الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعًا: احتج به أبو حيان على رد مذهب الفراء في باب التنازع، هذا المذهب القائل: إذا استوى العاملان في طلب المرفوع فالعمل لهما، وذلك نحو: قام وقعد زيد، ويحسن ويسيء ابناك؛ فهو يرى أن العاملين في كل جملة من الجملتين السابقتين ونحوهما كالعامل الواحد؛ لأن مطلوبهما واحد؛ فرد ذلك أبو حيان بأنه يؤدي إلى عدم النظير؛ إذ لا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في التقدير نحو:"ليس زيد بجبان"، يعني: لا يجوز أن يجتمع عاملان على معمول واحد في اللفظ وإن توجها إليه في المعنى؛ لأن العوامل كالمؤثرات، ولا يجوز اجتماع مؤثرين في محل واحد.
فهذه سبعة أمثلة تدل على عناية العلماء بالنظير واحتجاجهم بعدم النظير.
الاستحسان
إن الاستحسان -في أصله- مصطلح من مصطلحات الفقه وأصوله، وهو أحد الأدلة المختلف فيها عند الفقهاء، وكما اختلف الفقهاء في الأخذ به اختلف النحويون أيضًا في الأخذ به على قولين:
الأول: عدم الأخذ بالاستحسان؛ لأن في الأخذ به تركًا للقياس ومخالفة له.
والثاني: جواز الأخذ به.
وقد حكى القولين أبو البركات الأنباري فقال: في (لمع الأدلة): "اعلم أن العلماء اختلفوا في الأخذ به: فذهب بعضهم إلى أنه غير مأخوذ به لما فيه من التحكم وترك القياس، وذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ به، واختلفوا فيه فمنهم من قال: هو ترك قياس الأصول لدليل، ومنهم من قال: هو تخصيص العلة" انتهى.
ومعنى ما ذكره أبو البركات الأنباري: أن القائلين بجواز الأخذ بالاستحسان قد اختلفوا في حقيقته، فذهب بعضهم إلى أن المراد به هو أن يُترك الأصل إلى غيره لدليل.
وقد ذكر الأنباري أن من أمثلة ترك قياس الأصول مذهب من ذهب إلى أن رافع الفعل المضارع عند تجرده من الناصب والجازم هو حرف المضارعة الزائد في أوله، يعني: أن القائل بذلك قد ترك قياس الأصول؛ لأن حرف المضارعة صار جزءًا من الفعل، والأصول تدل على أن يكون العامل غير المعمول وألا يكون جزءًا منه؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وقد نسب هذا الرأي للكسائي، وقد ترك قياس الأصول لدليل اعتمد عليه، وهو ملازمة هذه الأحرف للمضارع في الأحوال الثلاثة؛ ولم تعمل مع عاملي النصب والجزم لقوتهما عنها.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستحسان، هو: تخصيص العلة، ومعنى تخصيص العلة: عدم اطِّرادها، ومثال تخصيص العلة: ما جاء في جمع أرض جمع مذكر سالمًا بالواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًّا مع أنها ليست علمًا لمذكر ولا صفة له؛ فقد فقدت شروط جمع المذكر السالم لأنها اسم جنس جامد مؤنث؛ وإنما جمعت هذا الجمع؛ فقيل: أرَضون؛ عوضًا من حذف تاء التأنيث؛ لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة؛ بالهاء الدالة على التأنيث؛ لأنها علامة لفظية؛ فهي أصل لتقديرها؛ فلما حذفت التاء في اللفظ مع بقاء معناها جمعت بالواو والنون عوضًا من التاء المحذوفة.
ونلحظ أن هذه العلة غير مطردة؛ فالعرب قد خصصوا هذه اللفظة بجمعها جمع مذكر سالمًا، ولم يسمع ذلك في نظائرها من كل اسم مؤنث حذفت منه تاء التأنيث، نحو: شمس، وقِدر، ودار؛ فإن الأصل في هذه الكلمات الثلاث:
شمسة، وقدرة، ودارة، ولا يجوز أن تجمع بالواو والنون؛ فلا يقال: شمسون، ولا قدرون، ولا دارون؛ لأن هذا الباب سماعي يقتصر فيه على ما ورد ولا يتعداه إلى غيره.
كما نلحظ أن الاستحسان لا يكون إلا عن دليل؛ لأن فيه عدولًا عن القياس ولا يعدل عن القياس إلا بدليل؛ ولذلك نعى الأنباري على من أجاز الاستحسان بلا دليل، وذكر أن القائل بذلك لا يلتفت إلى قوله ولا يعوَّل عليه، وأن ما حكي عن بعضهم من أن الاستحسان هو ما يستحسنه الإنسان من غير دليل فليس عليه تعويل.
وبعد أن عرضنا مذهبي العلماء في الاستحسان نشير إلى أن ابن جني كان ممن يأخذون به وقد أفرد له في (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في الاستحسان، وبيَّن ابن جني في مقدمة هذا الباب أن علة الاستحسان ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضربًا من الاتساع والتصرف، ومع ضعف علته؛ فإن ابن جني ساق كثيرًا من الأمثلة مستدلًّا عليها بالاستحسان؛ وعليه اعتمد السيوطي فنقل في كتابه (الاقتراح) بعض هذه الأمثلة وأعرض عن بعض؛ كما نقل مثالًا عن صاحب (البديع).
