الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الفائدة الفقهية التي أشار إليها السيوطي فهي المعروفة بمهر السّرّ والعلانية، وهي: إذا تزوج رجل امرأة بألف واصطلح على تسمية الألف بألفين، هل الواجب ألف لأنه مقتضى الاصطلاح اللغوي، أو ألفان نظرًا لهذا الوضع الحادث؟ اختلف في ذلك الفقهاء وصحَّحوا كلًّا من الاعتبارين.
وأما الفائدة النحوية فهي النظر في جواز قلب اللغة، فحُكي عن بعض القائلين بالتوقيف منع القلب مطلقًا؛ فلا يجوز تسمية الثوب فرسًا، والفرس ثوبًا، وعن القائلين بالاصطلاح تجويزه. وأما المتوقفون فاختلفوا، فذهب بعضهم إلى التجويز كمذهب قائل الاصطلاح، وبعضهم إلى المنع، وهذا كله فيما لا يؤدّي قلبه إلى فساد النظام، أو تغييره إلى اختلاط الأحكام، فإن أدَّى إلى ذلك فلا يختلف في تحريم قلبه.
مناسبة الألفاظ للمعاني
هدف السيوطي من إيراد هذه المسألة تالية لمسألة الحديث عن وضع اللغة، وواضعها أن يبيّن أن اللغة هي لفظ ومعنًى؛ فاللفظ إطار المعنى، أو هو الصورة التي تُعبّر عن المضمون، فينبغي أن تكون هناك مناسبة بين الألفاظ ومدلولاتها، وقد نقل أهل أصول الفقه عن عباد بن سليمان الصيمري، وهو من المعتزلة أنه ذهب إلى أنه بين اللفظ ومدلوله مناسبة بالطبع، أي: طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال:"وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحًا من غير مُرجح"، وأنكر الجمهور هذه المقالة وقال:"لو ثبت ما قاله لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة، ولما صح وضع اللفظ للضدّين كـ"القرء" للحيض والطهر، و"الجون" للأبيض والأسود"، وأجابوا عن دليل عباد بأن التخصيص بإرادة الواضع
المختار؛ خصوصًا إذا قلنا: إن الواضع هو الله تبارك وتعالى، فإن ذلك كتخصيصه وجود العالم بوقت دون وقت. وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يجمعون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، لكنهم يُخالفون عبَّادًا بأنهم لا يرونها ذاتية دالة بالطبع أو طَبَعِية كما قال، وعلى سبيل الوجوب كما يراها.
وقد ذكر السيوطي المناسبة بين الألفاظ والمعاني نقلًا عن ابن جني الذي عقد لها في كتابه القيم (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني وملخص هذا الباب: أن الواضع الحكيم قد وضع الحرف القوي للمعنى القوي، والحرف الضعيف للمعنى الضعيف، وقد صدره ابن جني بقوله:"اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له، والاعتراف بصحته"، ثم أورد أمثلة كثيرة توضح قوة المناسبة بين اللفظ ومعناه، ومن هذه الأمثلة قول الخليل: كأن العرب توهَّموا في صوت الجُندب استطالة ومدًّا، فقالوا: سرّا، وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر" انتهى.
والجُندُب أو الجُندَب -بضم الجيم وضم الدال أو فتحها، بينهما نون ساكنة-: هو نوع من الجراد أو طائر يقع في النار، ويقال: صر الجندب يصرّ صريرًا أي: صوّت، وفي المثل العربي: يا جندب ما يصرك -أي: ما يحملك على الصرير- قال: أخاف من حرِّ غدٍ. يُضرب هذا المثل لمن يخاف ما لم يقع بعد. والبازي أو الباز: نوع من الصقور التي يصطاد بها، ويقال: صرصر البازي صرصرة، وقال الشاعر:
إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ
…
...........................
وكأنهم تخيَّلوا في صوت الجندب المدَّ، وفي صوت البازي الترجيع؛ فحكوهما على ذلك، وفي (الخصائص): "وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على
الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو: النقذان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدَّاه، ومنهاج ما مثَّلاه، وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضاعفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والصعصعة، والجرجرة، والقرقرة، ووجدت أيضًا الفعلى في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: البَشَكى، والجَمَذى، والوَلَق" انتهى.
فابن جني يفتتح هذا الباب بإيراد ما يدْعَم به مسألة المناسبة بين الألفاظ والمعاني من الأمثلة الدالة على ذلك مما نقله عن شَيْخَي البصرة الخليل وسيبويه، وقد شرحنا ما نقله عن الخليل. أما ما نقله عن سيبويه فكعادته نراه قد تصرَّف فيه، ولقد سبق شيخنا التعلامة الشيخ محمد علي النجار، محقق (الخصائص) طيَّب الله ثراه حين قال:"ويبدو أنه -أي: ابن جني- قد يعتمد في النقل على حفظه فينال نقله بعض التغيير" انتهى.
