الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا نقليًّا -أي: لا مقتصرًا فيه على التراكيب المنقولة عن العرب- لتعذر ذلك بخلاف اللغة -يعني: مفردات الألفاظ- فإنها وضعت وضعًا نقليًّا لا عقليًّا، أي: ولذلك قال ابن فارس اللغوي: وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها. انتهى.
ومن ثم لا يجوز القياس في اللغة؛ بل يقتصر على ما ورد به النقل؛ ألا ترى أن القارورة -وهي: وعاء من الزجاج تحفظ فيه السوائل- سمي بذلك لاستقرار الشيء فيها، ولا يسمى كل مستقر فيه قارورة؛ وكذلك سميت الدار دارًا لاستدارتها، ولا يسمى كل مستدير دارًا.
وختم الأنباري هذا الرد بقوله: فلو قلنا إن النحو ثبت نقلًا لا قياسًا وعقلًا؛ لأدى ذلك إلى رفع الفرق بين اللغة والنحو، وإلى التسوية بين المقيس والمنقول، وذلك مخالف للعقول. انتهى.
حلُّ شُبَهٍ تُوردُ على القياس
ذكر أبو البركات الأنباري تحت هذا العنوان في الفصل الثاني عشر من (لمع الأدلة) ثلاث شبه واعتراضات لإمكان ورودها من المنكر للقياس، وأتبعها بذكر الجواب عليها، وقد صدر هذا الفصل بقوله: اعلم أن لمنكر القياس أن يقول: الاعتراض على ما ذكرتموه من القياس من ثلاثة أوجه:
أما مضمون الوجه الأول من الاعتراضات أو الشبه في ضوء ما ذكره أبو البركات الأنباري: فهو لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه -يعني: كما هو مقتضى القياس- لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه.
ومثل لذلك بمثالين يتضح من خلالهما مفهوم هذا الاعتراض:
أولهما: أنه ليس حمل الاسم المبني لشبه الحرف على الحرف في البناء بأولى من حمل الحرف لشبه الاسم على الاسم في الإعراب، يعني: أنكم تقولون: إن الاسم بني لشبهه بالحرف؛ فجعلتم الحرف هو الأصل في البناء وحملتم عليه الاسم بحكم ما أوردتموه من أوجه الشبه، ومع إقراركم بوجود هذه الأوجه بينهما لم تكملوا المعادلة ليكون الحرف معرَبًا حملًا له على الأصل في الإعراب وهو الاسم بحكم الشبه؛ لمنافاة ذلك للواقع اللغوي؛ فقياسكم إذًا غير مطرد.
والمثال الثاني: ليس منع الاسم من الصرف -أي: من التنوين- حملًا له على الفعل لشبهه به بأولى من تنوين الفعل حملًا له على الاسم بحكم هذا الشبه؛ ومع ذلك لا ينون الفعل مما يدل على بطلان قياسكم الاسم على الفعل.
والوجه الثاني من الاعتراضات على القياس: أنه إذا كان القياس حمل الشيء على الشيء بضرب من الشبه؛ فما من شيء يشبه شيئًا من وجه إلا يفارقه من وجه آخر؛ فإن كان وجه المشابهة يوجب الجمع -يعني: يوجب الجمع بين المقيس والمقيس عليه في الحكم ومد حكم المقيس عليه إلى المقيس- فوجه المفارقة يوجب المنع -أي: يوجب منع مد الحكم من المقيس عليه إلى المقيس- وليس مراعاة ما يوجب الجمع لوجود المشابهة بأولى من مراعاة ما يوجب المنع لوجود المفارقة.
ومن أمثلة ذلك: ما لم يسمَّ فاعله؛ فإنه وإن أشبه الفاعل من وجه فقد خالفه وفارقه من وجه آخر فإن كان وجه المشابهة يوجب القياس -أي: قياس ما لم يسمَّ فاعله على الفاعل في الأحكام التي كانت للفاعل- فإن وجه المفارقة يوجب منع القياس.
والوجه الثالث من الاعتراضات: أنهم قالوا: لو كان القياس جائزًا؛ لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الأحكام؛ لأن الفرع قد يأخذ شبهًا من أصلين مختلفين إذا حُمل على كل واحد
منهما وجد التناقض في الحكم، وذلك لا يجوز؛ مثال ذلك:"أنْ" الخفيفة المصدرية تشبه أصلين مختلفين تشبه "أنَّ" المشددة من وجه وتشبه ما المصدرية من وجه، و"أنَّ" المشددة معملة؛ فهي تنصب المبتدأ وترفع الخبر و"ما" المصدرية غير معملة؛ فلو حملنا "أنْ" الخفيفة المصدرية على "أنَّ" المشددة في العمل وعلى "ما" المصدرية في ترك العمل؛ لأدى ذلك إلى أن يكون الحرف الواحد معملًا وغير معمل في حال واحدة، وذلك محال.
