الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) كلام الأنباري باختصار غير مخلٍّ؛ لأن الغاية التي سعى إليها هي بيان الاستدلال بالعكس، وأنه لما لم يكن المبتدأ منصوبًا مع قيام الخلاف به أيضًا دل عدم نصبه على أن الخلاف لا يكون موجبًا للنصب في الظرف وإلا فإن كون الخلاف عاملًا في أحدهما دون الآخر تحكم وترجيح بلا مرجح؛ فكان عكس الحكم دليلًا على نفيه.
ونختم الحديث ببيان رأي البصريين في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا في نحو ما تقدم إكمالًا للنفع وإتمامًا للفائدة؛ فنقول:
ذهب جمهور البصريين إلى أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو فعل مقدر، والتقدير عندهم: زيد استقر أمامَك، وعمرو استقر وراءَك، وذهب بعضهم إلى أن عامل النصب اسم فاعل، والتقدير: زيد مستقر أمامَك، وعمرو مستقر وراءَك، والقول بتقدير الفعل أولى من القول بتقدير اسم الفاعل؛ لأن اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، والفعل هو الأصل في العمل؛ فلما وجب تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل -وهو الفعل- أولى من تقدير ما هو الفرع فيه -وهو اسم الفاعل.
الاستدلال ببيان العلة
إن السيوطي قد اعتمد في مادة هذا الدليل على ما أورده أبو البركات الأنباري في الفصل الرابع والعشرين من كتابه (لمع الأدلة) وعنوانه: ما يلحق بالقياس من وجوه الاستدلال، وذكر في هذا الفصل: أن الاستدلال ببيان العلة هو أحد أدلة النحو غير الغالبة، وجعله مما يكثر التمسك به، وعليه عوَّل السيوطي في كتابه (الاقتراح) تعويلًا كاملًا؛ إذ نقل كلام الأنباري الذي ذكر فيه: أن بيان العلة قد يكون دليلًا يُستدَل به ويعتمد عليه عند الخلاف في إثبات حكم من الأحكام
النحوية أو نفيه؛ فيكون وجود العلة دليلًا على وجود الحكم ويكون عدمها دليلًا على نفي الحكم وعدم وجوده، وذكر أن الاستدلال ببيان العلة يكون على وجهين:
أحد هذين الوجهين: أن يبين علة الحكم ويستدل بوجودها في موضع الخلاف؛ ليوجد بها الحكم.
والثاني: أن يبين علة الحكم ثم يستدل بعدمها في موضع الخلاف؛ ليعدم الحكم
…
انتهى.
ومعنى ما قاله الأنباري ونقله عنه السيوطي: أن المستدل يكثر تمسكه بهذا الدليل -وهو بيان العلة- في مواضع الخلاف؛ فيثبت حكمًا وينفي آخر، يثبت بوجود علته وينفي آخر لانتفاء علته؛ إذ إن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا؛ لأنه كلما وُجدت العلة وُجد ذلك الحكم وإن انتفت العلة انتفى الحكم.
وإذا كان الأنباري قد ذكر أن الاستدلال ببيان العلة يكون من وجهين وهما: إثبات الحكم، ونفيه؛ فإنه قد مثل لكل وجه منهما بمثال:
أما الوجه الأول -وهو الاستدلال بوجود العلة على وجود الحكم- فمثاله: أن يستدل من أعمل اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي فيقول: إنما عمل اسم الفاعل في محل الإجماع لجريانه على حركة الفعل وسكونه، وهذا جارٍ على حركة الفعل وسكونه فوجب أن يكون عاملًا
…
انتهى.
ولتوضيح هذا المثال الذي ذكره الأنباري نقول: إنه لا خلاف بين النحاة في إعمال اسم الفاعل إذا كان للحال أو للاستقبال؛ لأنه في هذه الحالة يكون موافقًا للفعل الموافق له في اللفظ -وهو الفعل المضارع- يكون موافقًا له أيضًا في المعنى -وهو الزمن: الدلالة على الحال أو الاستقبال- فإن كان اسم الفاعل بمعنى
الماضي فقد ذهب جمهور النحويين من البصريين والكوفيين إلى أنه لا يجوز إعماله؛ فلا يجوز: "هذا ضاربٌ زيدًا أمسِ"؛ بل يجب أن يقال: "هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ"، بالإضافة على سبيل الوجوب؛ لأنه فقد الشبه بالفعل المضارع في المعنى.