ونحن نذكر هنا جميع ما نقله السيوطي في (الاقتراح) ثم نتبعه بمثال مما ذكره ابن جني في (الخصائص) ولم يذكره السيوطي:
المثال الأول: ترك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة؛ كقلب الياء واوًا في نحو: الفتوى، والتقوى؛ فإن الأصل فيهما وفي نحوهما: أن يكون بالياء بأن يقال: فتيا، وتقيا؛ لأن الكلمة الأولى من فتى يفتي، والثانية من وقى يقي؛ ولكن
العرب قد خالفوا هذا الأصل؛ فقلبوا الياء فيهما واوًا من غير علة قوية توجب قلب الياء؛ لأنه يمكن بقاؤها على حالها من غير مخالفة شيء من الأصول؛ وإنما انقلبوا استحسانًا للقلب وإيماءً للفرق بين الاسم والصفة؛ وخصوا الاسم بالإعلال لأنه أخف من الصفة فكان أحمل للأثقل.
وهذه علة ضعيفة وليست علة معتدة كما قال ابن جني، ووجه ضعفها وعدم اعتدادها: أن الاسم شارك الصفة في أشياء أخرى، ولم يوجب العرب على أنفسهم التفرقة بينهما في جميع ما اشتركا فيه، ومما اشتركا فيه: تكثيرهما على وزن واحد؛ فقد قالوا في تكسير حسن: حسان؛ كما قالوا في تكسير جبل: جبال، فوزن جمع الاسم وجمع الصفة واحد -وهو فِعال- وقالوا في تكسير غفور: غُفُر، كما قالوا في تكسير عمود: عُمُد؛ فلم يختلف وزن الاسم عن وزن الصفة، ومعنى ذلك: أن علة الفرق بين الاسم والصفة علة ليست مطردة؛ فدل ذلك على أنها علة ضعيفة غير مستحكمة؛ لأنها لو كانت مستحكمة لاطَّردت في جميع المواضع.
والمثال الثاني: التنبيه على أن أصل الباب في نحو: {اسْتَحْوَذَ} ، من قوله تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19)، و"أطْوَلْتَ" من قول الشاعر:
صددت فأطْوَلْتَ الصدود وقَلَّما
…
وصالٌ على طول الصدود يدوم
ومطيبة من قولهم: هو مطيبة للنفس.
فقد وجد في هذه الألفاظ الثلاثة ما يقضي بإعلالها فيقال: استحاذ، وأطلت، ومطاب؛ ولكن بقيت الواو في الأولين والياء في الأخيرة بحالها، مع قيام مقتضى الإعلال استحسانًا؛ تنبيهًا على أن الألف في نحو قولنا: استقام، أصله الواو وعلى أن أصل نحو: مقامة، هو مقومة.
والمثال الثالث: بقاء الحكم مع زوال علته؛ فالأصل أن الحكم مرهون بعلته؛ فإن زالت العلة زال الحكم إلا أن يكون في الكلام استحسان؛ فتزول العلة ويبقى الحكم؛ كما في قول الشاعر:
حمًى لا يُحِل الدهر إلا بإذننا
…
ولا نسأل الأقوام عقدَ المياثق
فإن "المياثق" جمع مفرده: ميثاق، والأصل فيه: موثاق، وقد وقعت الواو ساكنة بعد كسرة فقلبت ياء، وقيل: ميثاق، ويجمع على مواثق؛ برد الواو إلى أصلها؛ لأن العلة التي أوجبت قلبها في المفرد قد زالت، وهي: كسر ما قبلها مع سكونها؛ لكن استحسن هذا الشاعر ومن تابعه إبقاء القلب مع زوال العلة؛ فقال في جمعه: "مياثق" بإبقاء القلب، والذي حسَّن بقاء القلب: هو أن الجمع غالبًا تابع لمفرده إعلالًا وتصحيحًا؛ فلما أعل المفرد بقلب الواو ياء وقيل: "ميثاق"؛ أعل الشاعر الجمع تبعًا لمفرده استحسانًا، لا عن علة قوية مستحكمة.
والمثال الرابع: صرف الممنوع من الصرف إذا كان ثلاثيًّا ساكن الوسط نحو: هند، ونوح؛ فالقياس في هذين الاسمين: المنع من الصرف؛ فيمنع الأول من الصرف للعلمية والتأنيث، ويمنع الثاني من الصرف للعلمية والعجمة؛ ولكن هذا القياس قد خولف؛ فصرف هذان الاسمان ونحوهما تخفيفًا؛ فعلة الصرف الاستحسان مع قيام علة المنع، والخفة علة للاستحسان.
المثال الخامس: إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل: فالأصل في نون التوكيد أن تلحق الفعل المضارع، وقد لحقت اسم الفاعل في قول الراجز:
أريتَ إن جئتُ به أُملودا
…
مُرَجَّلًا ويلبس البرودا
أقائلنَّ أحضروا الشهودا