الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحق بذلك؛ فلما نصب المبتدأ بـ"إنَّ" وجب أن يكون رفع الخبر أيضًا بها؛ إذ ليس في كلام العرب شيء يعمل النصب في الأسماء ولا يعمل الرفع، ومن المحال ترك القياس ومخالفة الأصول بغير فائدة.
ومعنى ما سبق: أن الكوفيين قد استدلوا على صحة مذهبهم بالقياس، وهو أن "إنَّ" فرع عن الفعل في العمل، والفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصول؛ كما استدل البصريون على صحة مذهبهم بالقياس أيضًا: وهو أنَّ "إنَّ" وأخواتها قد أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى؛ كما أوضحنا من قبل؛ فلما قوي شبهها بالفعل والفعل يرفع وينصب وجب أن تكون مثله، وقد تعارض القياسان، ورجح الأنباري مذهب البصريين بالقياس؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا وهو يعمل الرفع أيضًا.
تعارض القياس والسماع
وقد أفرد له ابن جني في (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في تعارض السماع والقياس، ويعد التعارض بين السماع والقياس صورة من صور التعارض بين الأدلة النحوية، ومعناه: أن يؤدي قياس النحويين إلى حكم من الأحكام، وأن يؤدي السماع عن العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم إلى حكم آخر يخالف الحكم الذي أدى إليه القياس، وقد عوَّل السيوطي في هذا الباب على ما ذكره ابن جني الذي يقول: إذا تعارضا -أي: السماع والقياس- نطقتَ بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره، وذلك نحو قوله تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (الحشر: 19)؛ فهذا ليس بقياس لكنه لا بد من قبوله؛ لأنك تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم، ثم إنك من بعد لا تقي عليه غيره فلا تقول في استقام: استقوم، ولا في استباع: استبيع، انتهى.
وقد نقله السيوطي بتصرف يسير جدًّا، ومعنى قول ابن جني:"إذا تعارضا" يعني: إذا اقتضى كل منهما خلاف الحكم الذي يقتضيه الآخر؛ فلا بد في هذه الحالة من قبول المسموع عن العرب والإقرار بفصاحته والاقتصار عليه؛ لكن دون قياس غيره عليه؛ لأنه مخالف للقياس.
ومما سمع من ذلك وهو مخالف للقياس مثل: {اسْتَحْوَذَ} من قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فإن القياس يقتضي نقل حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها -وهو الحاء- لأنه حينما تكون الحاء -وهي حرف صحيح- تكون ساكنة في الوقت الذي فيه الواو حرف علة يكون متحركًا فتلك إذا قسمة ضيزى! فيجب -في هذه الحالة- نقل حرف العلة إلى الحرف الساكن الصحيح قبل هذا الحرف -وهو الحاء.
ثم يقال: تحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها الآن؛ فتقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ فكان القياس أن يقال: استحاذ؛ هذا ما كان يقتضيه القياس؛ لكن جاء السماع بخلافه؛ فتعارض السماع والقياس، والحكم حينئذ هو قبول اللفظ المسموع لورود النص به مع عدم القياس عليه؛ فلا يجوز أن نقيس عليه غيره، يعني: أن نقول مثلًا في استقام: استقوَم؛ لا يجوز أن نقول ذلك مع أنه هو الأصل؛ كما أن الأصل في استباع: استبيَع؛ فهما مثل {اسْتَحْوَذَ} إلا أنه قد سمع {اسْتَحْوَذَ} ولم يسمع استقوَم ولا استبيَع؛ فوجب الاقتصار على ما سمع ولم يجز قياس غيره عليه.
- فإن قيل: فقد جاء عن العرب قولهم: استنوَق الجمل واستتيَستْ الشاة؛ فلم تقلب الواو أو الياء فيهما ألفًا مع وجود شرط القلب، وهو: وقوع كل منهما عينًا متحركة مفتوحًا ما قبلها؛ فكان القياس أن يقال فيهما: استناق واستتاس.
أجيب بأن قولهم: استنوق، واستتيست، من الشاذ، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.