وعبارة سيبويه في (الكتاب) وليس ابن جني منها ببعيد، سوى في بعض الأمثلة التي لم ترد في نص الكتاب، وتفسير ما جاء في (الخصائص) من أمثلة: أما النقذان فمصدر قولك: نقذ الظبي وغيره في عدْوِه نقذًا ونقذانًا، أو وثب صُعُدا وقفز، والغليان مصدر: غلت القدر وغيرها غليًا وغليانًا، والغثيان مصدر: غثت النفس غثيًا وغثيانًا اضطربت وتهيأت للقيء، ونص سيبويه من (الكتاب) قال:"ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك النزوان، والنقذان، وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، ومثله العسلان والرتكان" انتهى.
والعسلان مصدر: عسل الماء عسلًا وعسولًا وعسلانًا، أي: تحرك واضطرب، والرتكان مصدر: رتك البعير رتكًا وتكانًا أي: عدى في مقاربة خطو. فإذا تركنا ما ذكره الخليل من تعبير العرب بالأفعال التي تحكي صوت ما توهموه من استطالة ومدّ، أو ترجيع وتقطيع، وانتقالنا إلى المصادر التي تجيء على وزن واحد، وهو وزن "فعلان" رأيناها تدور حول معنًى واحد هو: زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، كما ذكر سيبويه.
نوع آخر من المصادر، وهو: مصادر الأفعال الرباعية والمضاعفة التي يتكرَّر فيها حرفان، فنجدها لمعانٍ فيها تكرير، وذلك مثل: الزعزعة، وهي التحريك، وهي مصدر زعزع الشيء -أي: حركه- ومثلها: القلقلة وزنًا ومعنى، والصلصلة مصدر صلصل الشيء أي: صوت صوتًا فيه ترجيع كالجرس، والحلي، والرعد، والصعصعة مصدر صعصع الرجل: خاف واضطرب، وجلب وصاح، وصعصع القوم أي: أفزعهم وفرّقهم، والجرجرة مصدر جرجر البعير أي: ردَّد صوته في حنجوره عند الضجر، والقرقرة مصدر قرقر بطنه أي: صوَّت من جوع أو غيره؛ فجعلوا الوزن المكرر للمعنى المكرر.
ونجد أيضًا وزن "الفعلى" المتوالية المتتابعة الحركات في المصادر والصفات إنما يأتي لمعنى السرعة نحو: الجمذى، يقال: جمذى الفرس ونحوه جمذًا وجمذى: سار سيرًا قريبًا من العدو، والبَشَكى، يقال: ناقة بشكى، وامرأة بشكى: سريعة خفيفة، والولقى يستعمل مصدرًا وصفة يقال: ولق يلق أي: أسرع، والولقى عدوٌ للناقة فيه شدَّة، والناقة السريعة؛ فجعلوا الوزن الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها لكمال المناسبة بين الألفاظ والمعاني.
ووصل ابن جني عرض الأمثلة، فذكر أن من ذلك أيضًا باب استفعل الذي جعلوه في أكثر الأمر للدلالة على الطلب؛ لما فيه من تقدم حروف زائدة على
الأصول، كما يتقدَّم الطلب الفعل، فالأفعال إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها؛ وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مُثُلِهَا الدالة عليها أن تقدّم أحرفًا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها، والمؤدّية إليها نحو: استسقى، واستطعم، واستوهب، واستمنح، واستقدم عمرو، واستصرخ جعفرًا؛ فجاءت الهمزة والسين والتاء في استفعل زوائد، ووردت بعدها الأصول: الفاء، والعين، واللام، فهذا من اللفظ الذي جاء وفق المعنى المراد التعبير عنه، وجعلوا الأفعال الواقعة عن غير طلب إنما تفجأ وتبغت حروفها الأصول نحو: وهب ومنح، أو ما ضارع الأصول نحو: أكرم وأحسن؛ فإن الهمزة وقعت موقع الفاء من الفعل الرباعي، فأشبهت الحرف الأصلي، ومن ذلك أيضًا أنهم جعلوا تكرير العين في البناء دالًّا على تكرير الفعل فقالوا: كسَّر، وقطَّع، وفتَّح، وغلَّق، وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني، فأقوى اللفظ ينبغي أن يُقابل به قوة الفعل، فناسبوا بين المعنى والمبنى، والعين أقوى من الفاء، ومن اللام؛ لأنها واسطة لهما ومكنوفة بهما؛ فصارا كأنهما سياج أي: سور أو جدار لها، ومذهولان للعوارض دونها، يعني: أنهما لكونهما في الطرف معرّضان لما يحدث للكلمة من إعلال ونحوه من غير أن يصل للعين شيء من هذا الإعلال غالبًا، فهما يحميانها من العوارض الإعلالية.
فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب وعد نحو: العدة والزنة؛ لأنهم استثقلوا الوعدة والوزنة، ولأن المصدر قد جرى مجرى الفعل، وأما حذف اللام فنحو: اليد، والدم والفم، والأب، والأخ. وقلما تجد الحذف في العين نحو: مذ وأصله منذ، فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرَّروا أقوى أحرفها، وجعلوا التكرير دليلًا على قوة المعنى المحدث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو: صرصر دليلًا على تقطيعه، ولم يكونوا ليضعفوا الفاء، أو اللام؛ لكراهية التضعيف في أول