وبعد انتهائه من الاعتراضات الثلاثة السابقة أورد الأجوبة عليها على النحو الآتي:
أما قولهم في الوجه الأول: "إنه لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه؛ لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه"؛ فظاهر الفساد؛ وذلك لأن الاعتبار في كون أحدهما محمولًا على الآخر أن يكون المحمول خارجًا عن أصله إلى شبه المحمول عليه، أي: أن يكون المقيس خارجًا عما هو الأصل في بابه إلى شبه المقيس عليه؛ فالمحمول -وهو المقيس- صار أضعف لخروجه عن أصل بابه إلى شبه المحمول عليه وهو المقيس عليه؛ والمحمول عليه أقوى؛ لأنه باقٍ على أصله ولم يخرج إلى شبه المحمول؛ فلما وجب حمل أحدهما على الآخر كان حمل الأضعف على الأقوى أولى من حمل الأقوى على الأضعف.
وعلى هذا الاعتبار يخرج ما ذكرتموه من حمل الاسم على الحرف في البناء دون حمل الحرف على الاسم في الإعراب.
وبيان ذلك: أن الاسم لما خرج عما هو الأصل في بابه وهو الإعراب ضعُف في بابه؛ في حين أن الحرف لم يخرج عما هو الأصل في بابه -وهو البناء- فلم يضعف؛ فكان حمل الاسم على الحرف في البناء لضعفه في بابه ونقله عن أصله
أولى من حمل الحرف على الاسم في الإعراب؛ لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله.
وينطبق هذا الاعتبار كذلك على ما لا ينصرف؛ فالاسم لما خرج عن أصله إلى شبه الفعل لوجود علتين فيه من العلل التسع التي يجمعها بيتان من الشعر، وهما:
جمع ووصف وتأنيث ومعرفة
…
وعُجمة ثم عدل ثم تركيبُ
والنون زائدةٌ من قبلها ألفٌ
…
ووزنُ فعلٍ وهذا القول تقريبُ
وهاتان العلتان إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى؛ أو لوجود علة واحدة تقوم مقام العلتين، لما خرج الاسم عن أصله وأشبه الفعل في ذلك؛ ضعُف في بابه، والفعل لما لم يخرج عن أصله قوي في بابه؛ فلما وجب حمل أحدهما على الآخر كان حمل الاسم على الفعل في عدم التنوين لضعفه في بابه وخروجه عن أصله أولى من حمل الفعل على الاسم في دخول التنوين؛ لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله.
ولا خلاف في أنه ليس الأصل في الاسم أن يكون فيه علة من هذه العلل التسع؛ لأنها كلها فروع كما أن الفعل فرع، فإذا اجتمع منها علتان في اسم؛ علمنا أنه قد خرج إلى شبه الفعل.
وقد أوضح الأنباري في كتابه (أسرار العربية) معنى كون العلل التسع المذكورة فرعًا فقال: فإن قيل: ومن أين كانت هذه العلل فروعًا؟ قيل: لأن وزن الفعل فرع على وزن الاسم، والوصف فرع على الموصوف، والتأنيث فرع على التذكير، والألف والنون الزائدتان فرع؛ لأنهما تجريان مجرى علامة التأنيث في امتناع دخول علامة التأنيث عليهما، والتعريف فرع على التنكير، والعجمة فرع
على العربية، والجمع فرع على الواحد والعدل فرع؛ لأنه متعلق بالمعدول عنه، والتركيب فرع على الإفراد؛ فهذا وجه كونها فروعًا. انتهى.
قال الأنباري في (لمع الأدلة) رادًّا على الاعتراض الثاني: وأما قولكم في الوجه الثاني: إن القياس حمل الشيء على الشيء بضرب من الشبه وما من شيء يشبه شيئًا من وجه إلا يفارقه من وجه آخر؛ فإن كان وجه المشابهة يوجب الجمع فوجه المفارقة يوجب المنع؛ فظاهر الفساد أيضًا.
وأوضح الأنباري سبب فساد هذا الاعتراض: وهو أنه إنما يجب القياس عند اجتماع المقيس مع المقيس عليه في معنًى خاصٍّ -وهو معنى الحكم أو ما يوجب غلبة الظن- والافتراق في ما عدا ذلك لا يؤثر في جواز الجمع، وبناء عليه؛ يخرَّج ما مثلتم به وهو قياس ما لم يسمَّ فاعله على الفاعل في الرفع؛ فإنه وإن كان يشابهه من وجه ويفارقه من وجه؛ إلا أن الوجه الذي يوجب القياس من المشابهة أولى من الوجه الذي يمنع من جواز القياس من المفارقة؛ لأن المعنى الموجب للقياس من المشابهة: هو الإسناد، وهو المعنى الخاص الذي هو معنى الحكم في الأصل، وأما المعنى الموجب لمنع القياس من المفارقة؛ فليس بمعنى الحكم ولا أثر له فيه بحال؛ فلهذا كان القياس أولى من منعه.
وأبطل الأنباري الاعتراض الثالث الذي يتضمن تأدية القياس إلى تناقض الأحكام بأنه ظاهر الفساد كسابقيه؛ لأن المقيس لا يلحق بكلا المشبه بهما المختلفين، وإنما يلحق بأقواهما وأكثرهما شبهًا، ومن هنا؛ فإن "أنْ" الخفيفة المصدرية تلحق بـ"أنَّ" المشددة المصدرية لا بـ"ما" المصدرية؛ لأن الأولى أكثر شبهًا بها من الثانية لمشابهتها لها لفظًا ومعنًى دون الثانية التي تشبهها معنى فقط.