وخالف في ذلك الكسائي وحده؛ فأجاز إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي، ويجوز لمن يرى إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي -كالكسائي ومن سار على دربه واتبع نهجه- أن يستدل على صحة رأيه ببيان العلة؛ فيقول: إن العلة التي من أجلها عمل اسم الفاعل عمل فعله: هي أنه يساوي فعل المضارع في حركاته وسكناته؛ فقولنا: يضرب، يساوي قولنا: ضارب، في الحركات والسكنات، وقولنا: يضرب، يساوي قولنا: ضارب، في الحركات والسكنات أيضًا
…
وهكذا؛ فهو جارٍ على الفعل في حركاته وسكناته، وهذه العلة موجودة في اسم الفاعل، أي: أنه يجري على حركات المضارع وسكناته، يوافقه في حركاته وسكناته؛ سواء أكان بمعنى الماضي، أم كان بمعنى الحال، أم كان بمعنى الاستقبال، وإذا كان الأمر كذلك صح أن يعمل اسم الفاعل عمل فعله في الزمن الماضي لوجود العلة فيه؛ وبذلك يكون بيان العلة دليلًا يثبت به حكم من الأحكام، وهو: إعمال اسم الفاعل في الماضي.
وإذ انتهينا من معرفة أن بيان العلة يكون بيانًا يثبت به إعمال اسم الفاعل في الماضي؛ يحسن بنا أن نشير إلى أن الراجح في هذه المسألة هو مذهب الجمهور، وأن مذهب الكسائي مرغوب عنه؛ لأن اسم الفاعل قد عمل عمل فعله لمجموع أمرين؛ وهما: المعنى، والشبه له من جهة اللفظ؛ فقولنا: هذا مكرمٌ عمرًا غدًا؛ فـ"مكرمٌ" بمنزلة "يكرم" في المعنى؛ بحيث يمكن إحلال الفعل "يكرم" محله، والمعنى -أي: من ناحية الزمن- يكون واحدًا، وهو مثله في اللفظ أيضًا، لا فرق
بينهما في الحركات والسكنات والأصول والزيادة؛ إلا أن الفعل أحد أحرف المضارعة، والأول من اسم الفاعل هو الميم المضمومة، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل؛ لأنك إذا قلت:"هذا ضاربٌ زيدًا أمس"، كان في معنى "ضرب" وليس مثله في اللفظ لا في الحركات ولا في السكنات ولا في عدد الحروف.
وأما الوجه الثاني: وهو الاستدلال بنفي العلة على نفي الحكم؛ فمثاله: أن يستدل من أبطل عمل "إنْ" المخففة من الثقيلة؛ فيقول: إنَّما عملت "إنَّ" الثقيلة لشبهها بالفعل، وقد عدم هذا الشبه بالتخفيف؛ فوجب ألا تعمل.
ولتوضيح هذا المثال الذي ذكره الأنباري نقول: إن "إنَّ" المثقلة من الأحرف الناسخة التي تنصب المبتدأ اسمًا لها وترفع الخبر خبرًا لها، ولا خلاف بين النحويين في إعمالها وهي مثقلة، وقد ذكر النحويون أن علة إعمال "إنَّ" وأخواتها: شبهها بالفعل من جهتي اللفظ والمعنى، وأن أهم أوجه الشبه: أنها موضوعة على ثلاثة أحرف كما أن أغلب الأفعال كذلك، وأنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي كذلك، وأنها تلزم الدخول على الأسماء كما أن الأفعال كذلك، وأنها تدخل عليها نون الوقاية مثل: إنني، وكأنني، ولكنني
…
إلى آخره، والفعل كذلك، تقول: أفهمني، وعلمني
…
إلى آخره، وأنها يتصل بها المضمر المنصوب ويتعلق بها كتعلقه بالفعل؛ تقول: إنه، وإنها، وإنك، وإنني، كما تقول: أكرمته، وأكرمتها، وأكرمتك، وأكرمتني، وأن فيها معاني الأفعال؛ فمعنى "إنَّ" و"أنَّ": حققت، ومعنى "كأنَّ": شبهت، ومعنى:"لكنَّ": استدركت، ومعنى "ليت": تمنيت، ومعنى "لعل": ترجيت؛ فإذا خففت جاز فيها وجهان: