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل أو نائبه مؤنثًا.
والخامسة: قول العرب في النسب إلى كنت: كُنتيٌّ؛ فاعتبروا كان واسمها وهو ضمير مرفوع متصل كلمة واحدة؛ فألحقوا بآخرها علامة النسب، وهي: الياء المشددة؛ كقول الشاعر:
فأصبحت كنتيًّا وأصبحت عاجنا
…
وشر خصال المرء كنت وعاجن
فقوله: "كنتيٌّ" معناه: أن يقول: كنت أفعل في شبابي كذا، وكنت في حداثتي أصنع كذا، والعاجن: هو الذي أسن فلا يستطيع القيام إلا إذا اعتمد على يديه من شدة ضعفه؛ فأجروا ضمير الرفع مجرى الدال من "زيد"، وكأنهم نبهوا بهذا على قوة اتصال الفعل بهذا الضمير المتصل به؛ وأنهما قد حلَّا جميعًا محل الجزء الواحد.
والسادسة: قولهم "حبذا" من نحو: حبذا زيدٌ، يعني أنهم ركبوا "حب" وهو فعل، مع اسم الإشارة "ذا"؛ فصار بمنزلة اسم واحد حكم على موضعه بالرفع على الابتداء، وهو ظاهر مذهب الخليل وسيبويه -كما في (الكتاب)، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الاسمية.
والسابعة: قولهم: لا أحبذه، أي: لا أقول له مادحًا إياه: حبذا؛ فلا نافية، وأحبذ فعل مضارع فاعله ضمير مستتر تقديره أنا، والهاء مفعوله، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الفعلية.
والثامنة: إبدالهم تاء الضمير طاء في قولهم: فحصْطُ برجلي، وأصله: فحصت؛ فشبهوا تاء الفاعل بتاء افتعل؛ كاصطبر، وأصله: اصتبر؛ فأبدلت التاء طاء لتجانس الصاد في الإطباق، والإطباق: هو أن ترفع في النطق أطراف لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له؛ فيفخم نطق الحرف، وحروف الإطباق هي: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء.
قال ابن جني في (سر صناعة الإعراب): "ووجه شبه تاء فعلتُ بتاء افتعَلَ: أنها ضمير الفاعل وضمير الفاعل قد أجري في كثير من أحكامه من الفعل مجرى بعض أجزاء الكلمة من الكلمة وذلك لشدة اتصال الفعل بالفاعل". انتهى.
فهذه ثماني عِلَل عُلِّلَ بها حكم واحد مما يدل على جواز تعدد العلل لحكم واحد في العربية؛ قال الأنباري في (لمع الأدلة) بعد إيراده هذه العلل وغيرها: وتمسكوا -أي: مجيزو التعدد- في الدلالة على جواز ذلك بأن هذه العلة ليست موجبة؛ وإنما هي أمارة ودلالة على الحكم، وكما يجوز أن يستدل على الحكم بأنواع من الأمارات والدلالات؛ فكذلك يجوز أن يستدل عليه بأنواع من العلل.
وعقب الأنباري بقوله: وهذا ليس بصحيح، وقولهم: إن هذه العلة ليست موجبة وإنما هي أمارة ودلالة.
قلنا: ما المعني بقولكم إنها ليست موجبة؟!
- إن عنيتم أنها ليست موجبة كالعلل العقلية كالتحرك لا يعلل إلا بالحركة أو العالمية لا تعلل إلا بالعلم فمسلم؛ وإن عنيتم أنها غير مؤثرة بعد الوضع على الإطلاق فلا نسلم؛ فإنها بعد الوضع أصبحت بمنزلة العلل العقلية؛ فينبغي أن تجري مجراها. انتهى.