الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرابع: أن يكون "الطيب" اسم ليس، و"المسك" مبتدأً، وخبره محذوف، والتقدير: ليس الطيب إلا المسك أفخره، والجملة في موضع خبر ليس.
وهذه التأويلات كلها مردودة والذي يردُّها ويبطلها ما نقله أبو عمرو بن العلاء، من أن الرفع لغة لقوم من العرب، إذ قال:"ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا تميمي إلا وهو يرفع، فما جاء لغةً لبعض العرب كان التأويل فيه غير مستساغ".
الاحتمالُ يسقط الاستدلال
إن الدليل هو ما يُستدلُّ به على إثبات قاعدة ما، والمراد به هنا الشواهد السماعية التي يذكرها النحاة دليلًا على صحة القواعد التي يقعدونها، والمذاهب التي ينتمون إليها.
وقد حرص النحاة على أن يذكروا لكل قاعدة دليلًا من الكلام الفصيح؛ تأييدًا لها، ويُشترط في الشاهد شروط متعددة؛ منها:
أن يكون البيت معلومَ القائل أو مرويًّا عن ثقة كسيبويه، وأن يكون قائله من الذين يُحتج بكلامهم، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
ومنها: أن يكون البيت نصًّا في القاعدة لا يحتمل وجهًا آخرَ، فإن احتمل البيت وجهًا آخر كان الاستدلال به ساقطًا. وقد نقل السيوطي عن أبي حيان قوله:"إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال". والمعنى: أن النحوي إذا استدلَّ بشاهد ما على قاعدة ما نُظر في هذا الشاهد، فإن كان لا يحتمل إلا الوجهَ الذي من أجله ساقه هذا النحوي؛ كان دليلًا مقبولًا يصح الاستشهاد به، وإن كان يحتمل الوجه الذي من أجله ساقه النحوي ويحتمل غيره؛ كان الاستدلال به
ساقطًا غيرَ مقبول؛ لأن الاحتمال إذا دخل دليلًا من الأدلة أكسبه ثوب الإجمال، فأضعفه عن مقام الاستدلال، كما ذكر شُرَّاح (الاقتراح).
وتُعَدّ هذه القاعدة من أكثر القواعد التي يستخدمها النحاة في الرَّدِّ على ما لا يرتضونه من الآراء والأقوال.
والأمثلة على استخدام هذه القاعدة كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في كتب العربية، ونكتفي هنا بذكر أربعة أمثلة ذكر السيوطي أحدها في (الاقتراح):
المثال الأول: ذكر العلماء من اللغات في الأخ لغة القصر، والمراد بها إلزامه الألف دائمًا في حالات الرفع والنصب والجر، فيقال: هذا أخاك، ورأيت أخاك، ومررت بأخاك، ومنه قولهم: مُكره أخاك لا بطل. والقياس أن يكون بالواو، وما قاله العلماء في هذا الشأن مسلَّم؛ فالقصر إحدى اللغات الثلاث الواردة في الأخ من الأسماء الستة، وقد أراد ابن مالك الاستدلال على هذه اللغة، فاستدل بقول الشاعر:
أخاك الذي إن تَدْعُهُ لِمُلِمَّة
…
يجبك بما تبغي ويكفيك من يبغي
والظاهر وجه استدلال ابن مالك بالبيت وقوع أخاك فيه مبتدأ، ومجيؤه على لغة القصر بالألف، وما ذكره ابن مالك من كونه في البيت المذكور مبتدأً على لغة القصر لا يتعيَّن؛ لأنه يمكن أن يكون جاريًا على اللغة الفاشية، وأن يكون منصوبًا بإضمار فعل، والتقدير: الزم أخاك يعني: أنه أسلوب إغراء، ولذلك أسقط أبو حيان هذا الدليل فقال:"ولا دليل فيه؛ لأنه يحتمل أن يجوز أن يكون منصوبًا بإضمار فعل والتقدير: الزم أخاك، وإذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال". انتهى.
والمثال الثاني ذهب جمهور النحويين إلى أن اسم الفعل لا يجوز أن يتقدَّم معموله عليه، فلا يقال: زيدًا عليك، وإن جاز أن يتقدَّم معمول الفعل عليه فيقال: زيدًا
الزم؛ لأن اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، والفروع أبدًا تنحطُّ عن درجات الأصول، وزعم بعضهم جواز ذلك مستدلِّين بقول الشاعر:
يا أيها المائح دلوي دونك
…
إني رأيت الناس يحمدونك
المائح: هو الذي ينزل البئر عند قلَّة مائها؛ ليملأ منها الإناء، ووجه الاستدلال بالبيت إعراب دلوي معمولًا لاسم الفعل دونك، وقد تقدَّم المعمول عليه مما يدلّ على جواز أن يتقدم معمول اسم الفعل عليه، لكن الجمهور أبطلوا الاستدلال بهذا البيت على ذلك لماذا؟ لأنه ليس نصًّا في جواز إعمال اسم الفاعل متأخرًا؛ إذ إنه يحتمل أوجهًا أخرى غير الوجه الذي ذكره المستدلّ به، فيحتمل أن يجوز أن يكون دلوي: مبتدأ، ودونك: يكون اسم فعل فاعله مستتر فيه وجوبًا، والجملة في محل رفع خبر، ووقوع الخبر جملة طلبية سائغ، ويحتمل أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذه دلوي، ويحتمل أن يكون معمولًا لفعل محذوف، والتقدير: خذ دلوي. فلما كان البيت محتملًا هذه الأوجه الظاهرة؛ لم يكن فيه دليل على أن معمول اسم الفعل يتقدم عليه.
والمثال الثالث: ذهب جمهور النحويين إلى أنه لا يجوز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، وخالف الأخفش في ذلك، فأجاز أن يُبدَل الظاهر من ضمير الحاضر مستدلًّا بقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
…
حميدًا قد تدرجت السنام
فأعرب حُميدًا بدلًا من الياء في: فاعرفوني، ولا حجة في البيت؛ لاحتمال أن يكون "حُميدًا" منصوبًا بإضمار فعل على المدح، كأنه قال: أعني حميدًا، أو أمدحُ حميدًا. وتدرجت السنام: بمعنى: علوت السنام، وهو من الذروة -أو الذروة بالكسر والضم-.